بغداد اليوم – بغداد
التعليم في العراق لم يعد أزمة مناهج أو مدارس فحسب، بل أزمة وعي كامل بدور المعرفة في بناء الإنسان. فبينما يتجه العالم نحو "التعلّم القائم على التجربة"، ما زال الطالب العراقي حبيس الورقة والقلم والدرجة النهائية. لهذا يكتسب التعاون العراقي–الياباني لتحويل المواد العلمية إلى ألعاب تعليمية عملية للأطفال دلالة أعمق من مجرد مشروع تقني، إذ يطرح سؤالًا وجوديًا عن طبيعة التعليم الذي يحتاجه العراق في القرن الحادي والعشرين.
يقول المختص في الشأن التعليمي والاجتماعي فالح القريشي لـ"بغداد اليوم" إنّ هذه المبادرة تمثل "نقلة نوعية في أساليب التعليم الحديثة داخل العراق"، موضحًا أن أهميتها "تكمن في تحفيز مهارات التفكير والإبداع لدى الطلبة، والانتقال من أسلوب التلقين إلى أسلوب التعلم بالممارسة والتجربة"، وهو ما أثبتت التجربة اليابانية نجاحه في رفع معدلات الاستيعاب وترسيخ المفاهيم العلمية لدى الأطفال.
يعتمد التعليم العراقي منذ عقود على نمطٍ يقوم على التلقين والتسلسل الميكانيكي في نقل المعرفة، حتى باتت المدرسة ساحة لسباق الدرجات لا لصناعة العقول. فالأرقام الصادرة عن يونيسف تكشف أن نحو 3.2 مليون طفل عراقي خارج المدرسة، وأن أكثر من ثلث المدارس الابتدائية تعمل بنظام الدوام المزدوج أو الثلاثي، مما يعني أن آلاف الطلبة يتلقّون تعليمًا يوميًا لا يتجاوز أربع ساعات في بعض الحالات.
هذه الفجوة الزمنية لا تقلّ خطورة عن الفجوة المعرفية، إذ تشير تقارير البنك الدولي إلى أن قِصر اليوم الدراسي وكثافة الصفوف يضعفان قدرة الطالب على الفهم والمراجعة، ويحولان المدرسة إلى محطة مؤقتة بدل أن تكون فضاءً للتعلّم.
ورغم أن معدلات محو الأمية بين الشباب (15–24 عامًا) تجاوزت 85% بحسب بيانات اليونسكو، إلا أن جودة التعليم ما تزال موضع قلق دولي، إذ تؤكد دراسات تقييم الكفايات الأساسية (TIMSS) أن العراق يعاني فجوة كبيرة في مهارات القراءة والرياضيات مقارنة بالمستويات الإقليمية والعالمية. هذه المؤشرات تضع النظام التعليمي أمام معادلة قاسية: تعليم شامل من دون جودة لا يصنع وعيًا، بل يعيد إنتاج الجهل في شكلٍ منظم.
يُنظر إلى التجربة اليابانية التي يُحاول العراق الاستفادة منها كمثال على تحويل المعرفة إلى متعة حسية. فالطفل هناك يتعلم الكهرباء عبر بناء دائرة بسيطة، ويتعلم الجاذبية عبر إسقاط كرة، واللغة عبر التفاعل مع الصوت والصورة، لا عبر الورقة والممحاة.
إنّ تحويل المواد العلمية إلى ألعاب تعليمية يعني تحويل الخوف من الخطأ إلى فضول للتجريب. حين يخطئ الطفل وهو يركّب نموذجًا فيزيائيًا أو لعبة حسابية، فإنه يتعلم بطريقة أكثر عمقًا مما لو كرّر الإجابة الصحيحة من الكتاب.
القريشي يوضح أن "تحويل المناهج إلى محتوى تفاعلي سيسهم في تعزيز بيئة التعلم الممتع وتنمية مهارات القرن الحادي والعشرين لدى الطلبة"، لكنه يشدد في الوقت نفسه على "ضرورة تدريب الكوادر التعليمية وتأهيل المعلمين على استخدام الأساليب التفاعلية الحديثة، لضمان نجاح التجربة واستدامتها".
فالتجربة وحدها لا تكفي؛ المعلم هو الحلقة الحاسمة. التعليم الحديث لا يقيس ما يَعرفه التلميذ، بل كيف توصّل إلى المعرفة. ومن دون تغيير في فلسفة التدريس، ستبقى كل مبادرة مبتورة، مهما بلغت حداثتها التقنية.
