بغداد اليوم – بغداد
تعيش المالية العامة في العراق مرحلة دقيقة تتقاطع فيها السياسات الحكومية مع التزامات متراكمة وضغوط اقتصادية متزايدة. هذا المشهد لم يعد مجرد قضية أرقام، بل تحوّل إلى اختبار للحوكمة الاقتصادية وقدرة الدولة على الموازنة بين الإنفاق التشغيلي والتمويل المستدام.
تشير البيانات الرسمية إلى أن الدين الداخلي بلغ منتصف عام 2025 ما يقارب 87 تريليون دينار، فيما يلوح في الأفق مقترح إصدار سندات جديدة بقيمة 5 تريليونات دينار لصرف مستحقات المقاولين، ما قد يرفع الرقم إلى نحو 97 تريليون دينار. وفق قراءات قانونية، فإن أي توسع غير محسوب في الدين الداخلي يحتاج إلى ضوابط وتشريعات صارمة لتفادي تحوله إلى عبء طويل الأمد.
الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي حذر بإيضاح على صفحته بـ"فيسبوك"، تابعتها "بغداد اليوم"، من تصاعد الدين الداخلي بوتيرة مقلقة، مشيرًا إلى أن "المجلس الوزاري للاقتصاد أوصى بإصدار سندات بقيمة 5 تريليونات دينار لصرف مستحقات المقاولين التي تشير بعض المصادر إلى أنها تبلغ 7 تريليونات دينار، وهذه التوصية في حال موافقة الحكومة عليها فإنها سترفع الدين الداخلي إلى أكثر من 97 تريليون دينار". هذا التحذير يعكس قلقًا حقيقيًا من اعتماد مفرط على أدوات الدين الداخلي لتمويل التزامات تشغيلية بدل مشاريع إنتاجية. تؤكد تحليلات قانونية معمقة أن استمرار هذا النمط من التمويل من شأنه أن يضعف السلطة النقدية، ويرفع التضخم، ويقلص تمويل القطاع الخاص، كما يزيد عبء خدمة الدين الذي بلغ 9.3 تريليون دينار عام 2024.
في خط موازٍ، قدّم الخبير الاقتصادي منار العبيدي في وقت سابق، تقييمًا نقديًا لسياسات اقتصادية أخرى يرى أنها أسهمت في تعميق العجز رغم الإيرادات النفطية الضخمة التي قاربت 300 مليار دولار بين 2022 و2024. ويشير العبيدي إلى أن "قرار تخفيض سعر صرف الدينار من 1450 إلى 1310 للدولار زاد نفقات الدولة بنحو 40 تريليون دينار وأدى إلى تفاقم العجز المالي"، فضلًا عن قفزة النفقات الجارية من 104 إلى 125 تريليون دينار وارتفاع فاتورة الرواتب من 43 إلى 60 تريليونًا خلال عامين. وبحسبه، فإن الدين الداخلي ارتفع من 69 إلى أكثر من 85 تريليون دينار منتصف 2025، معتمدًا بشكل رئيسي على سيولة المصارف العامة والخاصة، ما استنزف مواردها وأثّر على النشاط الاقتصادي. تُظهر البحوث القانونية المقارنة أن هذا النوع من السياسات في دول مماثلة يؤدي إلى تضخيم الدين دون تحقيق نمو حقيقي.
المستشار المالي لرئيس الوزراء، مظهر محمد صالح، يقدّم قراءة رسمية، عبر تصريحات صحفية سابقة، أكثر اطمئنانًا. يؤكد صالح أن "نسبة الدين العام الخارجي والداخلي لا تتعدى 33% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مؤشر يجعل العراق ضمن التصنيف الائتماني العالمي المريح والقليل المخاطر". ويضيف أن "الدين الداخلي يبلغ 85 تريليون دينار، نصفه موظف ضمن المحفظة الاستثمارية للبنك المركزي العراقي، والمتبقي لدى المصارف الحكومية والجمهور كسندات وحوالات"، مبينًا أن "الديون الخارجية لا تتجاوز 8% من الناتج المحلي، ومعظمها قروض طويلة الأجل لإعمار المناطق المحررة". كما يشير إلى أن العراق أطفأ بموجب اتفاقية نادي باريس نحو 100 مليار دولار من ديونه الخارجية، وأن المتبقي سينتهي بحلول 2028 مع آخر دين للقطاع الخاص الأجنبي البالغ 2.7 مليار دولار. بحسب تقديرات بحثية مستقلة، فإن هذه النسبة تجعل العراق أقل تعرضًا للمخاطر مقارنة بدول مشابهة، لكنها لا تعني أن التوسع في الاقتراض الداخلي بلا ضوابط سيكون آمنًا.
النتيجة أن العراق يقف أمام ثلاثة مسارات واضحة: الأول تمثله تحذيرات المرسومي من تضخم الدين الداخلي إلى نحو 97 تريليون دينار إذا جرى إصدار سندات جديدة، والثاني يعبّر عنه العبيدي بتقييم نقدي لسياسات مالية أضعفت الاستقرار رغم الوفرة النفطية، والثالث هو قراءة صالح الرسمية التي تؤكد أن النسب الكلية للدين ما تزال ضمن المعايير الآمنة عالميًا. تذهب التحليلات المقارنة إلى أن التحدي لا يكمن في حجم الدين وحده، بل في كيفية إدارته وربطه بخطط تنموية مستدامة تضمن أن تتحول أموال الاقتراض إلى استثمار منتج لا عبء متجدد.
في المحصلة، يتضح أن إصدار سندات جديدة لصرف مستحقات المقاولين ليس خيارًا ماليًا بسيطًا، بل قرار يتطلب توازنًا بين الوفاء بالالتزامات العاجلة وصيانة الاستقرار المالي طويل الأجل. الاستنتاج المنطقي أن الحكومة بحاجة إلى استراتيجية دين عام واضحة تجمع بين الانضباط المالي والتخطيط التنموي، حتى لا تتحول أدوات التمويل إلى قيود تكبّل اقتصادًا هشًّا بدلًا من أن تنقذه.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم - بغداد استقبل رئيس تحالف العزم، مثنى السامرائي، في مكتبه ببغداد اليوم الثلاثاء (30 أيلول 2025)، سفير جمهورية النمسا لدى العراق، أندرياس ناسي. وجرى خلال اللقاء، بحسب بيان لتحالف العزم تلقته "بغداد اليوم"، بحث سبل تطوير العلاقات