سياسة / ملفات خاصة اليوم, 21:30 | --

احتضار السلطة الرابعة


الإعلام والمال السياسي.. فضائيات تتحول إلى "أبواق" بانحياز فاضح في تغطية الانتخابات العراقية 

بغداد اليوم - بغداد 

يشكّل الإعلام خلال الفترات الانتخابية خط الدفاع الأول أمام انزلاق المشهد السياسي نحو الاستقطاب والتزييف، لا سيما في بلدان تمرّ بمراحل انتقالية أو تعاني من هشاشة المؤسسات الديمقراطية. في العراق، حيث الدستور يكفل حرية التعبير وفي الوقت نفسه يضع ضوابط على التداخل الحزبي والإعلاني، يبرز تحدٍّ مركب: كيف يوازن الإعلام بين حقه التجاري والمالي وواجبه المهني؟ هذا التحدي يُصبح أخطر حين تضع السياسات الإعلامية في مواجهة مباشرة مع المصالح الانتخابية للأحزاب والمرشحين.

وفق التجارب السياسية الحديثة في المنطقة، فإن وسائل الإعلام التي تفقد الحيادية في الحملات الانتخابية غالبًا ما تفقد ثقة الجمهور وتغدو سلاحاً لمحاور السلطة، ما يؤدي إلى تراجع مكانتها المؤسسية على المدى الطويل. وفي العراق، حيث المناخ الأمني والسياسي ملتوٍ والتداخل بين المال السياسي والاعلامي واضح، فإن قدرة الفضائيات والمنصات على الحفاظ على الشرف المهني تصبح اختباراً حقيقياً لمصداقيتها.

في ظل حملات انتخابية، يُنتظر من الإعلام ألا يكون مجرد منصة للإعلانات المدفوعة، بل صانع رأي يعتمد على المصداقية والتنوير. يلفت عباس الجبوري، رئيس مركز الرفد للإعلام والدراسات الاستراتيجية، إلى أن الفضائيات والمنصات العراقية تواجه "اختباراً حقيقياً في تغطية الانتخابات المقبلة، إذ إن الترويج للسياسيين الفاشلين أو الفاسدين، يفقدها صفة الموضوعية ويقوض ثقة الجمهور ويضعف مكانتها المهنية والأخلاقية". ويشير الجبوري إلى أن "بعض القنوات قد تلجأ إلى بث الإعلانات الانتخابية المدفوعة الثمن … لكن الخطورة تكمن عندما تتحول هذه الحملات إلى انحياز مفضوح أو دعاية غير مهنية تسوق للمشاريع الفاشلة والشخصيات المثيرة للجدل". بحسب قراءات قانونية في مجال الإعلام والانتخابات، فإن هذا التوجه لا يقتصر على تجاوز أخلاقي بل قد يخترق حدود التشريع الانتخابي الذي يحظر استخدام المال السياسي للإعلام غير المراقب، مما يستدعي رقابة مؤسسية أكثر صرامة.

الإعلانات الانتخابية المدفوعة هي حق قانوني لأي وسيلة إعلامية في إطار عملها التجاري، وفق الجبوري، لكن المشكلة تنشأ عندما تتحول إلى أداة مروّج للتجميل السياسي بدلاً من التنوير. ويرى الجبوري أن الإعلام الحر "مسؤول أمام الرأي العام، وعليه أن يوازن بين حقه المشروع في الاستفادة المادية من الإعلانات وبين التزامه بالمعايير الأخلاقية والمهنية". تفيد ملاحظات أكاديمية أن سقوط الوسيلة الإعلامية في فخ التبعية السياسية يُضعف القدرة الصحفية على التحقق والمساءلة، مما يجعل الإعلام يخدم مصالح الشخصيات وليس المخاطب. ولهذا، فإن المؤسسات الإعلامية التي ترفض الانحياز حتى عند الإغراء المالي تكتسب مصداقية طويلة الأمد، وهو ما يعتبر من تحديات بناء نخب إعلامية مستقلة في الساحة العراقية.

