محليات اليوم, 18:27 | --


هجرة الشباب من إقليم كردستان العراق: البحث عن "الحياة" عبر قوارب الموت

بغداد اليوم - متابعة

“أصبحت جنّة للمسؤولين وعائلاتهم، وجحيماً لنا”، هذا ما يقوله الصحافي الكردي هزار علي، معلّقاً على انطلاق موجات جديدة من المهاجرين الكرد من إقليم كردستان العراق إلى أوروبا، ومبرّراً هجرته قبل أربع سنوات من الإقليم الغني بالنفط إلى بريطانيا، بأنه رحل بحثاً عن “الأمن والاستقرار والمستقبل”.

لا تتوقّف هجرات الشباب الكردي منذ تسعينيات القرن الماضي إلى اليوم، بل تكتسب زخماً مع كلّ أزمة اقتصادية أو سياسية يشهدها إقليم كردستان ذو الإدارة شبه المستقلّة، التي كانت طوال عقود “الحلم الكردي” الأكبر للخلاص من الأنظمة الاستبدادية الحاكمة.

وترتفع معدّلات الهجرة بشكل دوري في الأشهر الأخيرة من كلّ عام، حيث ينتظم عشرات الشباب يومياً في مجموعات تنطلق مجرّبة حظّها على طرق الهجرة غير الشرعيّة، رغم المخاطر التي تحملها مساراتها المتعدّدة، سواء عبر تركيا، أو دول شمال شرق أوروبا، أو عبر ليبيا وهو “طريق جديد” يشهد بشكل متكرّر حالات فقدان واعتقال، وحتى حوادث مميتة لمهاجرين كرد.

كان هزار صحافياً معروفاً في مدينة السليمانية، لكنّ تهديدات مباشرة من جهات محسوبة على السلطة أجبرته على اتّخاذ قرار الهجرة إلى بريطانيا، بعد انتقاده عبر وسائل التواصل الاجتماعي “تعطّل البرلمان والحكومة، وغياب العدالة والتضييق على الحرّيات، وتراجع المستوى المعيشي نتيجة تعطّل دفع الرواتب، مقابل تشكّل طبقة مرفّهة من المسؤولين وعوائلهم”، كما يقول.

ترك الصحافي عمله وعائلته، وقرّر المضي في طريق الهجرة غير الشرعيّة، في رحلة بدأت من تركيا وامتدّت لعدّة دول، واجه خلالها الموت مرّات عدّة، حسب قوله، من أجل الوصول الى ما يصفه بـ”شاطئ الأمان”.

قارب الموت
مع خطوته الأولى للرحيل، تعرّض هزار إلى مضايقات في مطار أربيل الدولي، إذ أوقفه رجال الأمن لنحو نصف ساعة للاستفسار عن أسباب سفره إلى تركيا، لا سيّما وأنه صحافي ذائع الصيت في الإقليم.

ولم ينتهِ الأمر عند ذلك الحدّ، فقد تمّ توقيفه كذلك في مطار صبيحة في إسطنبول التركية، والتحقيق معه لأكثر من ساعة، ووجّه إليه المحقّق اتّهامات بدعم حزب “العمّال الكردستاني” التركي المعارض، وأنه يعمل في مؤسّسة إعلامية تسجلّ السلطات الأمنية التركية مؤشّرات عليها بأنها من الداعمين لهذا الحزب.

بعد معاناة التنقّل التي عاشها على مدار عشرة أيّام في تركيا، صيف العام 2021 اتّفق هزار مع أحد المهرّبين في مدينة إزمير، لإيصاله إلى إيطاليا مقابل 16 ألف دولار أمريكي، على متن قارب طوله ثمانية أمتار ضمّ نحو 80 شخصاً.

يقول مستذكراً: “بقينا نحو ستّة أيّام في عرض البحر، واجهنا الموت مرّات عدّة مع ارتفاع الأمواج، وتسرّب كميّات كبيرة من المياه إلى القارب… ما زلت أتذكّر صرخات النساء والأطفال، كنّا على وشك الغرق، ولولا عناية الله لكنّا اليوم في عداد الموتى أو المفقودين”.

بعد أسبوع من انطلاقه وصل “الصحافي الهارب” إلى إيطاليا ومنها انتقل إلى بريطانيا، ليستقرّ هناك بعد حصوله على حقّ اللجوء. يقول: “لا أستطيع إلى اليوم نسيان لحظة صعود قارب الموت. كان مزيج من الخوف والألم والرغبة في الصراخ والكثير من الحزن ينتابني… شعور بأنني أرحل مرغماً من وطني إلى أرض لا أعرفها”.

