بغداد اليوم - بغداد
تشهد الأسواق العراقية موجة جديدة من الارتفاع في أسعار الذهب، وهو لا ينفصل عن المشهد العالمي، لكنه يتخذ في الداخل بعدًا إضافيًا يرتبط بأزمة الدولار وتقلبات السوق المحلية. الذهب هنا لم يعد مجرد سلعة للزينة أو الادخار التقليدي، بل مؤشر على حالة القلق الاقتصادي، ومرآة تعكس تراجع الثقة في استقرار الأسواق. وفي هذا السياق يوضح الخبير في الشأن الاقتصادي ناصر الكناني لـ"بغداد اليوم" أن "الارتفاع الأخير في أسعار الذهب داخل السوق العراقية يأتي امتدادًا للموجة العالمية التي يشهدها المعدن النفيس منذ مطلع الشهر الماضي، والذهب ما يزال يمثل الوجهة الأكثر أمانًا للمستثمرين في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية وتقلبات الأسواق المالية العالمية". هذه القراءة، كما يشير محللون، تعكس أن العراق واقع في مدار التأثر لا الفعل، إذ يتلقى الصدمات الخارجية دون امتلاكه أدوات التخفيف الفاعلة.
ويمضي الكناني موضحًا أن "الأسعار في العراق مرتبطة بشكل مباشر بالتقلبات العالمية، حيث يتم تسعير الذهب محليًا وفق حركة البورصات الدولية وسعر صرف الدولار في السوق الموازية، ما يجعل السوق المحلية سريعة التأثر بأي تغير خارجي". هذا الارتباط المزدوج يفسر لماذا "انعكس ارتفاع الأونصة عالميًا فوق مستويات قياسية فورًا على أسعار الغرام في العراق، لاسيما عيارات 21 و22 الأكثر تداولًا بين المواطنين". مختصون يربطون ذلك بغياب سياسات داخلية قادرة على عزل السوق المحلي عن اهتزازات الخارج، ما يترك المواطن تحت وطأة عاملين معًا: البورصة العالمية وسعر الدولار الموازي.
ولإعطاء صورة أوضح، تجاوز سعر الأونصة عالميًا 3447 دولارًا، فيما سجّل مثقال الذهب في العراق مستويات غير مسبوقة: 690 ألف دينار لعيار 21، و592 ألف دينار لعيار 18، و722 ألف دينار لعيار 22، وصولًا إلى 788 ألف دينار لعيار 24. هذه القفزات تزامنت مع سعر صرف بلغ 143 ألف دينار للدولار في بغداد، و142,700 دينار في إقليم كردستان، ما ضاعف الضغط على الأسواق المحلية. مراقبون يشيرون إلى أن التقاء ارتفاع الذهب عالميًا مع اضطراب الدولار محليًا يجعل من السوق العراقية أكثر هشاشة في مواجهة أي موجة جديدة.
ويضيف الكناني أن "هذه الزيادة أدت إلى تراجع حجم المبيعات في الأسواق العراقية بشكل واضح، إذ أصبح الإقبال يتركز على الشراء المحدود أو على القطع الصغيرة نسبيًا، في حين عزف كثير من المواطنين عن اقتناء المشغولات الذهبية بسبب ارتفاع كلفتها". هذا التغير في السلوك الاستهلاكي لا يمكن فصله عن الضغوط المعيشية، كما يوضح مراقبون، حيث يفضّل المستهلكون التراجع أو الاكتفاء بالحد الأدنى بدل مواجهة أسعار تواصل الصعود. وفي المقابل يبيّن الكناني أن "بعض المدخرين والمستثمرين ما يزالون يرون في الذهب وسيلة لحماية أموالهم من التضخم وتذبذب أسعار الصرف"، وهو ما يعكس ازدواجية السوق بين عزوف المستهلك العادي وتمسك المستثمر الصغير بالملاذ الآمن.
