اقتصاد / ملفات خاصة اليوم, 22:07 | --

معامل الطابوق مثالا


23% قبل 2003 واليوم أقل من 3% .. الصناعة الوطنية بين الأرقام القاسية والواقع المؤلم

بغداد اليوم – بغداد
لم تكن الصناعة الوطنية في العراق مجرد قطاع اقتصادي عابر، بل كانت في عقود سابقة ركيزة من ركائز الدولة ومصدراً للتنمية والتشغيل والإنتاج. فمن معامل الغزل والنسيج في الحلة والموصل، إلى مصانع الزجاج في الرمادي، ومجمعات الأسمنت في كربلاء والسماوة وسامراء، امتدت شبكة واسعة من المصانع والمعامل التي غطت احتياجات السوق المحلي وصدّرت الفائض إلى الخارج.

لكن هذه الصورة سرعان ما تبددت مع العقوبات الدولية في التسعينيات، ثم انهارت بصورة أوسع بعد عام 2003 حين فُتحت الحدود بلا قيود وأُهملت البنية الصناعية بشكل شبه كامل، فتحولت آلاف المصانع إلى هياكل صامتة بلا إنتاج، فيما غزت الأسواق بضائع مستوردة رخيصة.

تشير البيانات الرسمية إلى أن مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي قبل عام 2003 كانت تقارب 23%، بينما تراجعت بعد 2003 لتتأرجح حول 2% إلى 3% فقط، وهو انهيار بنيوي يعكس عمق الأزمة. كما أظهرت الأرقام أن أكثر من 18 ألف مشروع صناعي توقف خلال العقدين الماضيين، فيما لم يبق من 227 مصنعاً حكومياً سوى نحو 140 تعمل فعلياً، وغالبها بطاقة متدنية. أما في القطاع الخاص، فقد أقفلت أبواب ما يزيد على 37 ألف مصنع منذ 2003، وهو رقم يصفه مختصون بأنه "نزيف صامت" أضاع عقوداً من تراكم الخبرة ورأس المال المحلي.

ورغم تسجيل الناتج الصناعي عام 2023 قيمة بلغت 8.95 مليار دولار بزيادة 24% عن 2022، إلا أن هذه الأرقام لا تعكس نهضة حقيقية بقدر ما تشير إلى محاولات محدودة في بعض القطاعات، إذ يظل حجم الصناعة ضئيلاً أمام احتياجات بلد يفوق تعداد سكانه الأربعين مليون نسمة. محللون يعتبرون أن هذه الزيادة أقرب إلى "ارتداد محدود" من قاع الانهيار، أكثر من كونها مؤشراً على تعافٍ واسع للقطاع الصناعي.

معامل الطابوق مثالا

من بين أبرز الأمثلة على تقادم الصناعة الوطنية، تبرز صناعة الطابوق التي تُعد أساساً لأي عملية إعمار. عضو لجنة الخدمات النيابية، النائب باقر الساعدي، أكد في حديثه لـ بغداد اليوم أن "تقنيات صناعة الطابوق في العراق متقادمة، حيث تعتمد معظم المعامل على آليات عمرها أكثر من قرن". وأضاف أن "الطابوق من المواد المهمة في مسيرة الإعمار، ويشهد ارتفاعاً يصل إلى 20% في مستوى الإقبال عليه في عموم المحافظات، خاصة مع وجود مشاريع بناء وإعمار ووحدات سكنية، ما يزيد الطلب يوماً بعد آخر".

وتابع الساعدي أن "المعامل الحديثة قليلة، وبعضها يعتمد تقنيات قديمة، ولا يمكنها تلبية احتياجات السوق المحلية، مع وجود استيراد كميات كبيرة من الطابوق من دول الجوار". وأشار إلى "وجود خطة لإنشاء معامل حديثة ومتطورة بأحدث التقنيات العالمية، للاستفادة من المواد الأولية المحلية، وتحقيق مرونة عالية في تأمين الطابوق وخفض أسعاره، ما سيسهم في خلق قطاع اقتصادي مهم بجودة أعلى"، متوقعاً أن "تشهد هذه المشاريع النور خلال عام 2026".

ويرى مراقبون أن ما يحدث في صناعة الطابوق ليس سوى انعكاس لحال الصناعة الوطنية بأكملها، إذ تواجه معامل الغزل والنسيج في الحلة والموصل والنجف مصيراً مشابهاً، بعدما كانت تنتج وتصدّر إلى أسواق عربية في ثمانينيات القرن الماضي، لكنها اليوم متوقفة أو شبه معطلة. كما أن معامل الأسمنت التي كانت تشكّل رافعة للبناء في كربلاء وسامراء والسماوة، تراجعت طاقتها الإنتاجية إلى أقل من النصف، فيما غطى الاستيراد من إيران وتركيا العجز المتزايد. الصناعات الغذائية هي الأخرى لم تسلم من التراجع؛ فمعامل الزيوت النباتية والألبان التي اعتمدت عليها السوق المحلية لعقود انهارت، ليحل مكانها منتج أجنبي أرخص وأوفر، تاركة آلاف العمال بلا فرص عمل.