المعاناة ذاتها تكرّرت مع الناشط الكردي الشاب (ه. ز) حين قرّر في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2022، ترك منطقته ورتي التابعة لمحافظة أربيل والهجرة أيضاً عبر تركيا، بعد أن لاحقته الأجهزة الأمنية، بتهمة التحريض على تعكير الأمن، لنشره “بوستات” تنتقد السلطات لمنعها التظاهرات المطالبة بالرواتب والخدمات، حيث اتّفق مع مهرب على ركوب قارب صغير سيحمل نحو 90 شخصاً، بينهم نساء وأطفال، مقابل 17 آلاف دولار، على أن يعبر بحر إيجه إلى اليونان، ومنها يغادر إلى إحدى دول الاتّحاد الأوروبي.

حدّد المهرّب موعد المغادرة عند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، لبدء رحلة التهريب البحرية، غير أن (ه.ز) كان قلقاً من الرحلة، وظلّ نائماً ولم يلتحق برحلته في الموعد المحدّد، ليغادر القارب دونه. فكُتبت له بذلك حياة جديدة حسبما يقول، إذ غرق القارب بعد نصف ساعة من إبحاره، ولم ينجُ من ركّابه سوى خمسة أشخاص فقط.

يقول: “كان بين الغرقى عائلة مؤلّفة من ستّة أشخاص، الوالدين وأربعة أطفال، أُجبر ربّ العائلة على مغادرة مدينته أربيل إثر خلاف عشائري مع أبناء أحد المسؤولين، فقرّر الهجرة مع عائلته، إلا أن البحر ابتلعه مع زوجته وأطفاله”، يتابع: “مات معهم حلمهم بالنجاة، دُفنوا في البحر، حتى دون قبور تُخلّد ذكراهم”.

الناشط الكردي، الذي شدّد على عدم ذكر اسمه، خوفاً على عائلته، قرّر المضيّ في مغامرته، لكن بتغيير بسيط، وهو الهجرة عبر البرّ بدل البحر، واتّفق مع مهرّب في نهاية تشرين الأوّل/ أكتوبر لإيصاله إلى بيلاروسيا مقابل 11 ألف دولار.

أمضى في رحلته تلك نحو 16 يوماً، مشياً على الأقدام بين الغابات والأحراج برفقة عشرين شخصاً آخرين، بينهم نساء وأطفال، حتى وصل إلى مقصده، ثم غادر من هناك إلى ألمانيا، ليحصل على اللجوء السياسي في نهاية العام 2023.

وتتكرّر حوادث الموت على الطرق البرّية الحدودية بين دول شرقي أوروبا، نتيجة إطلاق النار من حرّاس الحدود، أو حوادث الموت غرقاً في البحر، إذ يفقد العشرات من ركّاب قوارب المهرّبين حياتهم سنوياً، لأسباب عديدة، أهمّها رداءة القوارب التي يستخدمها المهرّبون وتهالكها، ويحدث هذا عمداً كي لا تكون خساراتهم كبيرة في حال غرقت، أو تمّ ضبطها من قِبل القوّات الأمنية .

أكثر من 148 ألف مهاجر
عشرات الآلاف من الكرد، حاولوا خلال السنوات الأخيرة التي شهد فيها الإقليم استقراراً أمنياً وطفرة عمرانية، الهجرة إلى خارج البلاد والاستقرار في أوروبا أو أستراليا أو أمريكا، مدفوعين في غالبيتهم بغياب فرص العمل، وتراجع الوضع المعاشي نتيجة أزمات انقطاع الرواتب الحكومية، إلى جانب غياب العدالة الاجتماعية، وتعثّر المسار الديمقراطي، وتآكل البنى المؤسّساتية.

بعضهم يتحدّث عن أسباب أخرى كضبابية المستقبل، في ظلّ انتشار السلاح غير المنضبط الذي يربك الأمن، وسطوة النفوذ التركي والإيراني وهجماتهما المستمرّة على أهداف في عمق الإقليم، إلى جانب هجمات مسيّرات الفصائل العراقية المسلّحة على مواقع مختلفة في كردستان، بينها منشآت نفطية ومواقع استثمارية.

ويعاني إقليم كردستان من أزمات اقتصادية ومالية منذ العام 2013، لعل أبرز مظاهرها يتمثّل في تأخّر صرف رواتب الموظّفين والمتقاعدين (البالغ عددهم نحو مليون و250 ألفاً) بشكل شبه دائم وعدم دفع راتب واحد أو اثنين وثلاثة كلّ عام، في ظلّ نظام اقتصادي يعتمد بشكل أساسي على الرواتب في تحريك السوق وكلّ حلقات العمل.

