أمن / سياسة / ملفات خاصة اليوم, 20:30 | --

الحرب الناعمة الرقمية


نتنياهو: "تيك توك" أحدث اسلحتنا.. الأداة الأخطر لتفكيك المجتمع وتهديد الأمن العراقي

بغداد اليوم - بغداد 

تصريحات بنيامين نتنياهو التي اعتبر فيها أن "أساليب الحروب وأدواتها تغيّرت… و(تيك توك) أصبح سلاحًا بارزًا في معارك اليوم" لم تكن مجرد ملاحظة إعلامية عابرة، بل إضاءة على مسار استراتيجي جديد في فنون الصراع. حين تتحول المنصات الرقمية من فضاء ترفيه إلى آلية تأثير ممنهجة، فإنها لا تهاجم القوة العسكرية فحسب، بل تعمل على هدم اللحمة المجتمعية وإضعاف قدرة الدولة على الصمود. وفي حال العراق -الجبهة الحسّاسة ضمن خارطة التوتر الإقليمي- يصبح هذا السلاح الرقمي عنصرًا فعالاً في استراتيجية تفكيك الداخل وإبقاء البلد غارقًا بالمشاكل بدل تثبيت سيادته واستقراره.

المشهد الوطني يظهر واضحًا وتقاطعاته خطيرة. مؤسسات أمنية عراقية رصدت بالفعل انعكاسات العنف الرقمي على الواقع المعيشي، ووزارة الداخلية أعلنت أن بعض الألعاب والمنصات الإلكترونية ساهمت في تصاعد العنف والجرائم مما استدعى خطوات نحو الحظر بعد تحقيقات محلية. من جانب آخر تحدث باحثون ومختصون عن حالات ابتزاز رقمي، وعن استغلال فتيات من خلال ميزة البث المباشر مقابل «هدايا» قابلة للتحويل إلى أموال، وهو ما كشفت عنه تحقيقات دولية وتحقيقات صحفية موثوقة. هذه الظواهر لا تقف عند حدود الانتهاك الفردي، بل تفتح بابًا لاقتصاد استغلالي يولد أرباحًا لكل من يستثمره ويترك ضحاياه في هامش المجتمع.

الأثر الاجتماعي والنفسي يمثل بعدًا آخر من سلاح التفكيك. بيانات محلية لخبراء حقوق الطفل تشير إلى أن الأطفال العراقيين يقضون ساعات طويلة يوميًا أمام الشاشات، ومتوسط استخدام الفئات بين خمس وخمس عشرة سنة يتخطى عشرات الساعات أسبوعيًا، ما يؤدي إلى انعكاسات مباشرة تشمل اضطرابات النوم، تراجع التحصيل الدراسي، تنامي العدوانية والعزلة، ومخاطر الاكتئاب والقلق. وفيما تسجّل دول مثل المملكة المتحدة أرقامًا مقلقة عن اضطرابات الأكل وارتفاع إدخالات المستشفيات بين المراهقين المرتبطة بتعريضهم لمحتوى ضار، فإن العراق الأضعف مؤسساتيًا متوقّع أن يتحمل تبعات أشد لأن آليات الوقاية والعلاج والتوعية أقل قوة وانتشارًا.

تيك توك بين الأمن القومي العالمي والهشاشة العراقية

جلسة الاستماع التي مثل فيها الرئيس التنفيذي لشركة تيك توك أمام الكونغرس الأميركي أعادت النقاش العالمي حول موقع هذه المنصة في معادلات الأمن القومي. فالدعوات المتصاعدة داخل الولايات المتحدة لحظر التطبيق على مستوى البلاد، والتحذيرات المتكررة في بريطانيا وكندا ودول أوروبية أخرى من "صيد البيانات المفرط"، تكشف أن تيك توك لم يعد يُعامل كتطبيق ترفيهي بريء، بل كأداة يمكن توظيفها في التجسس، وبث الدعاية، وغسل العقول عبر التحكم بالخوارزميات. وفق تقارير أمنية وبحوث سيبرانية، هذه المنصة تُصنّف اليوم "حصان طروادة رقمي"، قادر على التسلل إلى البنية الاجتماعية والثقافية للدول وإضعافها من الداخل.

