سياسة / أمن / ملفات خاصة اليوم, 11:00 | --

ما بعد الحرية


حين يصبح النقد جريمة "سنتحسر على أيام الدكتاتور".. العراق يعود إلى زمن الخوف من الكلمة

بغداد اليوم - بغداد

في بلد أنهكته المعارك لعقود، تتبدل الجبهات لكن تبقى الحرب مستمرة. فبعد أن واجه العراق الإرهاب في الميدان، يجد نفسه اليوم في مواجهة مختلفة، تدور رحاها على المنصات لا في المدن. إنها حرب رقمية جديدة، تتقاطع فيها حسابات الأمن مع حدود الحرية، وتتصادم فيها إجراءات “حماية الدولة” مع حق المواطنين في التعبير.

السلطات تتحدث عن “ذراع إلكترونية” لملاحقة ما تصفه بالمنصات السوداء التي تروّج للتطرف والتحريض، لكنّ النتيجة على الأرض تتجاوز التنظيمات المتطرفة إلى أصوات مدنية وإعلامية ناقدة. ما بدأ كمعركة ضد الإرهاب الإلكتروني، يتسع اليوم ليشمل الصحفيين والمدونين والمؤثرين، في مشهد يعيد الجدل حول العلاقة الملتبسة بين الأمن وحرية الرأي في العراق.

عضو لجنة الأمن والدفاع النيابية، النائب ياسر إسكندر، يكشف في حديثه لـ"بغداد اليوم" عن ملامح هذه الحرب الجديدة، قائلاً إن “التنظيمات المتطرفة بمختلف عناوينها استغلت الفضاء الإلكتروني منذ سنوات طويلة في محاولات لخلق ما يعرف بالتجنيد الإلكتروني للشباب والتغرير بهم، إضافة إلى نشر بياناتها وأكاذيبها وجرائمها بحق الأبرياء”، موضحاً أن “استغلال تلك المنصات توسّع بشكل كبير بعد حزيران 2014، حيث تم نشر عشرات الآلاف من المقاطع والبيانات الدعائية عبر آلاف الحسابات”.

ويضيف إسكندر أن “الأجهزة الأمنية تمتلك أذرعاً فنية متخصصة ونشطة تعمل على محاربة تلك الحسابات ضمن مسارات تقنية وقانونية تهدف إلى إنهاء تأثيرها”، مشيراً إلى أن “إنهاء الفضاء الإلكتروني الأسود الذي تمثله منصات التنظيمات الإرهابية لا يزال يشكل جزءاً مهماً من معركة مكافحة الإرهاب والتطرف”.

ويؤكد النائب أن “حماية الشباب وكافة الشرائح من الشائعات والأفكار المتطرفة والإعلام المضلل تُعد أولوية وطنية”، لافتاً إلى أن “الجهات الأمنية تمكنت من إغلاق وإبعاد عدد كبير من الحسابات التي تروّج للتنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم داعش، ضمن إطار تعزيز الأمن القومي للبلاد”.

هذه التصريحات تعكس إدراكاً رسمياً متنامياً بأن معركة “الذراع الإلكترونية” ليست أقل خطراً من المعارك التي خاضتها القوات العراقية على الأرض. غير أن هذا التصعيد في اللغة الأمنية، ترافق مع سلسلة حملات رقمية مثيرة للجدل قادتها جهات أمنية وحكومية، بذريعة مكافحة التطرف، لكنها امتدت لتشمل حسابات صحفيين وناشطين ومنصات إعلامية مستقلة.

في الجهة المقابلة، يتحدث السياسي المستقل طلال الجبوري لـ"بغداد اليوم" عن وجه آخر للصورة، قائلاً إن “الحكومة شرعت خلال الفترة الأخيرة في اتباع سياسة تضييق ممنهجة تجاه المنصات الإعلامية والأصوات الناقدة لأدائها، فكل منصة أو صوت إعلامي يتحدث عن سلبيات الحكومة أو يستضيف شخصيات معارضة أو ناقدة، بات مهدداً بالإغلاق بطلب مباشر تقدمه الجهات الحكومية إلى شركات مواقع التواصل الاجتماعي”.