كما يواجه انسداداً سياسياً مزمناً، نتيجة تعطّل البرلمان الكردستاني منذ أكثر من ثلاثة أعوام، إلى جانب عدم وجود حكومة موحّدة كاملة الصلاحيات، وفي ظلّ تحكّم كلّ حزب في مناطق نفوذه بالقرارات الحكومية، وغياب العمل المؤسّساتي، واستمرار انقسام قوّات “البيشمركة” والأجهزة الأمنية.

وبعد 11 شهراً على انتخابات برلمان كردستان التي أُجريت في تشرين الأوّل/ أكتوبر 2024، ما زالت الصراعات على المناصب والوزارات الرئيسية تعرقل تشكيل حكومة جديدة، وسط ترجيحات بتأخر تشكيلها إلى ما بعد انتخابات البرلمان العراقي، المزمع إجراؤها في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر2025، علّها تفتح الباب أمام تسويات سياسية، واتّفاقات بشأن توزيع المناصب وحصّة كلّ حزب في حكومتي أربيل وبغداد.

وهاجر 148,400 مواطن كردي من إقليم كردستان منذ العام 2014، غالبيتهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عاماً، بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، وفقد 414 شخصاً منهم حياته، غالبا غرقاً في البحر، واختفى آخرون دون أثر، وفقاً لرئيس جمعية “اللاجئين العائدين من أوروبا” في إقليم كردستان بكر باباني، الذي يشير إلى أن وُجهة المهاجرين الكرد هي بريطانيا أوّلاً، تليها ألمانيا ثانياً.

ويرى باباني أن غياب العدالة الاجتماعية وظهور نوع من الطبقية في السنوات الأخيرة، إلى جانب البطالة المتفشيّة وسط شريحة الشباب، مقابل توافر فرص العمل لأقارب المسؤولين وأفراد عائلاتهم وتمتّعهم بحياة مرفّهة، من أبرز العوامل التي تدفع إلى الهجرة من الإقليم.

بختيار حسن مدير مديرية شؤون شباب رابرين في محافظة السليمانية، قال في منتصف آب/ أغسطس 2025: “إن الأشهر السبعة الأولى من العام الحالي، شهدت هجرة أكثر من 5000 شابّ، 1100 منهم من منطقة رابرين، بسبب البطالة والملل من طبيعة حياتهم”، حسب تعبيره.

مسارات التهريب
يلجأ المهاجرون إلى سلسلة طرق غير شرعية للوصول إلى أوروبا، معتمدين على شبكات مهرّبين ينشطون في تركيا ودول أوروبية، ومؤخّراً في دول في شمال أفريقيا، يعرفون محلّياً بـ”القجخجية”، وهم يستكشفون بشكل مستمرّ كلّ المسارات الممكنة للتهريب برّاً وبحراً وجوّاً.

وتُعدّ تركيا الوجهة الأبرز للتهريب إلى أوروبا، حيث أصبحت مدينة إزمير على ساحل البحر الأبيض المتوسّط، من المناطق النشطة في تهريب آلاف الأشخاص بالقوارب إلى كلّ من اليونان وإيطاليا.

وهناك طرق أخرى عبر البرّ، ومن خلال بيلاروسيا وبلغاريا. وأُضيف إلى هذين الطريقين مؤخّراً طريق ثالث عبر ليبيا وتونس، وفقاً لرئيس جمعيّة “اللاجئين العائدين من أوروبا”، الذي يؤكّد أن “عدداً من مواطني إقليم كردستان يحصلون على تأشيرات سفر إلى هذين البلدين، ويسافرون إليهما عبر مطاري بغداد وأربيل الدوليين، ثم يحاولون عبر البحر الوصول إلى أوروبا”.

ذلك المسار الجديد للهجرة يبدو أكثر خطورة، وفرص الوصول ضئيلة وحالات الاستغلال والاعتقال والفقدان كبيرة، رغم الوعود التي يقدّمها المهرّبون. بحسب شهادات ناجين، أكّدوا تعرّضهم للضرب والسرقة ثم الاعتقال لعدّة أيّام، مع صعوبة بالغة في تأمين التواصل مع الجهات العراقية لإنقاذهم، فقد تطلّب إعادة 25 مهاجراً كردياً في 11 أيلول/ سبتمبر الماضي إلى أربيل، تمّ العثور عليهم في ليبيا، أسابيع من الاتّصالات، بعد أن هاجروا في صيف العامّ الحالي.

يقول باباني: “في الدولة الأفريقية يجني المهرّبون مقابل كلّ شخص مبلغاً يقارب 17 ألف دولار أمريكي، في حين تبلغ تكلفة تهريب الشخص الواحد من تركيا 12 ألف دولار، وعن طريق البرّ إلى بيلاروسيا ما بين 12 -20 ألف دولار أمريكي، مع احتساب تكلفة طفلين دون سنّ العاشرة بكلفة شخص واحد، حسب قوله.

