بغداد اليوم – بغداد
حين يتحدث عزت الشابندر، لا يتحدث بصفة محلل سياسي عابر، بل باعتباره أحد الأصوات التي تُعبّر عن المزاج الداخلي للأحزاب، أي ذلك التيار الذي يحتكر الخطاب السياسي "المكوناتي" في العراق منذ عقدين. لذلك، لم تكن تصريحاته الأخيرة — التي قال فيها إن “الجمهور السني ينتخب من يدفع أكثر، وأن السنة دعموا الإرهاب” — مجرد زلة لسان، بل امتداد لخطابٍ انتخابي يزداد حضوره مع اقتراب صناديق تشرين المقبل.
هذا النمط من الخطاب لا يُقاس بحدة عباراته فحسب، بل بطبيعة المنظومة التي تغذّيه. فمنذ 2003، تحوّلت السياسة في العراق إلى حقلٍ لإعادة إنتاج الهويات المذهبية، حيث تُختزل العملية الانتخابية في شعور جماعي بالخوف أو الثأر أو الولاء، وليس في خيارات برامجية أو اقتصادية أو خدمية. لذلك، فإن الشابندر لم يبتدع لغة جديدة، بل أعاد تدوير قاموسٍ سياسي مألوف: الطعن بالآخر لإعادة شدّ العصب الداخلي.
تشير القراءات البحثية الحديثة إلى أن الخطاب الطائفي في العراق لم يختفِ بعد 2018 كما توقّع كثيرون، بل تراجع إلى الظل ليعود اليوم بشكل أكثر مباشرة. ويقول المراقب الانتخابي رياض الوحيلي لـ"بغداد اليوم" إن “تصريحات الشابندر تمثل تجلياً واضحاً لاستثمار الانقسام المذهبي في التعبئة الانتخابية، وهي انعكاس لأزمة خطاب داخل الطبقة السياسية التي فقدت القدرة على الإقناع بالمنجز فلجأت إلى الهويّة”.
تعبير الوحيلي يختصر جوهر الأزمة: حين يغيب الأداء، يُستَحضر المذهب.
ويرى مختصون في علم الاجتماع السياسي أن هذه اللغة لا تعمل في الفراغ، بل تجد جمهورها في بيئة أنهكتها الصراعات المذهبية، فصارت الهوية بديلاً عن الكفاءة، والانتماء بديلاً عن الفكرة. ولذلك فإن أي حديث عن “الناخب السني الفاسد” أو “السياسي الشيعي الشريف” لا يُقرأ كتحليل سياسي، بل كخطاب تبريري يعيد توزيع الذنب الوطني على أساس طائفي.
التحليل الأوسع يُظهر أن ما قاله الشابندر ليس حادثة منفردة، بل حلقة في سلسلة طويلة من التسييس المذهبي للمنابر والخطاب العام. فمنذ سنوات، رصدت دراسات بحثية أن بعض الحسينيات والمساجد تحولت إلى أدوات دعاية انتخابية مباشرة، تُستغل للترويج لمرشحين من ذات المذهب، أو للتحريض ضد مكوّنات أخرى.
يقول الوحيلي في مقابلة أخرى إن “استغلال المنبر الديني للدعاية السياسية أصبح جزءاً من المشهد الانتخابي، وهو ما أفقد المؤسسة الدينية حيادها الأخلاقي”. هذا الانزلاق من التبشير إلى التحشيد جعل الخطيب والمرشح يلتقيان في الوظيفة: كلاهما يسعى إلى تعبئة الجمهور، لا إلى توعيته.
وتذهب قراءات قانونية إلى أن غياب التشريعات الملزمة التي تمنع استخدام الرموز الدينية في الحملات الانتخابية هو ما جعل هذا التداخل ممكناً، فتحوّل الخطاب الديني إلى مظلة حماية للطائفة والحزب معاً، على حساب الدولة.
تصريحات الشابندر ليست الأولى من نوعها، فقد سبقها نمط متصاعد من التحريض اللفظي والمذهبي خلال المواسم الانتخابية. في الناصرية، دعا أحد رجال الدين المقرّبين من فصائل سياسية إلى التصويت للمرشح الشيعي “حتى لو كان 99% فاسداً”، ما كشف عن تراجع خطير في معايير المشاركة السياسية.
