سياسة / أمن / ملفات خاصة اليوم, 17:10 | --

إعادة هندسة الحكم


تسوية أمريكية مع الفاسدين وخط أحمر على المناصب السيادية وقاآني يصل بغداد لإنقاذ ما تبقى

بغداد اليوم – بغداد

يتقدم العراق نحو انتخابات تشرين الثاني وسط مشهد سياسي مكتظّ بالتفاهمات الخفية أكثر مما تحكمه صناديق الاقتراع. فبين الأحاديث عن تغيير وجوه السلطة وإصلاح النظام السياسي، تتكشّف ملامح مرحلة جديدة لا تقوم على الصراع العسكري ولا الاحتلال المباشر، بل على هندسة الدولة من الداخل عبر أدوات المال والتسويات، في مشهد يُعيد تعريف مفهوم السيادة في بلدٍ لم يستقر منذ عقدين.

تُظهر تسريبات متقاطعة أن سبعة إلى ثمانية مناصب سيادية أساسية أُدرجت ضمن ما يسمى "الخط الأحمر السياسي"، بحيث لا يُسمح بالاقتراب منها إلا بتفاهم عراقي – أمريكي مسبق، يشمل الرئاسات الثلاث ومواقع أمنية عليا وهيئات رقابية حساسة. ويُقال إن هذا التفاهم يهدف إلى "تحييد الدولة عن الفوضى"، لكنه في جوهره يمثل تكريساً لمرحلة وصاية ناعمة تتقاطع فيها مصالح الداخل والخارج. وفي خلفية هذه التفاهمات، تتنامى إشارات عن مشروع أمريكي لإدارة التحولات العراقية بطريقة مالية لا عسكرية، حيث يتحول المال إلى أداة ضبط سياسية، والاقتصاد إلى ساحة نفوذ صامتة.

وفي خضم هذه التحولات، عادت إيران إلى الساحة بقوة عبر قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني، الذي وصل بغداد قبل أيام وأجرى سلسلة اجتماعات مكثفة مع قادة أحزاب وفصائل نافذة، في محاولة لضبط الإيقاع السياسي داخل البيت الشيعي ومنع واشنطن من الانفراد بالقرار العراقي. الزيارة جاءت في وقت تتكثف فيه المؤشرات على أن واشنطن تمسك بخيوط الاقتصاد، فيما تحاول طهران الحفاظ على نفوذها العقائدي والسياسي، لتتحول البلاد إلى مسرح مزدوج للتحكم الناعم، حيث المال يوازن السلاح، والتسوية توازي النفوذ.

في المقابل، جاء تعيين رجل الأعمال الأمريكي من أصول عراقية مارك سافايا مبعوثاً خاصاً إلى بغداد ليضيف بعداً تنفيذياً لهذه المعادلة. فالمبعوث الذي يوصف في الصحافة الأمريكية بأنه “ملك القنّب في ديترويت”، وصل بمهمة تتجاوز الدبلوماسية التقليدية نحو متابعة ملفات التمويل والنفوذ والتحضيرات للانتخابات المقبلة، وفق ما نقلته مصادر سياسية لـ"بغداد اليوم". تصريحاته الأولى عن “إذابة الفصائل الموالية لإيران وإعادة بناء الشراكة مع بغداد على أساس المصالح” عكست مزيجاً من الرسائل الاقتصادية والتهديدات السياسية، فيما رأى الخبير الأمني صادق عبد الله أن “سافايا يدخل بمهمة مزدوجة: تقليص نفوذ الفصائل، ومراقبة حركة المال السياسي”.

تزامن وصول المبعوث مع مكالمة حادة بين وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، تضمنت مطالبة واضحة بنزع سلاح الفصائل “التي تهدد حياة الأمريكيين والعراقيين وتقوّض سيادة الدولة”. التزامن بين التصعيد الدبلوماسي والتحرك الميداني فُهم في بغداد على أنه بداية مرحلة ضغط أمريكي متعددة المسارات، تعتمد على سياسة "الضغط المزدوج": مكالمة ترسم الاتجاه، ومبعوث يتولى التنفيذ الميداني، في تكرار لأسلوب واشنطن في إدارة ملفات النفوذ دون اللجوء إلى القوة.

أستاذ العلوم السياسية خالد العرداوي قال في حديثٍ لـ"بغداد اليوم" إن "اختيار الرئاسات الثلاث والمناصب الحساسة في الدولة العراقية مرتبط دستورياً بإرادة العراقيين أنفسهم وما تفضي إليه اختياراتهم الانتخابية، لكن الواقع السياسي خلق أعرافاً تتجاوز الدستور، وأبرزها المحاصصة المكوناتية التي فتحت الباب لتدخلات إقليمية ودولية مباشرة في الشأن الداخلي".

وأضاف العرداوي أن "الصراع بين القوى المحلية وغياب الإجماع على مشروع وطني موحد جعلا من القوى الخارجية عاملاً مرجحاً في كل مرحلة حكومية، بل إن بعض الأطراف العراقية باتت تعتبر الاستقواء بالخارج وسيلة لضمان مكاسبها في الداخل"، مشيراً إلى أن "الولايات المتحدة وإيران تتصدران هذا المشهد، فيما تلعب دول عربية وإقليمية أخرى أدواراً ثانوية لا تقل تأثيراً في لحظات.

