بغداد اليوم - متابعة
مع اقتراب كلّ انتخابات، تصدر المفوضية المستقلة للانتخابات قائمة بمرشحين مستبعدين، تليها اعتراضات ثم قرارات تصحيح أو تثبيت، حتى أصبحت هذه العملية أقرب الى تقليد سياسي مفرّغ من محتواه مع أصحاب النفوذ. وهذه المرة يبدو هذا التقليد بملامح سياسية حادة ومآرب انتخابية مطيحاً بأكثر من 700 مرشح وهو العدد الأكبر من المستبعَدين منذ 2003.
بعد كل انتخابات يبدأ تقسيم المناصب الإدارية العليا ويتم بها إرضاء الأحزاب التقليدية حتى وإن لم تحصل على مقاعد نيابية كافية، وبذا، لا يخرج صنع القرار في جميع مفاصل الدولة من دائرة القيادات السياسية التي ألِفها العراقيون منذ 2005، فمن ليس بيده تشريع القوانين والقرارات بيده تنفيذها.
قد يعتقد كثيرون أن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات تتخذ قرارات الاستبعاد لوحدها، لكنّ الأمر يتعدّاها؛ حيث تلعب السلطات القضائية وجهات، بضمنها هيئة المساءلة والعدالة ووزارة الداخلية وجهات امنية أخرى ابرزها امن الحشد الشعبي، دوراً محورياً في هذه العملية، وذلك من خلال بيان وجود قيود جنائية أو مخالفات لقانون الانتخابات، ومن خلال هذه الشبكة الشائكة من البيروقراطية تتسلّل رائحة التصفيات السياسية، كون الجهات المسؤولة عن تحديد أهلية المرشحين مُسيطَر عليها سياسياً، وحتى المفوضية نفسها تتكون من تسعة قضاةٍ عُيِّنوا بالمحاصصة.
معايير غامضة وثقة متآكلة
بعد تظاهرات تشرين 2019 بدأت شخصيات، على قلتها، بالظهور كوجوه قيادية جديدة قد يكون أبرزها النائب سجاد سالم، ووجدت بعض القيادات الصغيرة في الأحزاب التقليدية في ذلك فرصة لإنشاء حركات سياسية جديدة ترتدي العباءة الجديدة -عباءة المدنية/ العلمانية التي فرضتها تظاهرات تشرين- لكنها في الحقيقة تتبع تلك الأحزاب التقليدية، فإن لم يحصلوا على حصتهم بالإسلام السياسي والطائفية، حصلوا عليها بالمدنية المزيفة، وفوّتوا الفرصة على أيّ منافس قد يحرك ركود النظام السياسي.
تتّسم قوانين كثيرة في العراق بأنها فضفاضة وقابلة للتأويل على عدّة أوجه، وبضمن هذه القوانين هو قانون الانتخابات الذي يضع "حُسْنَ السيرة والسلوك" كأحد معاييره في قبول الترشيح، دون أن يحدّد على وجه الدقة ما هي السيرة الحَسَنة والسلوك المقبول.
ولأن التجارب التي تراكمت على المجتمع العراقي شديدة القسوة، باتوا منقسمين على تعريف الأشيء: حَسَنُ السيرة والسلوك عند المدنيين والتشرينيين مثلاً هو خائن وجوكري وابن سفارات في نظر قوى الإطار التنسيقي، والمدافع عن المذهب الشيعي والمطالب بحصرية الحكم له حسن السيرة والسلوك لدى قوى الإطار لكنّه تبعي وإيراني لدى القوى السنية، والمدافع عن حقوق المكون السني والمطالب بإعادة الحكم له حسن السيرة والسلوك لدى القوى السنية لكنه بعثي أو تكفيري في نظر قوى الإطار.
قانون بهكذا معايير يسهل استغلاله من قبل شتى الجهات النافذة والتي لها تأثير على القضاء خصوصاً، اضافةً إلى أن الجهات التي تستعين بها المفوضية للحكم على المرشحين معروف أن للأحزاب الشيعية تأثيراً عليها ويمكن استخدامها للتطهير السياسي سواء ضد المدنيين والسنة، أو حتى ضد الشيعة الذين خرجوا من تحت أجنحتهم كرئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني.
