بغداد اليوم - ديالى
تجاوز النزوح الداخلي في العراق طابع الكارثة الإنسانية العابرة، وتحول إلى ظاهرة بنيوية تُقاس بمدى عجز الدولة عن إعادة سكانها إلى مواطنهم الأصلية. أكثر من عقد مرّ على انتهاء العمليات العسكرية الكبرى، ومع ذلك ما زالت آلاف العائلات تعيش حالة "اللا-عودة" في بلدٍ يُفترض أن أمنه قد استعاد توازنه. هذه المعضلة لا تُختزل في حجم الأضرار أو نقص الخدمات، بل في غياب القرار السياسي الذي يُعيد الحق في السكن كجزء من استعادة السيادة.
محافظة ديالى تقدّم نموذجًا متداخلًا بين النجاح الإداري والتعقيد الاجتماعي. فقد أعلن رئيس مجلسها عمر الكروي عبر "بغداد اليوم"، أن نحو تسعين بالمئة من ملف المهجّرين أُغلق فعليًا، مع بقاء حالات محدودة تحتاج إلى تعاون مؤسسات بغداد لإنهائها. هذا التصريح، الذي يوحي بتقدّم ملموس، يفتح باب التساؤل عن طبيعة الإغلاق: هل هو إغلاق حقيقي مبني على عودة الناس، أم إغلاق إداري على الورق في ظل استمرار منع بعض العائلات من العودة منذ أحد عشر عامًا؟
يُظهر تاريخ النزوح في ديالى ثلاث موجات متتالية: الأولى بين 2006 و 2009 مع العنف الطائفي، الثانية خلال اجتياح تنظيم داعش عام 2014، والثالثة أثناء تحرير المدن في 2015 وما بعدها. هذه الموجات خلّفت آلاف الأسر الموزّعة بين مخيمات مؤقتة ومنازل مستأجرة داخل المحافظة وخارجها. تصريح الكروي بأن "عودة المهجّرين ضرورة أمنية وإنسانية لأنها تضمن مسك الأرض وتعزيز الاستقرار" يعكس إدراك السلطات المحلية للعلاقة بين الاستقرار السكاني والأمن المجتمعي، لكنه لا يغيّر حقيقة أن بعض مناطق ديالى، مثل حوض العظيم والمقدادية وسنسل والسعدية، ما تزال عودة سكانها مشروطة بإجراءات أمنية معقدة أو متوقفة لأسباب غير مبررة.
في المقابل، تُصنّف تقارير منظمات الهجرة الدولية ومصفوفة النزوح العراقية (DTM) بعض مناطق ديالى ضمن “المواقع غير الصالحة للعودة” بسبب استمرار النزاعات على الأرض والملكية، أو لوجود أطراف مسلحة تفرض أنماطًا من السيطرة تمنع إعادة السكان. هذا التناقض بين الخطاب الإداري وواقع الأرض يعيد تعريف "إغلاق الملف" كمصطلح يحتاج إلى مراجعة قانونية وميدانية معًا.
خارج ديالى، تتخذ قضية النزوح شكلًا أكثر تعقيدًا. مناطق مثل جرف الصخر في بابل والعوجة في صلاح الدين والعويسات في الأنبار ما زالت مغلقة بالكامل أمام أهلها، حتى بعد زوال الخطر الأمني المعلن. جرف الصخر التي نزح أهلها منذ 2014 تحوّلت إلى منطقة عسكرية لا يُسمح بدخولها حتى لرئيس الوزراء، بحسب تقارير ميدانية وتصريحات لمسؤولين محليين. هذا النموذج يُظهر أن مفهوم "المنع" تجاوز الدواعي الأمنية إلى شكل من أشكال السيطرة السياسية على الأرض.