المصادر التي تحدثت لـ"بغداد اليوم" كشفت أيضا عن عن مبادرة أمريكية غير مسبوقة تتعلق بملف الفساد المالي والإداري، تقوم على مبدأ "الاسترداد مقابل التسوية"، وتسمح للمتورطين بإعادة ثلاثة أرباع ما نهبوه من المال العام مقابل الاحتفاظ بنسبة 20% والمغادرة من المشهد السياسي بهدوء. الفكرة التي وُصفت بأنها "صادمة" في مضمونها تبدو أقرب إلى صفقة لإعادة ترتيب الطبقة الحاكمة أكثر من كونها إصلاحاً اقتصادياً، إذ تُغلق الملفات دون محاسبة، ويُعاد توزيع النفوذ وفق خارطة مالية ترعاها الدبلوماسية الأمريكية.

ويرى الخبير في الشؤون الاستراتيجية محمد التميمي بحديثه لـ"بغداد اليوم"، أن "الولايات المتحدة باتت تتعامل مع الفساد في العراق كأداة نفوذ سياسي، لا كجريمة قانونية"، مؤكداً أن "الأسماء التي تمتلك المال والنفوذ هي ذاتها التي تستطيع تعطيل أي مشروع إصلاحي، ما لم تُحتوَ داخل تسوية جديدة". هذا الفهم البراغماتي للفساد يفتح الباب أمام مفهوم جديد للسلطة، حيث لا يُقصى الفاسد، بل يُعاد دمجه ضمن معادلة الحكم بعد إعادة توزيع الثروة المنهوبة. في المقابل، يرى اقتصاديون أن هذه السياسة قد تؤسس لمرحلة “غسل سياسي ومالي شامل”، يعاد فيها تدوير نفس الطبقة المهيمنة بغطاء أمريكي ودعم خارجي غير معلن.

وفي قراءة مقارنة، يستحضر مراقبون تجربة السعودية عام 2017 حين قاد ولي العهد محمد بن سلمان حملة ضد الفساد انتهت باستعادة أكثر من مئة مليار دولار خلال أشهر. تلك التجربة، رغم قسوتها، بُنيت على مبدأ المحاسبة الصارمة لا التسوية. أما في العراق، فقد خسر البلد أكثر من 700 مليار دولار منذ 2003 بسبب الفساد، دون أن يُسترد سوى جزء ضئيل، في وقتٍ تتحول فيه بعض الدعوات إلى الإصلاح إلى منصّات تفاوض مالي بين الفاسدين والدولة.

الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي يؤكد أن “الفساد في العراق لم يعد فعلاً إدارياً بل أصبح بنية تنتج السياسة وتتحكم بالاقتصاد”، فيما يرى المختص في شؤون مكافحة الفساد سعيد ياسين موسى أن “منظومة العدالة أصبحت جزءاً من اللعبة، إذ يشرف المتورطون أنفسهم على لجان المكافحة”. هذه المفارقة البنيوية جعلت الحديث عن الإصلاح يبدو أقرب إلى إعادة توزيع لمراكز القوة أكثر منه إلى عملية بناء دولة.

تُجمع قراءات متعددة على أن الولايات المتحدة تسعى لتقليص حضورها العسكري مقابل تعزيز سيطرتها المالية على الداخل العراقي، مستخدمةً أدوات القرن الحادي والعشرين: الرقابة، التمويل، والعقوبات الذكية. فالاقتصاد العراقي، كما يصفه الخبير الأمني محمد علي الحكيم، أصبح "الساحة الجديدة للصراع"، حيث تتحول البنوك إلى أدوات نفوذ، والتحويلات إلى رسائل سياسية، وسعر الدولار إلى أداة عقاب أو مكافأة. هذه التحولات لا تشير إلى انسحاب أمريكي من العراق، بل إلى تحوّل نوعي من الاحتلال الصلب إلى الوصاية الناعمة.

في المحصلة، لا يبدو أن العراق مقبل على تغيير جذري في الوجوه أو السياسات، بقدر ما يواجه إعادة ترتيب دقيقة لمراكز القوة تحت إشراف خارجي مزدوج. واشنطن تُعيد ضبط مفاتيح الدولة عبر المال، وطهران تُحافظ على توازنها عبر الولاءات، فيما يبقى الداخل العراقي ساحة مفتوحة لتجريب كل أشكال النفوذ الممكنة. وبين تسوية الفاسدين وتحييد المناصب وتدوير النخب، يُعاد تعريف السيادة في العراق لا بوصفها استقلالاً، بل قدرة على البقاء ضمن ميزان الآخرين دون السقوط الكامل في أحد كفّتيه.


المصدر: قسم الرصد والمتابعة – بغداد اليوم + وكالات

أهم الاخبار

مجلس الوزراء يقر مشروع تأهيل وتطوير وتشغيل مطار بغداد الدولي

بغداد اليوم -بغداد أقر مجلس الوزراء ، اليوم الثلاثاء (28 تشرين الاول 2025)، مشروع تأهيل وتطوير وتشغيل مطار بغداد الدولي، بهدف رفع مستوى الخدمات ومواءمتها مع المعايير الدولية في سلامة وأمن الطيران، ومعالجة تراجع حضور شركات الطيران الدولية، من خلال

اليوم, 19:20