ولا تتوقّف الهجرة طوال أشهر العام، لكنّ معدّلاتها ترتفع في أشهر الشتاء رغم برودة الجوّ، التي تُعدّ خطراً إضافياً، سواء على المهاجرين برّاً أو بحراً. يقول المشرف على شبكة تنسيق المنظّمات في كردستان سيروان كه ردي: “إن الشتاء بات الوقت المفضّل للهجرة عبر تركيا إلى أوروبا، خاصةً خلال المدّة المحصورة بين شهري تشرين الأوّل/ أكتوبر وشباط/ فبراير”.

ويضيف: “إن الهجرة تزداد أيضاً مع الاضطرابات الأمنية في المنطقة، وفي فترات تصاعد الاشتباكات بين حزب العمّال الكردستاني (PKK) والحكومة التركية”، ويرى أن “غموض المستقبل والمصير المجهول” وراء تزايد معدّلات هجرة مواطني الإقليم، بخاصّة الشباب منهم.

تذكر مؤسّسة “لوتكة” المعنيّة بشؤون اللاجئين والنازحين والمهاجرين، التي تتّخذ من محافظة السليمانية مقرّاً لها أن “345 مهاجراً عراقياً من كردستان لقوا حتفهم من 2015 حتى 2024، إضافة إلى فقدان 248 في الفترة ذاتها، خلال رحلات الهجرة إلى أوروبا”، لكنّ هذه الأرقام هي الموثّقة فقط، فهناك ضحايا لا يتمّ توثيقهم.

وتشير المؤسّسة إلى أن “نحو 780 ألف عراقي أعمارهم فوق 18 عاماً، قدّموا طلبات لجوء في بلدان أوروبية خلال هذه المدّة”. ففي العام 2023 سُجّل 19500 طلب لجوء، وفي 2024 سُجّل 23400 طلب لجوء، غالبيتهم من إقليم كردستان.

وسُجّلت أضعاف تلك الأرقام خلال سنوات ما بعد 2014، حين سيطر تنظيم “داعش” على عدّة محافظات عراقية، وتذكر المؤسّسة أن 557 لاجئاً عراقياً وقعوا ضحايا للهجرة غير الشرعيّة، حيث قُتل 321 شخصاً وفُقد 236 آخرون.

الإقليم يخسر مكاسبه
وسط المشاكل السياسية والإدارية والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها إقليم كردستان، يتحدّث باحثون عن الأسباب الرئيسية التي تدفع للهجرة، والتي تقف البطالة في صفوف الشباب على رأسها.

تقول الدكتورة سعاد عبد القادر أستاذة الاقتصاد في جامعة دهوك: “إن الشباب عموماً، وبشكل خاصّ الحاصلون على شهادات جامعية، يعانون لإيجاد فرص عمل، بعضهم ينتظر سنوات حتى يحصل على عمل، ومن يحصل على عمل، غالباً ما يكون في مهن لا تتوافق مع تخصّصه، وبأجر متدنٍ لا يلبّي متطلّبات بناء أسرة”.

وتضيف: “العائلة الكردستانية اليوم تعتمد بشكل أساسي على راتب الأب أو الأمّ، الذي يضمن تلبية أساسيات الأسرة، لكنّ نسبة كبيرة من الأبناء دون الثلاثين سنة، لا يعملون او لا يحصلون على عمل ثابت، ويعتمدون على أسرهم لتأمين مصاريفهم، بالنتيجة يتساءل الشابّ إلى متى يمكن أن يستمرّ ذلك… وهنا لا يجد سبيلاً غير الهجرة”.

وتشير عبد القادر إلى أن “معدّلات الهجرة مرتفعة بشكل أكبر في البلدات الصغيرة مقارنة بالمدن الكبيرة، ففي مناطق حلبجة وكرميان ورابرين التي تتبع السليمانية، تجد أعداداً كبيرة من الشباب يحاولون الهجرة، والأمر ذاته في شيلادزي مثلاً التي تتبع دهوك، وذلك يعود إلى عدم التوازن في توفّر البنى الاقتصادية من معامل وحقول إنتاج زراعي وصناعي، إلى جانب تفاوت البنى الخدمية بين المناطق”.

ويُعدّ ارتفاع كلفة المعيشة وتأمين الخدمات الأساسية دافعاً آخر للهجرة، حيث بات الدخل لا يغطّي النفقات، مع ارتفاع الرسوم والضرائب وأسعار المشتقّات النفطية وكلف الخدمات الصحّية. في الأشهر الأخيرة وفي وقت كان الموظّفون يعانون من عدم دفع رواتبهم، فعّلت حكومة الإقليم مشروعاً يوفّر الكهرباء لمدةّ 24 ساعة، لكن بأسعار تبلغ خمسة أضعاف الأسعار الوطنية السابقة، وبات على كلّ أسرة دفع ما بين 10 إلى 20% من دخلها لتأمين الحدّ الأدنى من الكهرباء.