الصحفي المخضرم فلاح المشعل يعارض هذا التمدد المالي المشبوه في الإعلام، قائلاً إن الفضائيات والمنصات الإعلامية "حين تروّج للسياسي الفاشل والفاسد والقاتل، سوف تفقد صفة الموضوعية والجمهور وأخلاق المهنة أيضاً". ورغم أن بعض الفضائيات ترى في بث الإعلانات المدفوعة فرصة للكسب، إلا أن المشعل يحذّر من أن تلك الممارسات إن توغلت ستغير قواعد اللعبة الإعلامية في العراق إلى جهاز تلميع لا مراقبة ولا نقد. ترى دراسات ميدانية أن الإعلام الذي يراكم أخطاء الانحياز في حقب انتخابية متعددة، يواجه تآكل جمهور خطير، وتقل فرص عودته إلى الحياد الصحفي مهما حاول.

يذهب الجبوري إلى أن التغطية الموضوعية للانتخابات تمنح الإعلام "ثقة متجددة لدى المواطن، بينما أي انحراف عن هذه القيم سيضعف مكانة الوسيلة الإعلامية ويُفقدها جمهورها على المدى الطويل". هذه الرؤية تربط بين الأداء الإعلامي والاستمرارية المؤسسية في بيئة متغيرة. وفق مقاربات مؤسساتية حديثة، فإن الإعلام الذي يُستخدم كذراع انتخابي يُحوَّل إلى جزء من لعبة توزيع النفوذ، ما يؤدي إلى ضعف التنوع الإعلامي وتجذير الاحتكارات الحزبية في المشهد. لذا، فإن التزام الإعلام بالمهنية في هذه المرحلة ليس خياراً تجميلياً، بل ضرورة بنيوية لدعم الاستقرار السياسي والثقة بالمؤسسات.

في سياق تقييم واقع الإعلام العراقي لا تقتصر المعضلة على انحياز الفضائيات أو تغطية الحملات الانتخابية بوجه دعائي، بل تمتد إلى أزمة بنيوية أعمق تتعلق بضعف المهنية وتفشي ظاهرة تسلق شخصيات ومؤسسات على صفة "الصحافة" دون امتلاك أدواتها أو أخلاقياتها. هذه الظاهرة، وفق تقديرات بحثية مستقلة، قادت إلى امتلاء المشهد الإعلامي بواجهات شكلية تفتقر إلى وجود صحفيين مهنيين، وتحولت بعض المؤسسات إلى مجرد مكاتب علاقات عامة لأحزاب أو جهات نافذة، ما أسهم في تراجع ثقة الجمهور بالصحافة كسلطة رابعة.

في هذا الإطار، أكد رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، فاضل الغراوي، أن "العالم يشهد تدهوراً غير مسبوق في واقع حرية الصحافة، مشيراً إلى أن مؤشر منظمة مراسلون بلا حدود لعام 2025 وضع العراق في المرتبة 155 عالمياً، مسجلاً تقدماً مقارنة بالمرتبة 169 التي احتلها في عام 2024، و172 في عام 2023". ويضيف الغراوي أن "العراق لا يزال يسجل أعلى عدد من الصحفيين الشهداء عالمياً خلال الثلاثين عاماً الماضية، بواقع أكثر من 340 صحفياً من أصل 2660 صحفياً قتلوا عالمياً خلال الفترة ذاتها".

تفيد ملاحظات أكاديمية أن هذا التناقض بين التضحيات الكبيرة للصحفيين الحقيقيين وبين تسلق غير المهنيين على المهنة يعكس أزمة مزدوجة: من جهة، المخاطر الأمنية التي يدفع ثمنها الصحفيون العاملون في الميدان، ومن جهة أخرى، الانحراف البنيوي الذي يسمح لأشخاص ومؤسسات بلا رصيد صحفي أو أخلاقي بادعاء ممارسة الإعلام.

