اقتصاد / ملفات خاصة / سياسة اليوم, 16:05 | --

المعركة الجيوسياسية


من مفاعل تموز إلى شراكة روسيا و"الفيتو" الأمريكي.. النووي العراقي إلى أين؟ - عاجل

بغداد اليوم - بغداد

يمرّ العراق بمرحلة مفصلية في إدارة ملف الطاقة، حيث لم تعد أزمة الكهرباء مجرّد عجز خدماتي، بل تحوّلت إلى إشكالية هيكلية تهدد الاستقرار السياسي والاجتماعي. هنا، يبرز التعاون مع روسيا في مجال الطاقة النووية السلمية كخيار استراتيجي يُراد منه إحداث تحوّل نوعي في قطاع الطاقة الوطني. غير أن هذا الخيار يواجه تحديات متشابكة، تبدأ من المتطلبات القانونية والدستورية، ولا تنتهي عند المخاطر السياسية والاقتصادية والرقابية.
تُظهر المداولات الدستورية أن العراق، كدولة طرف في معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، ملزم بآليات رقابة صارمة، وهو ما يجعل المشروع مرتبطاً ليس فقط بالإرادة الوطنية بل أيضاً بمدى انسجامه مع قواعد الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

على الصعيد التقني، يُشير الخبير في شؤون الطاقة دريد عبد الله خلال حديثه لـ"بغداد اليوم"، إلى أن "توسيع التعاون مع روسيا في مجال مشروعات الطاقة النووية السلمية، خطوة تمثل تحول استراتيجي في بنية قطاع الطاقة الوطني، وتفتح آفاقا جديدة لتحقيق الاكتفاء الطاقي وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري".

هذه الرؤية تتناغم مع ما خلصت إليه دراسات مقارنة في كوريا الجنوبية، حيث أتاح إدخال الطاقة النووية منذ سبعينيات القرن الماضي تنويعاً حقيقياً لمصادر الكهرباء، حتى أصبحت كوريا من المصدّرين للتكنولوجيا النووية لاحقاً. التجربة الكورية تُبرز أن بناء قاعدة معرفية محلية هو شرط للاستقلالية، وهو ما يلمّح إليه عبد الله بقوله إن "التعاون مع الجانب الروسي سيسهم في نقل الخبرات التقنية وبناء كوادر وطنية قادرة على إدارة وتشغيل المشروعات النووية المستقبلية بأعلى معايير السلامة".

ويضيف عبد الله أن الاتفاقيات المزمع تنفيذها ستشمل "توليد الكهرباء بالطاقة النووية، وإنتاج النظائر المشعة للأغراض الطبية والزراعية والصناعية، بالإضافة إلى تدريب الكوادر العراقية في المؤسسات البحثية الروسية". هذا الطرح يعكس نموذجاً شبيهاً بتجربة الهند، التي استثمرت في الاستخدامات النووية المتعددة (الطب والزراعة والصناعة) كوسيلة لتعزيز التنمية، قبل أن توسّع لاحقاً بنيتها الكهربائية النووية. وفق مقاربات فكرية معاصرة، فإن إدخال التطبيقات المتعددة للتكنولوجيا النووية يمنح المشروع شرعية مجتمعية، لأنه لا يبقى محصوراً في الكهرباء بل يتوسع إلى تحسين الصحة والإنتاج الزراعي والصناعي.

على المستوى السياسي، يبرز القلق من أن المشروع قد يواجه اعتراضاً أمريكياً. النائب عن الإطار التنسيقي مختار الموسوي أوضح لـ"بغداد اليوم" أن "العراق لا يسعى إلى أي برنامج ذي طابع عسكري أو يثير قلق المجتمع الدولي، بل يهدف فقط إلى الاستفادة من الخبرات الروسية لتطوير القدرات التقنية العراقية… عبر التعاون في مجال الطاقة النووية السلمية".

هذا التصريح يعكس محاولة لطمأنة المجتمع الدولي، لكنه يكشف أيضاً عن إدراك بأن أي تحرّك نووي في الشرق الأوسط يُراقَب بدقة. تجارب الإمارات هنا تطرح نموذجاً مقارنة: فقد نجحت أبوظبي في تشغيل محطة "براكة" النووية لأنها التزمت منذ البداية بشفافية كاملة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووقّعت على اتفاقيات تعاون مع الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، مما جنّبها أي فيتو سياسي خارجي.