وفي المقابل، يشير الخبير الحقوقي علي العبادي إلى أن “الخطاب الأسود” — كما يسميه — يتكرر في كل دورة انتخابية، حيث تُستخدم لغة الكراهية كأداة تعبئة فورية لجمهورٍ مأزوم يبحث عن هوية لا عن مشروع.
النتيجة، بحسب تقديرات بحثية، أن الطائفية لم تعد مجرد خطاب تعبوي، بل اقتصاد سياسي قائم بحد ذاته، تُبنى عليه تحالفات ومناصب وصفقات وموازنات.
على الأرض، بدأت المحافظات المختلطة مثل ديالى تشعر بوطأة هذا الخطاب أكثر من غيرها. يقول رئيس الحراك الشعبي هناك عمار التميمي لـ"بغداد اليوم" إن “الميثاق الانتخابي الذي أطلقناه يهدف إلى لجم الخطاب المذهبي، لأن أي شرارة في الخطاب قد تعني عودة العنف إلى الشارع”.
هذا الوعي المحلي بمحاذير الانقسام يقابله، paradoxically، صمت رسمي من المفوضية العليا للانتخابات التي لا تمتلك أدوات ردع حقيقية ضد التحريض الطائفي، ما يجعل الدعوات للمساءلة مجرّد ملاحظات أخلاقية لا التزامات قانونية.
في الجهة المقابلة، تصاعد خطاب موازٍ لا يقل خطورة: الحديث عن تأسيس “جمهورية مع إيران” تضم 11 محافظة شيعية، كردٍّ رمزي على ما يسمّى “تهديد الحاكمية الشيعية”.
يوضح أستاذ العلوم السياسية خليفة التميمي أن هذه الدعوات “ليست برامج سياسية بل أدوات ضغط تستخدمها جماعات مأزومة لابتزاز الخصوم داخلياً وإرسال رسائل ردع خارجياً”.
لكن مجرد طرحها في الفضاء العام يُظهر أن اللغة السياسية في العراق تزداد تحللاً من فكرة الدولة الوطنية، وتتغذى على منطق الطائفة بوصفها الضامن الوحيد للبقاء السياسي.
ما قاله عزّت الشابندر لم يكن خروجاً عن النسق، بل تعبيراً صريحاً عن المنطق الذي يحكم الحياة السياسية العراقية منذ تأسيسها الجديد بعد 2003: المنطق الذي يقيس الولاء لا بالكفاءة، بل بالهوية.
فحين يُتّهم مكوّن بأكمله بأنه “ينتخب من يدفع أكثر”، وحين يُوصف ممثلوه بأنهم “حاضنات للإرهاب”، فهذا لا يعني فقط إهانة جماعية، بل إعادة تعريف للوطن كملكية مذهبية.
يرى باحثون في الفكر السياسي أن استمرار هذا النوع من الخطاب سيقود إلى ثلاثة مسارات خطيرة:
تآكل الثقة الوطنية بين المكوّنات.
إعادة إنتاج العنف الرمزي الذي يسبق العنف المادي.
تحويل الانتخابات من آلية تداول إلى ساحة اصطفاف مذهبي.
وإذا لم يُواجه هذا الخطاب بإصلاح قانوني وثقافي واضح، فإن ما يجري ليس سوى تحضيرٍ ناعمٍ لديمقراطية طائفية، تُعيد إنتاج الكراهية كل أربع سنوات تحت لافتة الانتخابات.
بهذا المعنى، فإن أزمة الشابندر ليست في لغته فحسب، بل في نظامٍ سياسي يرى في الانقسام ضماناً للبقاء، وفي الشتيمة برنامجاً انتخابياً كاملاً، بحسب مراقبين.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم" + وكالات
بغداد اليوم – ديالى تصاعد الجدل في محافظة ديالى بشأن توزيع أراضي معسكر سعد في محيط مدينة بعقوبة، بعد أن وجّه النائب السابق فرات التميمي طلباً عاجلاً إلى رئيس مجلس الوزراء لإيقاف العملية وتشكيل لجنة تحقيق، على خلفية ما وصفه بـ"منح أراضٍ مملوكة لوزارة