ويضيف الجبوري أن “مئات الصفحات والمنصات الإعلامية، فضلًا عن الحسابات الشخصية لصحفيين ونشطاء، تم إغلاقها خلال الفترة الأخيرة بناء على بلاغات رسمية من الحكومة، تحت ذرائع تتعلق بمخالفة معايير النشر أو التحريض أو نشر الأخبار الكاذبة، وشركة ميتا كشفت في تقريرها الرسمي الصادر ضمن قسم الشفافية أن بعض هذه البلاغات كانت غير دقيقة أو مبنية على أسباب واهية”.

ويتابع أن “هذه الإجراءات تمثل تراجعاً خطيراً في مساحة حرية التعبير وحق المواطن في الوصول إلى المعلومات”، داعياً المؤسسات المعنية بحرية الصحافة والمنظمات الدولية إلى “متابعة هذا الملف بجدية، والضغط لضمان بيئة إعلامية حرة ومستقلة لا تخضع للتوجيه السياسي أو الرقابة الحكومية”.

تصريحات الجبوري، التي تتقاطع مع ما ورد في تقارير منظمة ARTICLE 19 ومنصّة The New Arab، تشير إلى أن مئات الحسابات العراقية على فيسبوك وتويتر و“تيك توك” تم تقييدها أو حذفها بناء على طلبات رسمية. وتؤكد هذه المنظمات أن بعض تلك البلاغات لم تستند إلى مخالفات فعلية للمعايير، بل جاءت في سياق “حملات تضييق إعلامي متزامنة مع الأحداث السياسية الحساسة”.

تتزامن هذه التطورات مع ما كشفه مركز التحقق العربي (INSM) من نشاط واسع لـ“جيوش رقمية” تعمل بشكل منظم لتضخيم وسوم محددة‎، وُصفت بأنها حسابات وهمية مرتبطة بجهات سياسية وأمنية تسعى إلى ترويج سرديات معينة. وبحسب المركز، أكثر من 60 % من التفاعل مع هذه الوسوم كان ناتجاً عن إعادة نشر آلية، ما يشير إلى تشغيل ممنهج لشبكات تضخيم رقمي.

وفي المقابل، أفاد ناشطون بأن استخبارات الحشد الشعبي نفذت خلال الأيام الماضية حملة لاختراق أو إغلاق حسابات لا ترتبط بها مباشرة، متهمة أصحابها بـ“الترويج للطائفية أو البعث”. بعض الحسابات أُغلقت فعلاً، وأخرى ظهرت فيها بيانات غريبة كُتبت من داخلها، في حين نشر أصحابها اعتذارات مفاجئة “للشعب العراقي” قبل اختفائهم من الفضاء الإلكتروني.

ورغم أن الجهات الرسمية لم تصدر بياناً يوضح طبيعة هذه الإجراءات أو الجهة التي تقودها فعلاً، فإن تزامنها مع إعلان لجنة الأمن والدفاع عن “الذراع الإلكترونية” يثير تساؤلات عن الخط الفاصل بين ملاحقة التطرف وحماية السلطة من النقد.

في الاتجاه ذاته، تقود هيئة الإعلام والاتصالات (CMC) منذ مطلع تشرين الأول حملة رسمية بالتعاون مع شركات التكنولوجيا العالمية مثل “ميتا” و“تيك توك” لتقييد المحتوى “الضار بالأمن والسلم الأهلي”، وفق بياناتها الرسمية. هذه الهيئة سبق أن طالبت في تقارير رسمية شركات التواصل بحجب مئات الحسابات “المخالفة للمعايير العراقية”.

لكن تقرير منظمة ARTICLE 19 الصادر الأسبوع الماضي حذر من أنّ “التعاون غير الشفاف بين الحكومة العراقية وشركات التكنولوجيا قد يؤدي إلى تقويض حرية التعبير المكفولة دستورياً”، مشيراً إلى أن “ميتا” استجابت بالفعل لعدد من الطلبات الحكومية بحذف أو تقييد منشورات تتناول ملفات فساد أو نقداً لسياسات الدولة.