مفارقة صارخة

تاريخ الصناعة الوطنية في العراق يكشف عن مفارقة صارخة. ففي النصف الثاني من القرن العشرين، خصوصاً بين الستينيات والثمانينيات، اعتمدت الحكومات العراقية خططاً تنموية جعلت من الصناعة عماداً للاقتصاد، مدعومة بقوانين حماية جمركية وتسهيلات مصرفية وتوفير الطاقة والمواد الأولية. في تلك المرحلة، كانت المصانع الحكومية والقطاع المختلط تنتج كل شيء تقريباً: من الأقمشة والزيوت والبطاريات، إلى الإسمنت والزجاج والمواد الإنشائية. وكانت مساهمة الصناعة في الناتج المحلي تقارب ربع الاقتصاد، بل إن بعض الصناعات كالنسيج والجلود وجدت لها أسواقاً خارجية في المنطقة العربية.

لكن مع الحصار الدولي في تسعينيات القرن الماضي، تعرضت هذه البنية لضربة قاصمة. توقف استيراد قطع الغيار والمواد الأولية، وتراجعت الصادرات، وبدأت المصانع تعمل بطاقات متدنية أو تغلق أبوابها. ومع ذلك، ظل القطاع الصناعي قائماً بشكل محدود ينتظر فرصة للعودة.

غير أن ما بعد 2003 شكّل نقطة انهيار شاملة، إذ فُتحت الحدود أمام البضائع الأجنبية من دون ضوابط كمركية حقيقية، وتلاشت السياسات الحمائية التي كانت تمنح المنتج الوطني فرصة للمنافسة. مراقبون يرون أن هذا الانفتاح غير المدروس جعل العراق سوقاً استهلاكية مفتوحة، وأفقد الصناعة المحلية قدرتها على المنافسة، في وقت لم تبادر فيه الدولة إلى إعادة تأهيل المصانع أو إدخال تقنيات حديثة. وهكذا تحوّل العراق من بلد منتج يملك قاعدة صناعية واسعة، إلى بلد يعتمد على الاستيراد في أبسط احتياجاته.

تراكم عبر عقود

الواقع الصناعي الحالي يعكس خللاً بنيوياً تراكم عبر عقود، إذ تحوّل العراق إلى سوق مستهلكة لبضائع الدول المجاورة، فيما بقيت المعامل المحلية بلا تحديث. الحكومة تطرح بين حين وآخر خططاً لإعادة تشغيل المصانع أو إنشاء معامل جديدة، لكن التجارب السابقة أظهرت أن الكثير من هذه المشاريع بقي على الورق ولم يتحول إلى إنجاز فعلي، كما يؤكد محللون اقتصاديون.

إن استمرار الاعتماد على الاستيراد مع غياب حماية المنتج الوطني يعني أن أي تحسن في الصناعة سيكون محدوداً ومؤقتاً، خصوصاً إذا لم تقترن الخطط بآليات قانونية صارمة وتسهيلات استثمارية تضمن تحديث التقنيات وتشغيل الأيدي العاملة. ويشير مختصون إلى أن ضعف الرقابة، وغياب استراتيجيات طويلة الأمد، وتغوّل الفساد الإداري والمالي، جميعها عوامل أضعفت فرص النهوض بالقطاع الصناعي.

المشهد، بحسب مراقبين، لا يقتصر على معاناة معامل الطابوق أو النسيج أو الأسمنت، بل هو صورة عامة لإهمال الصناعة ككل، حيث تراجعت مساهمتها في الاقتصاد إلى حدود متدنية لا تعكس حجم بلد كالعراق يمتلك موارد بشرية وطبيعية ضخمة.

في الخاتمة، يبقى السؤال مفتوحاً: هل تشكّل الخطط المعلنة لبناء معامل حديثة وتطوير البنية القائمة بداية لعودة الصناعة العراقية إلى الواجهة، أم أن العراق سيبقى معتمداً على الاستيراد لعقود أخرى؟ بين الأمل والخيبة، تظل الإجابة رهناً بقدرة الدولة على تحويل وعودها إلى واقع، وإرادة سياسية تتعامل مع الصناعة باعتبارها ركيزة سيادية لا مجرد قطاع مهمل.

المصدر: بغداد اليوم+ دراسات سابقة+ تحقيقات صحفية

أهم الاخبار

طهران: تفعيل آلية الزناد لن يضر بالتجارة الإيرانية

بغداد اليوم - متابعة قال حميد قنبري معاون الدبلوماسية الاقتصادية بوزارة الخارجية الإيرانية، اليوم الخميس (28 آب 2025)، في مقابلة خاصة مع وسائل الإعلام، إن تفعيل آلية الزناد لإعادة فرض العقوبات الأممية على إيران "لن يؤثر على التجارة الإيرانية

اليوم, 23:00