يقول سليم علي وهو مدرّس رياضيات من دهوك، يُعيل أسرة من ثمانية أفراد (والد وزوجة وأربعة أطفال) إن راتبه الشهري يزيد قليلاً عن مليون دينار، لكن عليه أن يدفع في الحدّ الأدنى 150 ألف دينار لتوفير الكهرباء لأسرته، ومبلغ يزيد عن ذلك لشراء الوقود لسيارته، وتأمين أدوية لوالده السبعيني الذي يعاني من أمراض مزمنة بكلفة 200 ألف دينار شهرياً.

يسكت قليلاً قبل أن يتابع: “بعد حساب هذه التكاليف، لا يبقى من راتبي غير 500 ألف دينار، عليّ أن أؤمّن معيشة عائلة بكاملها لمدّة شهر، هذا عدا مصاريف المدارس والجامعات… لذلك أبحث عن أيّ عمل إضافي حتى كحارس مبنى أو سائق سيّارة”.

إبنه دلير وهو خرّيج جامعي، يبحث عن عمل ثابت منذ أربع سنوات، ويفكّر بشكل دائم بالهجرة التي تحوّلت بالنسبة إليه إلى حلم، ويقول: “عملت لفترات في مول تجاري براتب 400 ألف دينار، ومن ثم كحارس مخزن تجاري براتب 500 ألف دينار، لكنّ صاحب المخزن سرّحني بعد تراجع عمله”.

يواصل: “لا خلاص من ذلك، كيف يمكنني أن أعيش وأؤمّن مصاريفي، وأكوّن أسرة؟ لذلك أحاول جمع 10 آلاف دولار لأجرّب حظي بالهجرة، ليس أمامي سبيل آخر”.

لا تملك الحكومة خططاً واضحة لمعالجة أزمة البطالة في صفوف الشباب، بينما يتراجع الاقتصاد نتيجة ضعف القطاعين الزراعي والصناعي، والأخير يشهد إغلاق مئات المصانع سنوياً، في ظلّ غياب المؤسّسات وعدم وجود بيئة صحّية للتنافس والاستثمار، حيث يتمّ احتكار قطاعات العمل لصالح شركات تتبع أحزاباً نافذة، دون الالتفات إلى مصلحة المواطن، وهو وضع يُبدّد الأمل بإمكانيّة تحسّن الاقتصاد.

وعلى الصعيدين السياسي والإداري، يفقد الإقليم تدريجياً مكاسبه، وجزءاً من قوّته التي حقّقها بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في عام 2003، نتيجة سلسلة قرارات أصدرتها المحكمة الاتّحادية في بغداد، أبرزها إلغاء حقّه في تصدير النفط بنحو مستقلّ عن الحكومة الاتّحادية.

وخسر الإقليم في العام 2017 بعد فترة وجيزة من تنظيم استفتاء الانفصال، السيطرة على معظم المناطق المتنازع عليها بينه وبين الحكومة الاتّحادية، والمشمولة بالمادّة 140 من الدستور العراقي، كما فقد دوره المحوري في تشكيل الحكومات العراقية، وتحوّل من شريك في القرارات المهمّة إلى مجرّد مشارك.

وفي ظلّ حكومة غير موحّدة تعمل بصلاحيّات غير كاملة، وبرلمان معطّل منذ أكثر من عامين، بلا تشريع ولا مساءلة ولا خطط لمعالجة الأزمات، ومع مؤسّسات متعثرّة، وقيود متزايدة على الحرّيات، وخلل في المنظومة الأمنية كشفته أحداث فندق لالازار في السليمانية في 22 آب/ أغسطس، التي شهدت اشتباكات استمرّت لساعات، حيث اعتقلت قوّة أمنية زعيم “جبهة الشعب” في إقليم كردستان لاهور شيخ جنكي، وشقيقه بولاد شيخ جنكي، بتهمة تهديد الأمن، وأشارت تقارير إلى مقتل 3 أشخاص وإصابة 20 آخرين، مع فقدان آخرين، جرّاء الاشتباكات.

70 شابّاً هاجر في ليلة واحدة
في تمّوز/ يوليو 2025، أعلنت “منظّمة شباب رابرين” أن ما يقارب 70 شابّاً غادر مدينة قلعة دزة التابعة لإدارة رابرين في محافظة السليمانية، في ليلة واحدة على أمل الوصول إلى أوروبا عبر طرق غير شرعيّة من ليبيا. وذكر رئيس المنظّمة أحمد حسن خلال مؤتمر صحافي أن “الإقليم يشهد موجة جديدة من هجرة الشباب الجماعية”.