في العوجة، مسقط رأس النظام السابق، تُعامل العودة كملف حساس سياسيًا، بينما تبقى قرى مثل يثرب وعزيز بلد ضمن نطاق محدودي الحركة تحت ذرائع التدقيق الأمني أو غياب الخدمات. في الأنبار، ما تزال عائلات العويسات تقيم في مخيم بزيبز منذ أكثر من عقد، بلا أفق زمني واضح لعودتها. هذه النماذج لا تعبّر عن تفاوت إداري، بل عن نمط منهجي من التهجير الدائم الذي لا يملك إطارًا قانونيًا صريحًا، لكنه يُدار بقرارات أمر واقع.
الدستور العراقي يكفل حرية التنقل والسكن ويمنع الإبعاد القسري أو منع العودة. ورغم ذلك، تُدار المناطق المحظورة خارج هذا الإطار الدستوري، حيث تُفرض عليها سلطات أمنية متعددة لا تخضع لتنسيق مدني واضح. في بعض الحالات، يُستخدم "التدقيق الأمني" كأداة انتقائية لاستبعاد مجموعات محددة من العودة، بينما تُرفع القيود عن مناطق أخرى وفقًا لاعتبارات التحالفات السياسية أو الفصائلية.
إغلاق مخيمات النازحين خلال 2024 مثّل خطوة إيجابية شكليًا، لكنه لم يُنهِ أصل المشكلة، لأن العائلات التي لا يسمح لها بالعودة لا تُحتسب بعد الآن ضمن “النازحين”، ما يجعل الأرقام الرسمية عن الإغلاق غير معبّرة عن الواقع. هذا الشكل من الإغلاق الإداري يخلق تناقضًا خطيرًا: ملف منتهي على الورق، وأزمة قائمة ميدانيًا.
من منظور السياسات العامة، يمثل استمرار التهجير الداخلي الطويل خرقًا مزدوجًا: الأول للدستور، والثاني لعقد الثقة بين المواطن والدولة. فحين تتجاوز فصائل محلية سلطة الحكومة في تقرير من يعود ومن يُمنع، تُختزل سيادة الدولة في حدود نفوذ جزئي. وبالقياس إلى التجارب الدولية، فإن استمرار النزوح لأكثر من عشر سنوات يُدرج العراق ضمن الدول التي تعاني من نقص الإرادة السياسية لا نقص الموارد.
في المقابل، تصريحات المسؤولين عن "إغلاق الملفات" تكشف عن رغبة في طيّ القضية لا حلّها، بينما الواقع يشير إلى بقاء مناطق واسعة مغلقة بحكم سلطة السلاح أو التعقيد الأمني. إنّ العودة لا تتحقق بإعلان، بل بوجود ضمان قانوني وأمني يعيد الخدمات، يعالج الملكية، ويؤمّن الحماية المتبادلة، بحسب مراقبين.
ويرى متخصصون في الشؤون الأمنية والاستراتيجية، إنه بعد أحد عشر عامًا على نزوح عشرات الآلاف، لم تعد المعضلة مسألة لوجستية أو أمنية، بل اختبارًا لقدرة الدولة على استعادة قرارها داخل أراضيها. معالجة ملف المهجرين تتطلّب قرارًا سياسيًا شجاعًا يعيد فتح المناطق المحظورة وفق جدول زمني، ويحوّل “الإغلاق الإداري” إلى إغلاق فعلي بالعودة، لا بالاستثناء. إنّ بقاء مناطق مثل جرف الصخر والعوجة والعويسات مغلقة رغم زوال الموانع يضع العراق أمام سؤال السيادة ذاته: من يملك الحق في تقرير من يسكن أرضه؟
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم - بغداد أكد رئيس تحالف العزم مثنّى السامرائي، اليوم السبت (18 تشرين الأول 2025)، أن المرحلة المقبلة تتطلب تضافر الجهود لإنجاح الحملة الانتخابية وترسيخ حضور التحالف في بغداد وسائر المحافظات. وذكر بيان للمكتب الإعلامي للسامرائي تلقته