وتُظهر وثائق قسم الشفافية في “ميتا” أن العراق تقدم خلال الأشهر الثلاثة الماضية بعشرات البلاغات لحذف أو تقييد منشورات، بعضها يتعلق بـ“إساءة إلى مؤسسات الدولة” أو “نشر معلومات تضر بالمصلحة العامة”، وهي تعابير وصفتها المنظمة بأنها “فضفاضة وتسمح بإساءة الاستخدام”.

تُضاف إلى ذلك تقارير من موقع Maghrebi وFreedom House التي رصدت تراجعاً ملحوظاً في حرية الإنترنت داخل العراق خلال عامي 2024 و 2025، وازدياداً في حالات حجب المواقع أو معاقبة المستخدمين بسبب منشورات ناقدة. كما وثقت لجنة حماية الصحفيين (CPJ) حالات إغلاق قنوات وبرامج إعلامية دون تبرير قانوني واضح، مثل قناة “العراق الحدث” التي أُوقفت منتصف العام، وبرنامج “سين جيم” الذي أُغلقت صفحاته مؤقتاً بعد حلقة تناولت ملفات فساد محلية.

الإعلامي أحمد الملا طلال كتب حينها عبر حسابه على منصة “إكس”: “أعلن تضامني مع منصة سين جيم والزميل ثائر جياد وأدعو جميع الزملاء والسلطات المختصة لمواجهة هذه الهجمة المؤقتة والعمل على جعلها مجرد سحابة صيف سيدفعها الريح لنبقى نتنفس حرية التعبير، وإلا سنتحسر على أيام الدكتاتور”.

يظهر من مجمل هذه التطورات أنّ العراق يقف اليوم أمام معادلة معقّدة: حماية الأمن القومي في وجه التطرف الرقمي، مقابل حماية الفضاء العام من عسكرة الكلمة. فبينما تعتبر الدولة أن إغلاق الحسابات “العدائية” جزء من حربها ضد الإرهاب، يرى ناشطون وصحفيون أن الحرب الرقمية تتسع لتصبح وسيلة لتكميم النقد تحت شعارات الأمن والسيادة.

وفي ظل غياب تشريعات واضحة تحدد ضوابط الرقابة الرقمية أو معايير الحجب، تبقى المادة (38) من الدستور العراقي – التي تكفل حرية الصحافة والرأي – خاضعة لتأويلات متباينة. أما المادة (19) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي صادق عليها العراق، فتمنح الحق في التعبير “إلا في حالات الضرورة لحماية الأمن القومي أو النظام العام”، وهي الجملة التي تُستخدم اليوم لتبرير الإغلاق المتكرر للمنصات.

المشهد الرقمي العراقي يبدو اليوم ساحة مزدحمة باللاعبين: الدولة، الحشد، المنصات العالمية، النشطاء، والإعلام. كل طرف يحمل روايته عن “الحماية”، لكنّ النتيجة واحدة: فضاء عام يضيق شيئاً فشيئاً. “الذراع الإلكترونية” التي أُنشئت لحماية البلاد من الفكر المتطرف قد تتحول، من دون ضوابط قانونية شفافة، إلى ذراع رقابية تمتد نحو كل صوت يختلف مع الرواية الرسمية. وفي بلدٍ يعيد تعريف حدوده السياسية والأمنية باستمرار، تبدو حرية التعبير هي الضحية الأحدث في معركة طويلة لم تنتهِ بعد، بحسب مراقبين.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة - بغداد اليوم + وكالات

أهم الاخبار

إحصائية صادمة للبرلمان العراقي: 76 نائبا بلا تصويت و26 تكلموا بـ"نصف كلمة" و20 فقط فاعلين- عاجل

بغداد اليوم – بغداد تُظهر الإحصائية الرسمية الصادرة عن مجلس النواب العراقي ما يمكن وصفه بأخطر مؤشرات التراجع التشريعي منذ عام 2003، إذ لم يصوت 76 نائباً على أي قانون طوال دورة كاملة، فيما تحدث 48 نائباً مرة واحدة في العام، و26 نائباً لم يتجاوزوا نصف

اليوم, 14:00