وانتقد ما وصفه بـ”الصمت المطبق” لحكومة إقليم كردستان، تجاه المغادرين من المطارات والمعابر الحدودية، قائلاً: “لا أحد يسألهم عن سبب سفرهم أو إلى أين يتّجهون؟ كأنهم ليسوا مواطنين، وتمثّل رعايتهم مسؤوليّة وطنية”، ودعا الحكومة والمؤسّسات الدينية والمدنية إلى العمل العاجل لتسليط الضوء على المخاطر المميتة التي يواجهها الشباب المهاجر، بخاصّة عبر ليبيا، المعروفة بمخاطرها الكبيرة على المهاجرين غير النظاميين.

وحذّر من أن الهجرة الحالية غير آمنة تماماً، وستؤدّي إلى كوارث إنسانية كالتي حصلت في السنوات السابقة، من غرق سفن وفقدان مئات الكرد في البحر، كما نبّه إلى أن “البلدات الحدودية معرّضة لخطر إفراغها من شبابها”.

وأشار إلى أن معدّل الهجرة خلال الأشهر الستّة الماضية، بلغ نحو 300 إلى 400 شابّ أسبوعياً، بعد إعادة فتح الطرق الليبية، قائلاّ: “إن هذا النزيف من الشباب هو نتيجة طبيعية للبطالة وانقطاع الرواتب”.

750 ألف عاطل عن العمل
مع استمرار ظاهرة الهجرة، يُحمّل نوّاب وناشطون سلطات الإقليم وأحزابه مسؤوليّة يأس الشباب، واختيارهم اللجوء إلى أوروبا بدلاّ من البقاء في وطنهم.

ويرى عمر كولبي عضو الدورة التاسعة لبرلمان كردستان والقيادي في “جماعة العدل” الكردستانية أن “الهجرة، وإن كانت ظاهرة عالمية، إلا أنها غالباً ما تتغيّر تبعاً لسياسات الحكم والأوضاع السياسية والاقتصادية في كلّ بلد مقارنةً بآخر”.

ويقول إن هناك العديد من العوامل التي تؤثّر بنحو مباشر على الهجرة، بخاصّة الشباب منهم “إلا أن العامل الرئيسي والمباشر في إقليم كردستان، هو تدهور الأوضاع الاقتصادية وارتفاع معدّلات البطالة وقلّة فرص العمل”، ويضيف: “وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة تُحدّد عدد الذين يهاجرون سنوياً، تُظهر المؤشّرات أن الأعداد تزايدت خلال العامين الأخيرين، وأن أعداد الراغبين في الهجرة في تصاعد”.

ويحمّل كولبي الحزبين الحاكمين في كردستان المسؤوليّة “المشكلة الأكبر تتعلّق بالوضع الاقتصادي، والحزبان يتحكّمان بموارد الإقليم ويستغلّانها لمصالحهما الخاصّة، وهما يُسيطران على السوق من خلال احتكارات شركاتهما، ما أدّى إلى تدمير النشاط الاقتصادي، وهروب رؤوس الأموال، وبالتالي تراجع كبير في فرص العمل”.

ووفقًا لبعض تقديرات كولبي، الذي يُعدّ من أشد المعارضين لسياسات حكومة إقليم كردستان، يوجد حالياً أكثر من 750 ألف مواطن عاطل عن العمل، بينهم نحو 400 ألف شابّ وخرّيج جامعي، ويوضح “لأكثر من عشر سنوات، لم يُمنح أيّ شابّ فرصة حقيقية للتوظيف قائمة على الكفاءة والجدارة والعدالة”.

ويكشف أن “معدّلات الفقر في ازدياد مقارنة بمعدّلاتها قبل عقد وعقد ونصف من الزمن، الموارد العامّة تستنزف باستمرار، وأصبحت الحياة الكريمة حكراً على شريحة محدودة، بينهم رؤوس السلطة وأعضاء أحزابهم”.

ويضع كولبي شرطين للحدّ من الهجرة، يتمثّلان في توفير فرص العمل، وتحقيق العدالة، مشيراً إلى أهمّية “دعم الشباب في تأسيس مشاريعهم الخاصّة، ومساعدتهم على الزواج والاستقرار الأسري”، ويستدرك “للأسف المسؤولون لا يقومون بذلك، والشباب كلّ من تلوح له فرصة يهاجر بلا تردّد”.

“حصار” حكومة بغداد
عضو الحزب “الديمقراطي الكردستاني” ريبين سلام، يدافع عن حكومة الإقليم، ويبرّئ ساحتها من مسؤوليّة ازدياد ظاهرة الهجرة، ويؤكّد أن الحكومة “قدّمت فرصاً كثيرة، ومشاريع استثمارية جيّدة”، ويستدلّ بذلك على “وجود عشرات الآلاف من اللاجئين من سوريا وتركيا وإيران، يعملون داخل الإقليم”.