اتجاه الأسر العراقية المتزايد نحو المدارس الأهلية لم يعد مجرد خيار طبقي، بل ردّ فعل على تآكل الثقة بالتعليم العام.
تشير تقديرات تحليلية إلى أن عدد المدارس الأهلية في العراق تجاوز 3,300 مدرسة بحلول عام 2020، تضم أكثر من 1.6 مليون طالب، أي نحو 17% من إجمالي الطلبة، مع نسبٍ أعلى في المدن الكبرى.
وبناءً على معدلات النمو السنوي المسجلة في السنوات الأخيرة، يُقدَّر أن يكون العدد قد ارتفع بحلول عام 2025 إلى نحو 4,400–4,500 مدرسة تستوعب قرابة 2.1–2.2 مليون طالب، ما يعكس التوسع المستمر في التعليم الأهلي بوصفه خيارًا بديلاً للأسر الباحثة عن جودة تعليمية واستقرار إداري لا توفره المؤسسات الحكومية بالقدر الكافي.
الأسباب متعددة، لكن القاسم المشترك بينها هو “الجودة المتوقعة”: يوم دراسي أطول، صفوف أقل اكتظاظًا، متابعة أدقّ للطلبة، وانضباط إداري ولغوي يفتقده التعليم الحكومي.
غير أنّ تفوّق القطاع الخاص لا يعني تفوقًا مطلقًا بقدر ما يعكس تراجع التعليم العام. فالمؤسسات الأهلية تعمل غالبًا في بيئة تنظيمية ضعيفة، وتستفيد من الفجوة الحكومية في البنى التحتية والكوادر. لذا يحذّر مختصون تربويون من أن استمرار هذا المسار من دون إصلاح شامل للقطاع الحكومي قد يُعمّق فجوة اللامساواة، ويحوّل التعليم من حقّ عام إلى امتياز اجتماعي.
ويرى مراقبون، أن التعليم في العراق لا يمكن فصله عن المناخ الاجتماعي والثقافي المحيط. فالأسرة، التي كانت شريكًا في العملية التربوية، تحوّلت مع الزمن إلى مراقبٍ مهووس بالنتائج. المعلومة صارت أهم من الفكرة، والدرجة أهم من الفهم. هذه النزعة الامتحانية جعلت الطالب يرى في التعليم عبئًا لا وسيلة للنهضة.
كما أن الفقر والبطالة والظروف الاقتصادية الصعبة دفعت آلاف الأسر إلى تفضيل العمل المبكر أو الدروس الخصوصية على التعليم النظامي، وهو ما يعيد إنتاج الفوارق بين المدن الغنية والمناطق المحرومة.
التعاون مع اليابان، في هذا السياق، ليس مجرد مشروع تربوي، بل فرصة لإعادة بناء العلاقة بين المدرسة والمجتمع، عبر إدخال مفاهيم “التعلّم من أجل الحياة” و”المدرسة كمختبر اجتماعي”، لا كمبنى يوزّع الشهادات.
ما يواجهه التعليم في العراق اليوم ليس أزمة موارد بقدر ما هو أزمة رؤية. فالمناهج، مهما تطورت، تظل بلا أثر ما لم تتغير فلسفة التعلّم ذاتها. التعاون العراقي–الياباني يمثّل اختبارًا لمدى قدرة الدولة على الانتقال من التعليم الورقي إلى التعلم الحي، ومن نظامٍ يختبر التلميذ إلى نظامٍ ينمّي قدرته على التساؤل والاكتشاف. الأرقام تُظهر بوضوح أنّ الإصلاح لا يحتمل التأجيل: ملايين الأطفال خارج المدرسة، ومدارس مزدوجة الدوام، وجيل يبحث عن مستقبل في مدارس أهلية لأن العامة لم تعد تفي بوعدها.
إن تحويل المواد العلمية إلى ألعاب تعليمية ليس مشروعًا تقنيًا فحسب، بل مشروع وعي. فحين يتعلم الطفل عبر اللعب، ينمو داخله الحسّ بالبحث، ويكبر جيل يرى في المعرفة مغامرة لا امتحانًا. هناك فقط يبدأ الإصلاح الحقيقي: عندما يتحول التعليم من سلطةٍ تُملي إلى فضاءٍ يُحرّض على التفكير.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"