هذا النقاش يأخذ بعدًا أكثر خطورة في الحالة العراقية، خصوصًا بعد تصريحات بنيامين نتنياهو التي أكدت أن "تيك توك سلاح في معارك اليوم". فإذا كانت دول مستقرة ترى فيه تهديدًا للأمن القومي، فإن العراق، بهشاشته المؤسسية وصراعاته السياسية والاجتماعية، يقف في موقع أكثر تعرضًا. الأمن القومي العراقي بات مهددًا بصورة مباشرة، ليس فقط من خلال العنف المادي أو السلاح التقليدي، بل عبر اختراق المنصات الرقمية التي تعيد تشكيل وعي المجتمع، وتزرع الانقسام، وتفكك القيم، وتضعف ثقة المواطن بالدولة.

المختص في الأمن السيبراني وتكنولوجيا المعلومات علي العمران، علق على تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو والتي كشف فيها أدوات الحرب الحديثة. وقال العمران لـ"بغداد اليوم" إن "تصريحات نتنياهو التي اعتبرت منصات مثل «تيك توك» جزء من أدوات الحرب الحديثة تسلط ضوء على تحول حقيقي في طبيعة الصراع المعاصر وفي ضوء هذا التحول، لم تعد المواجهة محصورة في الجبهات التقليدية، بل امتدت إلى فضاءات رقمية تؤثر مباشرة في الوعي العام والنسق الاجتماعي للدول".

وأضاف أن "في العراق، الذي يواجه تحديات أمنية وسياسية واجتماعية متشابكة، يمكن أن تتحول الحملات الرقمية الممنهجة إلى أداة فعّالة لتفكيك اللحمة المجتمعية وزيادة الاستقطاب، ما يؤدي إلى إضعاف قدرة الدولة على إدارة الأزمات والمحافظة على سيادتها واستقرارها، والدراسات الأكاديمية حول (الحرب الناعمة المعلوماتية) تؤكد أن الهجوم على البنى الاجتماعية عبر التضليل، نشر الشائعات، واستغلال الأزمات الاقتصادية والسياسية يحقّق نتائج تؤدي إلى إضعاف المؤسسات أكثر من استهداف القدرات العسكرية التقليدية".

وبين أنه "يجب اتخاذ توصيات عاجلة ابرزها تعزيز سرعة وشفافية الاتصالات الرسمية، فعلى الجهات الحكومية تعزيز النشر الفعّال للمعلومات أثناء الأزمات عبر فرق متخصصة لإدارة الاستجابة الرقمية، كما يجب محو أمية رقمية وطنية من خلال إطلاق برامج تعليمية وتوعوية في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام لتمكين الجمهور من التحقق من مصادر المعلومات والتعامل مع المحتوى الرقمي بوعي، اضافة إلى شراكات فاعلة مع منصات التكنولوجيا عبر التنسيق مع شركات التواصل لاكتشاف وإزالة الحملات الممنهجة بسرعة، مع ضمان حماية الحريات الأساسية".

وتابع أنه "ضمن التوصيات يجب العمل على إطار تشريعي متوازن بتحديث القوانين لمكافحة التضليل وتمويل الحملات المعلوماتية الضارة مع ضوابط تحمي الحقوق والحريات، مع دعم مبادرات بناء المجتمع عبر تمويل مشاريع مجتمعية تعزز التعايش والتعاون بين مكونات المجتمع لتقليل هشاشة النسيج الاجتماعي، بالاضافة إلى بناء قدرات رصد مبكرة عبر إنشاء مراكز تحليلية محلية لرصد الاتجاهات الرقمية وتحليلها وتقديم تنبيهات مبكرة لصانعي القرار".

وختم العمران بالقول إن "المنصات الرقمية يمكن أن تكون ساحة صراع أو فضاء بناء، والنتيجة تعتمد على قدرة الدولة والمجتمع والقطاع الخاص على الاستجابة بحزم وذكاء، وإذا ما تم اتخاذ إجراءات متكاملة ومبكرة، يمكن تحويل هذه الفضاءات إلى أدوات تعزز الصمود الوطني بدلًا من أن تكون وسيلة لتفكيكه".