ويحمّل الشباب المسؤوليّة بعدم تقبّلهم الانخراط في جميع الأعمال، قائلاً: “هناك فرص عمل في الإقليم، لكنّ شبابنا لا يتقبّلون كلّ الأعمال داخل الإقليم، بينما يتقبّلونها في الدول الأخرى، وهذا يعود للبنية الاجتماعية أو الأعراف والعادات”.

كما يحمّل الحكومة الاتّحادية في بغداد جزءاً من مسؤوليّة استفحال هذه الظاهرة، مشيراً إلى ما أسماه “الحصار الاقتصادي”، الذي تفرضه على الإقليم، ويزعم أن ذلك “زاد من معدّلات الهجرة”.

ويقصد سلام بالحصار، هو توقّف إرسال الحكومة الاتّحادية حصّة إقليم كردستان المالية، بسبب عدم الاتّفاق على تصدير النفط، وتسليم عائدات المعابر الحدودية في الإقليم للسلطة الاتّحادية.

ويقول: “قدّمت أربيل كلّ ما هو ممكن في سبيل ضمان استمرار الاتّفاق المالي، لضمان صرف رواتب الموظّفين في موعدها، لكن هناك إرادة سياسية شوفينية تريد إنهاء الكيان الدستوري للإقليم”.

وجود عشرات آلاف العمال السوريين في الإقليم، لا يراه علي آدم، وهو شابّ في مقتبل الثلاثين، يعمل في مطعم شعبي، مؤشّراً على “كسل الشباب الكرد” وعدم رغبتهم في العمل، بل يُعدّ وجودهم سبباً آخر في قلّة فرص العمل وبالتالي هجرة الشباب.

ويقول إنه يعمل مثل العامل السوري لثماني ساعات يومياً وأحياناً أكثر، ويحصل على الراتب نفسه، 500 أو 650 دولاراً شهرياً، لكنّ راتبه لا يكفي لتأمين متطلّبات حياته وعائلته “في حين أن السوري لا التزامات عائلية لديه، وهو يُقيم في غرفة مشتركة مع آخرين، ويُرسل نصف راتبه الى أهله في سوريا، وذلك المبلغ يكفي لتأمين معيشتهم هناك، بعكس المعيشة في العراق”.

الأسباب مشخّصة
هيئة حقوق الإنسان في إقليم كردستان، أكّدت في وقت سابق أنها لا تمتلك إحصائيات رسمية ودقيقة عن أعداد المهاجرين من الإقليم، على الرغم من ازدياد أعدادهم “بسبب ضعف الآليات لدى الهيئة وغياب الكفاءات المتخصّصة”.

وحدّدت أربعة أسباب رئيسية وراء ارتفاع نسبة المهاجرين من الإقليم، الأوّل: “فقدان الأمان الاقتصادي، إذ يجد ربّ العائلة أو الشابّ المتخرّج من الكليّة نفسه دون عمل ولا يمكنه إعالة أطفاله وعائلته، لذا فإنه حتماً يفكّر بالهجرة إلى بلد آخر يجد فيه عملاً أو إعانة مالية من قِبل دولة الهجرة”.

والثاني والثالث: “انعدام الاستقرارين السياسي والأمني”، والرابع: “عدم اهتمام سلطات الإقليم بإيجاد فرص عمل للشباب، لأن أغلب الشركات تستقدم العمّال الأجانب للعمل لديها كون أجورهم أقلّ من أجور العامل العراقي، وهذا أدّى إلى تفاقم أزمة فرص العمل وتزايد مساحات البطالة بين الشباب ما يضطرّهم للهجرة”.

وفق ذلك، تستمرّ الهجرة بمخاطرها الكثيرة، وعلى الرغم من تشديد الأوروبيين سياساتهم تجاه المهاجرين، باعتماد تشريعات وإجراءات تقيّد من تدفّق المهاجرين وطالبي اللجوء، خاصّة في ما يتعلّق بالإقامة ولمّ الشمل العائلي، ويصف خبراء في الشؤون الأوروبية هذا التوجّه بأنه ليس مجرّد استجابة مؤقّتة لصعود اليمين المتطرّف، بل يمثّل تحوّلا هيكلياً يُعيد صياغة الهويّة السياسية والاجتماعية للقارّة العجوز.

وفي تحوّل حاسم، تبنّت النمسا كأوّل دولة في الاتّحاد الأوروبي، قراراً بوقف لمّ شمل عائلات اللاجئين، خاصّة الحاصلين على الحماية الثانوية، وبرّرت الحكومة ذلك بـ”حماية الخدمات العامّة من الانهيار”، مشيرة إلى ضغوط شديدة على قطاعات الصحّة والتعليم، نتيجة استيعاب عشرات آلاف القاصرين الوافدين ضمن برامج لمّ الشمل.

