بغداد اليوم - بغداد
لم تعد تجارة المخدرات في العراق مسألة جنائية عابرة، بل تحولت إلى أزمة مجتمعية شاملة تهدد البنية الاجتماعية والنفسية للدولة. فالانتشار المتسارع لهذه الظاهرة انعكس مباشرة على شريحة الشباب، التي تُعد العمود الفقري لأي مجتمع، وأدخلها في دوائر مظلمة من الإدمان والاضطرابات السلوكية. وتشير تقديرات اجتماعية إلى أن تعاطي المخدرات ارتبط في السنوات الأخيرة بارتفاع معدلات الانتحار، وشيوع سلوكيات منحرفة مثل الشذوذ الجنسي والاعتداء على المحارم، بما يكشف أن الأمر لم يعد مقتصراً على تهديد الصحة الفردية، بل مسّ منظومة القيم واستقرار الأسرة العراقية. وفي ظل هذا المشهد، يبرز الفضاء السيبراني كعامل إضافي يعقد المعركة، إذ أصبح الإنترنت المظلم "الدارك ويب" مظلة مفضلة لنشاط المافيات المنظمة، حيث تُدار شبكات ترويج وتجارة يصعب على الأجهزة الأمنية تتبعها، ما يجعل التحدي مركباً بين الميدان والفضاء الرقمي.
أمام هذا الخطر، اعتمد العراق قانون المخدرات والمؤثرات العقلية رقم (50) لسنة 2017، الذي مثّل أول إطار متكامل للجمع بين العقوبات الصارمة من جهة، والتدابير العلاجية والوقائية من جهة أخرى. القانون عزز صلاحيات وزارة الداخلية والمديرية العامة لشؤون المخدرات في ضبط الحدود وتفكيك الشبكات، وفي الوقت ذاته منح وزارة الصحة دوراً محورياً في معالجة المدمنين وتأهيلهم. وفق تقديرات قانونية، فإن هذا القانون شكّل نقلة نوعية مقارنة بالتشريعات السابقة، إذ نقل الملف من كونه قضية عقابية بحتة إلى مشروع وطني ذي أبعاد متعددة.
وقال عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، النائب ياسر إسكندر في حديث لـ"بغداد اليوم"، إن "وزارة الداخلية، عبر تشكيلاتها المتخصصة، نجحت خلال الـ24 شهراً الماضية في رسم استراتيجية وطنية لمكافحة تجارة المخدرات، تعد الأهم منذ عقود"، مضيفاً أن "العراق زوّد عواصم عدة بمعلومات مهمة أسهمت في تفكيك شبكات دولية للاتجار بالمخدرات، إضافة إلى تفعيل قنوات التواصل عبر الخطوط الساخنة لتبادل المعلومات".
هذا الكلام يعكس، بحسب خبراء في الشأن الأمني، تحوّل العراق من موقع المتضرر إلى موقع الفاعل إقليمياً، إذ شملت العمليات المشتركة دولاً مثل بيروت وسوريا والسعودية وإيران، ما أعطى لجهوده بعداً يتجاوز الحدود الوطنية نحو المشاركة في ضبط المشهد الأمني الإقليمي.
أوضح إسكندر أن "هذا التعاون انعكس إيجاباً في الإطاحة بعشرات الأسماء البارزة التي كانت تدير شبكات تهريب وتجارة المخدرات"، مبيناً أن "العراق بات الأكثر نشاطاً على مستوى الشرق الأوسط في هذا الملف، ما انعكس على الداخل بانحسار التهريب والترويج، وتراجع ملحوظ في معدلات الإدمان". وتشير بيانات وزارة الداخلية إلى أن هذه النتائج جاءت بعد تفكيك مئات الشبكات وضبط كميات ضخمة من المواد المخدرة، إضافة إلى تنفيذ عمليات خارجية بالتعاون مع أجهزة أمنية في المنطقة. هذه المكاسب، رغم أهميتها، لم تُلغِ تماماً التحديات الاجتماعية المتفاقمة، إذ يرى مختصون أن معالجة آثار الإدمان في المجتمع لا تزال تتطلب توسعاً أكبر في المصحات والبرامج العلاجية.