آليات عمل التهديد

ثمة آلية عمل للنوايا الخبيثة وراء ذلك السلاح الرقمي: أولًا تغذية النزعات المتطرفة أو العدوانية عبر محتوًى متكرر تكرّره الخوارزميات، ثانيًا خلق شبكة اقتصادية للاستغلال عبر الهدايا الرقمية والتحويلات خارج المنصة، ثالثًا إحداث شروخ في النسيج الاجتماعي عبر نشر مقاطع تخوين وتمييز واستهداف مكونات المجتمع المختلفة، ورابعًا استخدام الابتزاز لإسكات الأصوات أو لخلق أزمات أسرية واجتماعية تعطل الفاعلية الاجتماعية والسياسية. النتيجة النهائية ليست مجرد فرد مفكك أو أسرة مهزوزة، بل مجتمع أكثر هشاشة وأقرب إلى أن يصبح ميدانًا لخصوم خارجيين وإقليميين.

الأمثلة المحلية مرعبة: حوادث عنف يومية، حالات ابتزاز وانتحار، وعودة ظاهرة «النحر» كرمز للبشاعة التي تخرج من حيز التمثيل الرقمي إلى أرض الواقع. خبراء حقوق الإنسان قالوا بوضوح إن ما يحدث يحفر في القيم ويهدّد العقد الاجتماعي. والمفارقة أن المنصات تعتمد على نفس الديناميكيات الإعلامية التي كانت تستخدمها جيوش الدعاية سابقًا لكنها الآن أكثر حسما لأنها تملك قدرة فردانية على الوصول لكل هاتف ذكي في جيب وهوية كل مستخدم.

التصدي لهذا السلاح يتطلب مقاربة مختلفة كليًا عن إجراءات الطوارئ التقليدية. الحظر التقني فقط غير كافٍ في زمن وجود برامج تجاوز الحجب وVPN، والسياسات المكتوبة على الورق لدى الشركات العالمية لا تغني إذا كانت آليات الإنفاذ بطيئة أو انتقائية. ما يلزم هو منهجية وطنية متكاملة تجمع بين تشريع واضح وحازم، وإنفاذ قضائي فاعل، وسياسات تنظيمية تفرض على المنصات معايير تحقق العمر وتمنع اقتصاد الهدايا المشبوهة، وبرامج توعية وطنية تستهدف الأسر والمدارس ومسؤولي التربية، وبناء قدرة طبية ونفسية على التعامل مع حلقات الإدمان الرقمي واضطرابات الأكل والاكتئاب بين الشباب.

لكن الأهم من الآليات التقنية والسياسات هو الإقرار السياسي بأن هذه المواجهة هي جزء من معركة السيادة. إذا اعتبر العراق الفضاء الرقمي مجرد تفصيل تقني فحسب، فإنه سيخسر المعركة قبل أن يبدأها. إن الاعتراف بأن المنصات قد تُستخدم كسلاح لتفكيك الداخل يجب أن يتحول إلى استراتيجية سيادية تعالج العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل المجتمع قابلاً للاختراق. هذا يعني مواجهة الفقر والبطالة، معالجة تفشي المخدرات، تقوية النسيج التعليمي، ودعم الأسرة كمؤسسة حامية. بدون هذه البنية، ستبقى كل الإجراءات جزئية وتُعطي نتائج قصيرة الأمد.

سلاح المنصات الرقمية لا يطلق رصاصًا مرئيًا، لكنه يترك أثرًا أعمق وأكثر استدامة، أثرًا في العقول والقيم والسلوك. تصريحات نتنياهو لم تفضح فقط استخدام المنصات لأهداف عسكرية وسياسية، بل وضعت أمامنا حقيقة لا مفر منها: أن الحرب على العراق لم تعد فقط خارج حدوده، بل بدأت تخترق الداخل بآليات لا تقل فتكًا عن الحروب التقليدية. المواجهة تتطلب قرارًا وطنيًا حازمًا، وتكاملاً مؤسساتيًا، وإرادة مجتمعية تحمي الطفل والأسرة والمدرسة قبل أي شيء آخر، لأن استعادة السيادة الرقمية هي اليوم شرط لاستعادة السيادة الوطنية.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"

أهم الاخبار

مثنى السامرائي يشدد من الموصل على دعم استقرار المدينة وتنمية الخدمات

بغداد اليوم - زار رئيس تحالف العزم، المهندس مثنّى السامرائي، الشيخ أنور الندى اللهيبي، عضو التحالف، في مدينة الموصل، برفقة وفد نيابي وعدد من المسؤولين وأعضاء المكتب السياسي للتحالف، حيث جرى اللقاء بحضور جمع من وجهاء وأبناء المنطقة. وجرى خلال الزيارة

اليوم, 22:01