بغداد اليوم – بغداد
في مشهد اقتصادي متقلب يطغى عليه ضعف الرقابة وتذبذب العملة المحلية، تحوّل الذهب في العراق من سلعة تقليدية إلى أداة مالية مركزية، تعكس أزمات الداخل وتقاطعات الخارج في آن واحد. فالأرقام المعلنة للنصف الأول من عام 2025 كشفت استيرادات تجاوزت 30 مليار دولار من خمس دول رئيسية، تصدرتها الإمارات بـ10.5 مليار دولار، تلتها الصين بـ8.8 مليار، ثم تركيا بـ4.9 مليار، والاتحاد الأوروبي بـ3 مليارات، والهند بـ1.8 مليار. ومن بين هذه الاستيرادات، برزت المعادن الثمينة – وعلى رأسها الذهب – بقيمة 3.3 مليار دولار، لتؤكد أن هذا القطاع بات يحتل موقعاً استثنائياً في هيكل التجارة العراقية.
في ظل القيود التي فرضتها وزارة الخزانة الأمريكية منذ 2023 على التحويلات المصرفية، ظهر الذهب كقناة بديلة لتعويض النقص في الدولار. فبدلاً من خروج العملة الصعبة عبر الحوالات الرسمية، صار استيراد الذهب بكميات ضخمة وسيلة لتدوير الأموال، سواء عبر إعادة تصديره إلى دول مجاورة مثل تركيا، أو مقايضته ببضائع إيرانية، أو حتى استخدامه كأصل يسهل تسييله بعيداً عن أعين النظام المصرفي. وفق تقديرات اقتصادية، فإن الذهب تحوّل إلى "غطاء عملي" لعمليات تهريب الدولار، حيث يُستورد عبر منافذ رسمية لكن يُعاد توجيهه في مسارات مالية غير خاضعة للرقابة. هذا الدور المزدوج يجعل المعدن النفيس ليس مجرد سلعة، بل أداة بديلة تضاهي الدولار في التأثير.
البيانات السابقة تكشف أن عام 2024 شكّل نقطة تحوّل صادمة، حين بلغت قيمة استيرادات الذهب 12.5 مليار دولار، أي ما يعادل 16% من إجمالي استيرادات البلاد، وهو رقم يوازي تقريباً كامل احتياطي البنك المركزي من الذهب البالغ 18 مليار دولار. ومع غياب بيانات دقيقة عن المنافذ التي دخل منها الذهب أو آليات توزيعه داخلياً، تزايدت التساؤلات حول الوجهة النهائية لهذه الكميات: هل استُهلكت فعلياً في السوق المحلية، أم أُعيد تصديره، أم أنها استُخدمت كوسيلة مقايضة في علاقات تجارية غير معلنة؟
هذا التحول لم يبقَ شأناً مالياً بحتاً. في الأسواق، انعكس ارتفاع أسعار الذهب على الحياة اليومية بشكل مباشر. مراسل "بغداد اليوم" رصد ركوداً واسعاً في محلات الصاغة مع تجاوز مثقال الذهب عيار 21 حاجز 730 ألف دينار، فيما قفز عيار 24 إلى أكثر من 830 ألف دينار، بالتزامن مع تسجيل الأونصة عالمياً فوق 3600 دولار. هذه الأرقام دفعت كثيراً من الشباب إلى تأجيل الزواج، وفرضت على الأسر أعباء جديدة مع تضخم المهور. مختصون في الشأن الاجتماعي يحذّرون من أن الظاهرة لم تعد مجرد أزمة سوق، بل تهديداً لبنية المجتمع عبر تعميق ظاهرة العزوف عن الزواج وتأخير سن تأسيس الأسرة.
أمام هذه المعطيات، شدد الخبير الاقتصادي منار العبيدي على أن "الجهود الحكومية لضبط ملف الاستيرادات تواجه تحديات كبيرة، خصوصاً مع محاولة شمول جميع السلع بالإصلاح دفعة واحدة"، داعياً إلى "التركيز أولاً على السلع عالية القيمة مثل الذهب، وربط التعامل به بآليات دفع إلكترونية شفافة تسمح بتتبع حركة البيع والشراء ومعرفة المستفيد النهائي". وفق تقديرات مؤسسية، فإن أتمتة قطاع الذهب وحدها كفيلة بكشف الثغرات المالية وإغلاق الباب أمام استغلاله كغطاء لعمليات موازية.
من زاوية مغايرة، يرى الخبير الاقتصادي ناصر الكناني أن الأزمة لا تنحصر بالداخل العراقي وحده. "الارتفاع الأخير في أسعار الذهب داخل السوق العراقية لا ينفصل عن الموجة العالمية التي يشهدها المعدن النفيس"، يقول الكناني، موضحاً أن "السوق المحلية تتأثر بشكل مزدوج بحركة البورصات الدولية وسعر صرف الدولار في السوق الموازي". هذا الطرح يكشف أن العراق، رغم خصوصية أزماته، يبقى جزءاً من دورة عالمية تجعل الذهب ملاذاً آمناً للمستثمرين مع تصاعد التوترات الجيوسياسية، وأن صعود الأسعار ليس نتيجة محلية فقط، بل انعكاس لصدمات عالمية.
وفي خطوة وُصفت بالتحول الاستراتيجي، كشف الكناني أن "إقدام العراق على شراء أكثر من 20 طناً من الذهب خلال عام واحد وصعوده إلى المرتبة السابعة عالمياً في هذا المجال يعكس اتجاهاً محسوباً من البنك المركزي لتحصين الاقتصاد الوطني من تقلبات أسعار العملات الأجنبية". هذا التوجه، بحسب الكناني، "يمنح العراق مرونة أوسع في إدارة السياسة النقدية، ويعزز الثقة بالاقتصاد المحلي، وقد ينعكس إيجاباً على قيمة الدينار واستقرار السوق". غير أن هذا المسار يظل محفوفاً بمخاطر، إذ قد يتحوّل الذهب من رصيد استراتيجي إلى قناة مفتوحة إذا استمرت عمليات التهريب أو غابت الرقابة.
الخلاصة أن الذهب في العراق تجاوز كونه سلعة، وصار مفترق طرق بين ثلاثة احتمالات: أداة تحصين اقتصادي، عبء اجتماعي ضاغط، وورقة نفوذ سياسي. غير أن غياب الرقابة الصارمة يجعله أيضاً ثغرة مفتوحة يمكن أن تتحول إلى قناة دائمة لتهريب الدولار أو المقايضة مع دول الجوار بعيداً عن أعين النظام المصرفي، وهو ما يعرّض البلاد لمزيد من الانكشاف أمام الضغوط الخارجية. إن مستقبل هذا المورد لن يُحسم بحجم الأطنان التي تدخل إلى السوق، بل بقدرة الدولة على ضبط مساراته ومنع تسربه إلى اقتصاد الظل، بما يحوله من مصدر قلق إلى عنصر قوة، ومن أداة موازية لتهريب العملة إلى رصيد استراتيجي يكرّس الثقة بالدينار والسياسة المالية العراقية، بحسب مراقبين.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم- بغداد أعلنت وزارة التربية، اليوم الخميس، (9 تشرين الأول 2025)، عن حسم أكثر من 1200 قضية في شهري آب وأيلول الماضيين. وأفاد بيان للوزارة، تلقته "بغداد اليوم"، "بأبرز منجزات المديرية العامة للتقويم والامتحانات، بعد حسم أكثر من