وتظهر بيانات وزارة الداخلية العراقية إحصائيات دقيقة عن حجم المواجهة:
تفكيك 224 شبكة بين دولية ومحلية خلال عامين، بينها 20 شبكة دولية.
ضبط أكثر من 5 أطنان من المخدرات والمؤثرات العقلية في الفترة نفسها.
خلال عام 2023 وحده، اعتُقل نحو 14 ألف متهم، وصودرت 360 كغم من المواد المخدرة، وأكثر من 14 مليون حبة مخدرة.
في عام 2022، بلغ عدد الموقوفين قرابة 17 ألفاً، مع ضبط 18 مليون حبة، وإتلاف ما يقارب خمسة أطنان من المواد المخدرة.
أبرز عمليات الضبط شملت مصادرة 24 مليون قرص كبتاغون بقيمة تقديرية بلغت 84 مليون دولار.
وأشار إسكندر أيضاً إلى أن "الانفتاح على إنشاء المصحات المتخصصة ساهم في فتح بارقة أمل لآلاف المدمنين بالعودة إلى الحياة الطبيعية بعد شفائهم". هذا الجانب العلاجي يُعتبر خطوة أساسية في تفكيك دائرة الإدمان، لأنه يعالج جانب الطلب، لا العرض فقط. إلا أن التقديرات البحثية تؤكد أن التوسع في هذه المصحات يجب أن يقترن بخطط تثقيفية ومجتمعية، حتى لا يبقى الشباب عرضة للعودة إلى السلوك المنحرف. فالمخدرات لا تدمر الأفراد فقط، بل تفتح الباب لتفكك البنية الأسرية، وتعيد إنتاج الأزمات الاجتماعية عبر سلوكيات مدمرة تنعكس في ارتفاع نسب الجرائم الأسرية والانتحار والانحرافات الجنسية.
ويرى مراقبون، أن العراق قطع خطوة جوهرية بالانتقال من المواجهة المحدودة إلى استراتيجية وطنية شاملة تتضمن تعاوناً إقليمياً ودولياً، ما جعله أكثر فاعلية في مواجهة تجارة المخدرات. ومع ذلك، تبقى ثغرات ميدانية قائمة عند بعض المنافذ الحدودية، كما لا تزال الحاجة قائمة إلى توسع أكبر في برامج الوقاية والتأهيل. الأثر الاجتماعي للظاهرة، خصوصاً على فئة الشباب، لا يمكن تجاهله، إذ أدى إلى تفاقم الأزمات النفسية والسلوكية وزيادة حالات الانتحار والانحرافات. وفي ظل استغلال الفضاء السيبراني كمنصة محمية للمافيات، صارت المواجهة تتطلب أدوات تقنية واستخباراتية متقدمة توازي الأدوات التقليدية في ضبط الحدود. وإذا استمرت الجهود الحالية وتوسعت لتشمل هذه الأبعاد، فإن العراق قادر على ترسيخ موقعه كحاجز أمني إقليمي، يحوّله من "ممر تهريب" إلى "سور حماية"، شرط أن تتعزز الجهود الأمنية بخطط اجتماعية وثقافية طويلة الأمد.
المعركة ضد المخدرات في العراق لم تعد مجرد حرب على شبكات التهريب، بل صارت مواجهة شاملة مع تهديد يمس الأمن الوطني والمجتمع والأسرة. وإذا كان العراق قد نجح في تثبيت حضوره كقوة إقليمية فاعلة في هذا الملف، فإن النجاح الكامل لن يتحقق إلا إذا أُديرت المواجهة على مستويين متوازيين: ضبط الميدان التقليدي من جهة، وتأمين الفضاء المجتمعي والرقمي من جهة أخرى، بحسب متخصصين.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم – بغداد أعلنت هيئة النزاهة الاتحادية، اليوم الأربعاء (17 أيلول 2025)، ضبط مسؤول في مديرية تربية محافظة صلاح الدين متلبساً بسرقة كتب مدرسية جديدة وبيعها في الأسواق المحلية. وقالت الهيئة، في بيان تلقته "بغداد اليوم"، إن "فريقاً