الغراوي دعا الحكومة والبرلمان إلى "الإسراع بتشريع قانون حق الحصول على المعلومة لضمان حرية الوصول إلى المعلومات وتعزيز الشفافية ومكافحة الفساد"، مؤكداً ضرورة "تشريع قانون شامل لحماية الحريات الصحفية وتوفير بيئة قانونية آمنة للصحفيين". هذه الدعوة تتقاطع مع مطالب مؤسسات بحثية محلية ودولية ترى أن بناء صحافة مهنية في العراق لن يتحقق دون إطار قانوني يحمي الاستقلالية ويواجه ظاهرة الإفلات من العقاب، فضلاً عن إنهاء حالة الفوضى التي سمحت لمؤسسات غير صحفية بالتسويق لنفسها كمنافذ إعلامية.

تشير بيانات رقابية إلى أن مؤشر حرية الصحافة العربي لعام 2025 وضع العراق في مرتبة متوسطة متقدمة على بعض الدول العربية مثل الإمارات (160) والسعودية (166) ومصر (170)، لكنه لا يزال دون بلدان أخرى مثل تونس (118) ولبنان (130). هذا التفاوت الإقليمي يسلط الضوء على أن تحسين ترتيب العراق يحتاج إلى أكثر من مجرد تقدم رقمي على المؤشر، بل إلى إصلاح جذري يعيد المهنة إلى أهلها ويحصّنها من التسلط السياسي والاقتصادي.

يتضح من المعطيات أن الإعلام العراقي يقف اليوم عند مفترق حاسم بين أن يكون سلطة رابعة حقيقية أو مجرد أداة بيد السلطة والمال. فبينما تحاول بعض الفضائيات استثمار موسم الانتخابات لتحقيق مكاسب مالية على حساب المهنية والموضوعية، تكشف الوقائع أن جزءاً كبيراً من المؤسسات الإعلامية يعاني من تسلل غير المهنيين وتحوّل بعض المنصات إلى واجهات علاقات عامة لا تمت للصحافة بصلة. هذا الانحراف البنيوي، مقترناً بالتراجع في مؤشرات حرية الصحافة وغياب القوانين الضامنة لحق الحصول على المعلومة، يجعل من التجربة الإعلامية العراقية أكثر هشاشة في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية، بحسب مراقبين.

تصريحات عباس الجبوري وفلاح المشعل عكست المخاوف من فقدان الإعلام شرف المهنة إذا انحاز للسياسيين الفاشلين والفاسدين، بينما قدّم فاضل الغراوي أرقاماً صادمة عن واقع حرية الصحافة عالمياً وعربياً، ووضع العراق في مرتبة متدنية رغم بعض التحسن الطفيف، مشيراً إلى أن البلاد ما زالت تتصدر قائمة الدول التي فقدت أكبر عدد من الصحفيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة. هذه الشهادة المؤسسية تؤكد أن أي تقدم على المؤشر الدولي سيظل شكلياً ما لم تُعالَج جذور الأزمة في الداخل.

وفق تقديرات أكاديمية، فإن إصلاح المشهد الإعلامي يتطلب حزمة إجراءات عاجلة تبدأ بتشريع قانون "حق الحصول على المعلومة"، وتوفير حماية قانونية وأمنية للصحفيين، وتفكيك شبكات النفوذ التي تسيطر على بعض المؤسسات وتوظفها سياسياً. كما أن إعادة الاعتبار للصحافة كمهنة تستند إلى المهنية والكفاءة لا يمكن أن يتم دون غربلة واضحة تنهي ظاهرة "انتحال الصفة" وتضع حدوداً فاصلة بين الصحفي الحقيقي والمتسلق.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"

أهم الاخبار

ترامب: وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ عند موافقة حماس على خط الانسحاب الأولي

بغداد اليوم – متابعة أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اليوم السبت (4 تشرين الأول 2025)، أن وقف إطلاق النار في غزة سيدخل حيز التنفيذ فور موافقة حركة حماس على خط الانسحاب الأولي الذي تضمنته الخطة الأمريكية. وقال ترامب في تصريح تابعته "بغداد

اليوم, 23:10