ما يكسر الثقة بأن استبعاد المرشحين يمثل ممارسة ديمقراطية ناضجة، هو التركيز على وجوه معينة وغض النظر عن أخرى، فهناك الكثير من المحكومين وأعضاء سابقين لحزب البعث لازالوا يشاركون في السباقات الانتخابية يصنع تواجدهم مفارقات تستدعي العجب، مثل النائبة عالية نصيف التي شاركت بالعملية السياسية مبكّراً وقد اعترفت أن رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي توسط لها من أجل تجنيبها إجراءات المساءلة والعدالة، لكنّها حين خرجت عن نهج دولة القانون والتحقت بركب "الإعمار والتنمية" -ائتلاف يزعمه رئيسالوزراء محمد شياع السوداني-، بدأ الحديث عن بعثيتها.
إن أحد أبرز إشكالات عملية فلترة المرشحين هو عدم تطوير آلية واضحة وشفافة للافصاح عن أسباب الاستبعاد بالتفصيل، فبيانات المفوضية لا تقنع الجمهور وفيها الكثير من الاقتضاب، وهي في الواقع غير واضحة ولا تكفي لإقناع الجمهور، بل تفتح الباب أمام التأويلات والشائعات.
وبينما تُعلن عن التدقيق الأمني والملاحظات القانونية، يبقى التساؤل: لماذا استُبعد فلان وأُجيز آخر يحمل المؤهلات أو المثالب نفسها. هذا الغموض يهزّ الثقة بنزاهة عملية انتخابية فقدت جدواها بالنسبة للكثير من فئات المجتمع، في بلد يرزح تحت إرث من الطعون والشبهات.
اعادة تشكيل مرتبكة للبرلمان قبل التصويت
لا يحرم الاستبعاد المترشحين فقط من دخول السباق الانتخابي، إنما تحرم جماهيرهم التي تبحث عن بدائل خارج الطبقة السياسية التقليدية من التمثيل داخل البرلمان، وبذا لن تتوفر هذه البدائل ويُعاد ضبط المشهد قبل بداية اللعبة: "إما أن تنتخبنا أو ابقَ في منزلك"، الامر الذي يضيّقُ دائرة دوافع الانتخاب ويغذي شعوراً جماعياً بالعجز أمام نظام سياسي مغلق يعيد نفسه وقادر على تجديد دمائه السياسية بوجوه مستنسخة عن وجوهه التقليدية.
تعتقد القوى السياسية التقليدية أنها تضمن استقرار البرلمان المقبل بإتباعها نهج "التطهير السياسي"، لكنّها في الواقع تعزّز هشاشته وتعمّق الفجوة بينه وبين المواطنين، فيتحول من مؤسسة تشريعية رقابية إلى منصة لتقاسم النفوذ والسلطة وإقصاء الآخر. إن محاولة ضبط المشهد الانتخابي قبل التصويت قد تضمن الهدوء السياسي، لكنّها تهدد بزوال ما تبقى من شرعية للعملية الانتخابية المشكوك بديمقراطيتها أساسا.
لكن، ومع كل هذه المحاولات، بدا ضبط المشهد مرتبكاً، فتجربة سجاد سالم الذي استُبعِد واُعيد مرّتَين، كشفت هشاشة وارتباك إدارة التوازنات السياسية، إذ جاء استبعاده في وقت كان يُرجح فيه تراجع القوى المدنية بسبب انقساماتها الداخلية وفشلها في انتاج خطاب موحد ومقنع وعودة قانون الانتخابات القديم.
غير أن محاولات تحجيمه جاءت بنتائج عكسية على الأقل آنيا، وجعلت منه رمزاً للمعارضة بعيون جمهور غاضب من سلوك النخب السياسية، ما يترجم قُصر نظرِ هذه النخب التي حاولت اضعاف منافس فإذا بها تروّج له ولمشروعه.
هذا التخبط وعدم إجادة "صنعة السياسة" يُظهِرُ أن المحرك الرئيسي -الذي يستتر خلف المفوضية- لا يحكم قبضته على المشهد السياسي دون "اعراض جانبية"، بل ينتج احياناً رموزاً جديدة لم يكن النظام على استعداد للتعامل معها.
المصدر: نيريج
بغداد اليوم – بغداد تفتح جريمة قتل راعيي الأغنام من أهالي النجف وإضرام النار في جثتيهما في صحراء غرب النخيب، مساء الأربعاء (22 تشرين الأول 2025)، باب القلق من جديد حول قدرة تنظيم داعش على المناورة داخل المناطق النائية الممتدة بين الأنبار وكربلاء، بعد