بغداد اليوم – بغداد
تتكرر في العراق مشاهد الاغتيالات والجرائم السياسية التي تُعلن في لحظتها بتصريحات عاجلة، لكنها ما تلبث أن تغيب عن واجهة المتابعة مع مرور الأيام. من حادثة اغتيال الناشطين في ساحات الاحتجاج، إلى سقوط الموصل بيد تنظيم داعش عام 2014، تتشابه النهايات: لجان تحقيق تُشكَّل سريعًا، وضجيج إعلامي يرافق الأيام الأولى، ثم صمت طويل لا تعقبه محاسبة واضحة. هذه الفجوة بين الإعلان والنتيجة جعلت من الثقة بالتحقيقات الرسمية ملفًا إشكاليًا، ينعكس على استقرار الدولة ومصداقيتها في حماية الحياة السياسية.
الخبير في الشؤون الاستراتيجية حسين الأسعد يرى خلال حديثه لـ"بغداد اليوم"، أن التأخر في إعلان نتائج التحقيق باغتيال عضو مجلس النواب صفاء المشهداني يمثل أكثر من مجرد تأخر إداري؛ فهو “مؤشر خطير على ضعف الإجراءات الردعية، وقد يشجع على تكرار عمليات الاغتيال ضد مرشحين وشخصيات سياسية بارزة”. ويربط الأسعد هذا النمط بتراكم حالات مشابهة، إذ “يؤدي الغموض في مثل هذه القضايا الحساسة إلى شعور عام بالإفلات من العقاب، ويضعف ثقة المواطنين بقدرة الأجهزة الأمنية على حماية الشخصيات العامة”.
هذه الرؤية تتقاطع مع ملاحظات وردت في تقارير بعثات الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية الدولية، التي أشارت إلى أن العراق يعاني من نقص منهجي في الشفافية والإعلان الكامل عن نتائج التحقيقات، سواء في ملفات العنف السياسي أو الفساد الإداري أو انتهاكات حقوق الإنسان. فـ"بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي)" في تقريرها الصادر عام 2022، أكدت أنّ “غالبية التحقيقات التي فُتحت عقب اغتيالات أو انتهاكات جسيمة لم تُفضِ إلى نتائج ملموسة، ولم يتم إعلان تفاصيلها أو محاسبة المتورطين فيها”.
من أبرز الأمثلة التي يُستدل بها على غياب المساءلة الفعالة، سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم داعش في حزيران 2014. فقد شُكّلت لجنة تحقيق برلمانية آنذاك، وخلصت إلى تحميل مسؤولية السقوط لسياسيين وعدد من القادة الأمنيين، لكن التقرير أُودِع الأدراج ولم يُعلن عن أي إجراء قضائي لاحق. هذا الصمت مثّل، في نظر باحثين في الشأن القانوني، أبشع صورة لغياب المساءلة الوطنية، إذ انتهت واحدة من أكبر الكوارث الأمنية في تاريخ الدولة الحديثة دون محاسبة تُذكر.
ويؤكد باحثون في القانون الدستوري أن هذه الحادثة تحوّلت إلى “نقطة مرجعية سلبية” تكرّس قناعة عامة بأن التحقيقات في العراق تُفتح تحت ضغط الرأي العام وتُغلق تحت ضغط السياسة. وبعدها، توالت القضايا التي أُعلن عنها دون نتائج نهائية واضحة: اغتيالات متكررة لناشطين وصحفيين، ملفات فساد بمليارات الدولارات، وتجاوزات أمنية لم يُعرف مصير المتورطين فيها.
بحسب منظمة العفو الدولية، فإن السلطات العراقية “فشلت في تقديم نتائج واضحة لآلاف التحقيقات الخاصة بحالات الاختفاء القسري والاغتيالات السياسية”، ما جعل العراق واحدًا من أكثر دول المنطقة تعقيدًا في مجال العدالة الانتقالية.
وفي ملف الهجمات بالطائرات المسيّرة على إقليم كردستان، صرّح مستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي في تموز 2025 بأن “الجهات المنفذة باتت معروفة لدى الأجهزة المختصة”، لكنه امتنع عن الكشف عنها بحجة “استمرار التحقيقات الفنية”. وقد فُسّر هذا الموقف في الأوساط الأمنية والسياسية على أنه إشارة إلى محدودية القدرة الحكومية على إعلان الحقيقة كاملة، أو انعكاسٌ لحسابات داخلية وإقليمية معقّدة تجعل من كشف الجهة المسؤولة قرارًا محفوفًا بالتداعيات. هذا الصمت الرسمي، وإن بدا حذرًا، يكرّس الانطباع العام بأن التحقيقات في العراق كثيرًا ما تنتهي إلى معرفة “من” دون القدرة على قول “من هو”.