وذكر المستشار النمساوي كريستيان شتوكر، أن بلاده استقبلت بين 2023 و2024 نحو 18 ألف فرد عبر لمّ الشمل، 13 ألفاً منهم من الأطفال، ما يتطلّب “قراراً مسؤولاً بالتجميد المؤقّت”، إلا أن منظّمات حقوقية، وعلى رأسها منظّمة العفو الدولية، وصفت القرار بأنه “اعتداء غير مبرّر على حقوق اللاجئين”.

وفي السياق ذاته، أقرّت فرنسا قيوداً جديدة على تسوية أوضاع المهاجرين، أبرزها تمديد فترة الإقامة اللازمة من 5 إلى 7 سنوات، وتشديد تنفيذ قرارات الترحيل، أما ألمانيا فشهدت هي الأخرى تقليصاً لفئات اللاجئين المؤهّلين للمّ الشمل، وتعديلات على شروط الجنسيّة، وسط انتقادات حقوقية متزايدة.

بدوره عدّ الباحث الفرنسي في الشؤون الأوروبية بيير لويس ريمون، في تصريحات صحافية أن “ما نشهده من تضييق على المهاجرين في أوروبا، هو انعكاس لتحوّل أعمق في القيم الأوروبية، نحو تعزيز الهويّات الوطنية على حساب التعدّد والتعايش”، معتبراً أنها “عمليّة إعادة تشكيل لمنظومة تكرّس عقيدة الانغلاق وفرض القيود على المهاجرين”.

صور الموت والرعب
على الرغم من صور الموت والاعتقال والتغييب الكامنة في رحلة الهجرة، وتشديد إجراءات قبول المهاجرين، إلا أنها لا تُقنع الشباب الكرد بالتخلّي عن فكرة الهجرة. يرى الصحافي محمّد علي ولي أن مصاعب الحياة في الإقليم نتيجة الصراع السياسي، وغياب وجود حكومة وبرلمان ورؤية واضحة للمستقبل، والطبقية التي نشأت بما تولّده من اضطراب بين الأغنياء والفقراء “هي أشدّ وطأةً من رحلة الموت التي يخوضها المهاجرون”.

“لذلك هم يختارون الهجرة، بكلّ ما تحمله من مخاطر وألم وحسرة، يفضّلونها على مجتمعاتهم التي لا توفّر فرصاً لهم، والمنقسمة بين طبقتين، إحداهما ثرية ونافذة كلّ الأبواب مفتوحة أمامها لأسباب لا تتعلّق بالكفاءة، والأخرى فقيرة يعاني فيها شباب كثر”، يقول ولي.

الهجرة لكلّ من يستطيع، ستظلّ واقعاً في إقليم كردستان، على الرغم من مظاهر التطوّر التي تغلّف صورته، نظراً للطبيعة الحزبية للحكم، وعجز حكومة كردستان عن بناء مؤسّسات مدنية “وبلورة فلسفة إدارية تُعالج قضايا الحياة عموماً”، وفق المحلّل السياسي حكيم عبد الكريم، الذي يشير إلى أن “مأساة الإقليم تكمن في الخلل الهيكلي للأحزاب الحاكمة، التي جعلت الاقتصاد ريعياً، لا لشيء، إنما لاستغلال إيراداته لمصالحها وأجنداتها”.

ويؤكّد عبد الكريم أن “الحياة لن تستقرّ في كردستان إلا بإصلاح جذري لأسس الحكم والإدارة، تُحسّن الظروف المعيشية، وتُرسّخ العدالة والحرّية كأهمّ أركان الحكم”، منبّهاً إلى أنه “لن تتوقّف تداعيات غياب ذلك على هجرة الشباب بما تحمله من سلبيات، بل ستخلق يأسا من الإصلاح، بكلّ ما يحمله ذلك من مخاطر وجودية”.

المصدر: شبكة “نيريج” للتحقيقات الاستقصائية

أهم الاخبار

السامرائي في الموصل: "العزم" يدعم مبادرات خدمة المدينة ويعزز التواصل مع أبنائها

بغداد اليوم - نينوى زار رئيس تحالف العزم، مثنّى السامرائي، اليوم السبت (27 أيلول 2025)، مدينة الموصل، حيث التقى بالحقوقي علاء الخوين المتيوتي وعضو التحالف مثنى أحمد حسن الطائي، برفقة وفد نيابي وإداري من التحالف. وذكر المكتب الإعلامي للسامرائي، تلقته

اليوم, 19:55