ويضيف الموسوي: "من المهم أن تكون هناك تفاهمات وضمانات مسبقة مع الجانب الأمريكي لتجنب أي عرقلة أو ضغوط سياسية قد تعيق تنفيذ المشروع".
هذا الموقف، بحسب تقديرات قانونية، يُظهر أن العراق لا يستطيع القفز على معادلة النفوذ الأمريكي – الروسي. ففي حين تقدّم روسيا التكنولوجيا النووية، تبقى واشنطن قادرة على فرض فيتو ناعم عبر العقوبات أو القيود المالية. التجارب المقارنة تؤكد أن الدول التي نجحت في مشاريعها النووية السلمية هي التي أمنت غطاءً دولياً متعدد الأطراف، وليس ثنائياً فقط.

تجربة العراق مع النووي ليست جديدة. ففي أواخر السبعينيات، شرع العراق بمشروع مفاعل "تموز" بالتعاون مع فرنسا، قبل أن يتعرّض للقصف الإسرائيلي عام 1981. تلك الضربة لم تدمر المفاعل فقط، بل زرعت شكوكاً دائمة في أي نشاط نووي عراقي.

تسجّل التجارب التاريخية أن إخفاق مشروع تموز لم يكن نتيجة العجز التقني فقط، بل لغياب التوازن بين الطموح السياسي والالتزامات الدولية. اليوم، إذا لم يُدار المشروع الجديد بشفافية مؤسسية وتحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قد يجد العراق نفسه في دوامة الاشتباه ذاتها.

من الناحية الاقتصادية، المشاريع النووية السلمية مكلفة للغاية. تقديرات مؤسسية تشير إلى أن بناء محطة نووية متوسطة يتطلب ما بين 5 إلى 10 مليارات دولار، إضافة إلى كلف الصيانة والتشغيل. العراق، الذي يعاني من فجوات في إدارة موارده المالية، قد يواجه مخاطر الفساد وسوء الإدارة.

تجربة كوريا الجنوبية تُظهر أن الاستثمار الأولي الكبير يُعوّض على المدى البعيد عبر استقرار الإمدادات الكهربائية وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري المستورد. أما في الهند، فقد أثبت إدخال الطاقة النووية إلى مزيج الطاقة الوطني أنه يقلّل الكلفة طويلة الأمد ويزيد من الاكتفاء الذاتي. هذه النماذج تؤكد أن الجدوى الاقتصادية للعراق مشروطة بوجود حوكمة شفافة ورقابة صارمة على العقود والإنفاق.

من خلال دمج الرؤية التقنية والتحليل السياسي والمقارنة الدولية، يتضح أن المشروع النووي العراقي – الروسي يقف على مفترق طرق. من جهة، هو فرصة تاريخية لبناء قاعدة معرفية وطنية تُمكّن العراق من تنويع مصادره الطاقية، مستفيداً من خبرة روسيا وتجارب دول أخرى ككوريا والهند والإمارات. ومن جهة أخرى، هو مشروع محفوف بمخاطر سياسية واقتصادية إذا لم يُدار في إطار مؤسسي شفاف، وبمظلة تفاهمات دولية.

إن نجاح العراق في مسعاه النووي السلمي لن يُقاس فقط بقدرته على توليد الكهرباء، بل بمدى قدرته على إعادة صياغة العلاقة بين الطموح الوطني والالتزامات الدولية، وبين التكنولوجيا المتقدمة وبنية الدولة. فإذا استطاع العراق أن يتجاوز عقدة الماضي، وأن يحاكي التجارب الناجحة في المنطقة والعالم، فقد يكون المشروع النووي بداية مرحلة جديدة في مسار الدولة العراقية.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"

أهم الاخبار

حماس توافق على تسليم السلاح لهيئة مصرية فلسطينية ضمن خطة لوقف الحرب

بغداد اليوم - متابعة كشف مصادر اعلامية، اليوم الثلاثاء (7 تشرين الأول 2025)، أن حركة حماس وافقت على تسليم أسلحتها لهيئة مصرية فلسطينية مشتركة، خلال مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل في شرم الشيخ. وقالت مصادر إعلامية تابعتها "بغداد اليوم": فإن

اليوم, 17:12