في سياقات التنافس الانتخابي، تتحوّل نتائج التحقيقات إلى عامل أمني وسياسي مؤثر. فحين يُغتال مرشح أو عضو في مجلس محافظة دون أن تُكشف هوية الفاعلين، تتراجع ثقة المرشحين الآخرين في الضمانات الأمنية، ويزداد القلق الشعبي من عودة الاغتيالات كأداة ضغط سياسي. يوضح الأسعد أن “البلاد لا تحتمل مزيدًا من الاضطرابات، وأن أي تهاون في كشف المتورطين باغتيال المشهداني سيُقرأ كرسالة ضعف ويهدد الأمن الانتخابي والسياسي في العراق”.
ويشير مختصون بالشؤون الأمنية إلى أن غياب الردع القانوني في قضايا الاغتيال يخلق ما يُعرف بـ"منطقة الإفلات من العقاب"، وهي مساحة رمادية يختلط فيها النفوذ السياسي بالأمن الميداني، ويصعب فيها الفصل بين الجريمة والدافع السياسي. في مثل هذه البيئة، يصبح الصمت المؤسسي شكلًا من أشكال التواطؤ غير المباشر، حتى وإن لم يُقصد به ذلك.
تنعكس ظاهرة التحقيقات الغامضة على علاقة المواطن بالدولة. فحين تتكرّر الأحداث دون نتائج ملموسة، تتآكل الثقة بالمؤسسات القضائية والأمنية، ويتراجع الإيمان بإمكانية تحقيق العدالة. ويصف تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) هذه الحالة بأنها “دوامة مؤسسية”، إذ يؤدي غياب النتائج إلى ضعف الثقة، وضعف الثقة إلى تراجع التعاون مع جهات التحقيق، فيُعاد إنتاج الغموض ذاته من جديد.
النتيجة النهائية، بحسب التحليل الميداني، هي نشوء فراغ ردعي في مواجهة العنف السياسي، إذ يدرك الفاعلون المحتملون أن تكلفة الجريمة أقل بكثير من احتمالات محاسبتهم، ما يشجع على تكرار الأنماط نفسها في بيئات الصراع الانتخابي.
تُظهر المقارنة بين حادثة اغتيال صفاء المشهداني وغيرها من القضايا المشابهة أن العراق ما يزال يعيش أزمة ثقة مزدوجة: بين المواطن والدولة من جهة، وبين مؤسسات الدولة نفسها من جهة أخرى. فغياب الشفافية في التحقيقات لا يمسّ العدالة فحسب، بل يمسّ تماسك النظام السياسي وقدرته على إدارة الخلافات دون اللجوء للعنف.
إنّ تأخر إعلان نتائج التحقيقات، أو إعلانها بصيغة عامة ومبهمة، لا يعني فقط ضعف الأجهزة المختصة، بل يفتح الباب أمام تسييس العدالة وتحويلها إلى أداة تفاوض أو تسوية. هذه الظاهرة تضعف الردع وتمنح الشرعية الضمنية للعنف السياسي.
من هنا، تبدو دعوة حسين الأسعد إلى “الإعلان السريع والواضح لنتائج التحقيق” خطوة تتجاوز حادثة الاغتيال بحد ذاتها، لتعبّر عن مطلب أوسع: بناء ثقافة مؤسسية تقوم على الشفافية والمساءلة، بوصفهما خط الدفاع الأول عن الأمن الانتخابي والسياسي. فالدولة التي لا تُعلن الحقيقة في الوقت المناسب، تُخاطر بأن تُفقد الناس الثقة بقدرتها على حماية الحياة العامة، وتترك فراغًا تُملؤه الشائعات والقوة لا القانون، بحسب مراقبين.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم - البصرة وضع محافظ البصرة، أسعد العيداني، اليوم الأحد (19 تشرين الأول 2025)، حجر الأساس لمشروعين جديدين لتحلية المياه في المحافظة، وهما محطتا الجزر الأربعة والتنومة. وذكر ديوان المحافظة في بيان تلقته "بغداد اليوم"، أن "محافظ