وإلى جانب المشهد المحلي، تكشف مقارنة مع أسواق الجوار أن العراق ليس استثناءً. ففي تركيا، تجاوزت أسعار الغرام مستويات قياسية متأثرة بتراجع الليرة أمام الدولار، بينما تعيش السوق الإيرانية موجة مشابهة مع ضغوط العقوبات وتراجع الريال. هذه الصورة الإقليمية، كما يشير مختصون، توضح أن العراق جزء من حلقة أوسع تضغط فيها العوامل العالمية على الاقتصادات الهشة، لكن الفارق يكمن في أن بغداد تواجه تحديًا مزدوجًا يتمثل بضعف أدوات الحماية وتقلّب سعر الصرف في آن واحد.
وعلى الصعيد الاجتماعي، تبدو الطبقة الوسطى الأكثر تضررًا من هذه الارتفاعات. فالمثقال الذي تجاوز حاجز الـ700 ألف دينار أصبح خارج متناول العائلات التي اعتادت على اقتناء الذهب للادخار أو للمناسبات الاجتماعية كالزواج. مختصون في الشأن الاجتماعي يؤكدون أن ارتفاع أسعار الذهب يهدد التقاليد التي ارتبطت به، ويجعل كثيرًا من الأسر تتخلى عن شراء المصوغات أو تلجأ إلى بدائل أقل كلفة، وهو ما يترك أثرًا طويل الأمد على عادات الاستهلاك والادخار معًا. وفي المقابل، يرى مراقبون أن استمرار الوضع سيدفع بالطبقة الوسطى أكثر نحو الانكماش الاقتصادي، بما يضاعف الفجوة مع الشرائح الأعلى قدرة على مواجهة الأزمات.
ويؤكد الخبير أن "السوق العراقية تتأثر بعامل مزدوج، يتمثل في جانبين أساسيين: الأول هو حركة الأسعار العالمية، والثاني هو استقرار أو اضطراب سعر صرف الدولار محليًا، حيث يضاعف أي ارتفاع في العملة الأمريكية من الضغوط على الأسعار النهائية للذهب". هذه المعادلة، كما يشير محللون، تجعل من أزمة الذهب انعكاسًا مباشرًا لأزمة الدولار، بحيث يتغذى العاملان على بعضهما ويفرضان ضغوطًا متزايدة على القوة الشرائية.
ويتوقف الكناني عند التداعيات الأوسع، محذرًا من أن "استمرار هذه الموجة من الارتفاعات قد يترك آثارًا غير مباشرة على مجمل السوق المحلية، من خلال تراجع القوة الشرائية وتوجه رؤوس الأموال الصغيرة نحو الادخار بدلًا من الاستثمار، وهو ما قد يحد من حركة السيولة داخل الأسواق". هذه الإشارة تسلط الضوء، بحسب مختصين، على أثر غير مباشر لكنه عميق: انكماش الاستثمار لصالح الادخار يعني تعطيل عجلة النمو الاقتصادي وركود حركة التداول التجاري.
ويختم الخبير الاقتصادي بالقول إن "الجهات الاقتصادية المعنية يجب أن تتبنى خططًا لتقليل تداعيات هذه التقلبات، سواء عبر مراقبة أسعار الصرف أو بتقديم بدائل استثمارية آمنة داخل السوق المحلية، بما يضمن حماية المواطنين من آثار ارتفاع الأسعار العالمي وانعكاساته الداخلية". غير أن هذا المقترح، وفق مراقبون، يبقى رهن قدرة المؤسسات الرسمية على ترجمة الخطط إلى أدوات ملموسة، فهل ستتمكن بغداد من إيجاد بدائل حقيقية تكسر تبعية السوق للموجة العالمية، أم أن المواطن سيظل أسير الارتفاع كلما صعد الذهب في الخارج؟
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم - بيان صادر عن جهاز المخابرات الوطني بسم الله الرحمن الرحيم ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَىٰ بِاللَّهِ نَصِيرًا﴾ صدق الله العلي العظيم تمكّن جهاز المخابرات الوطني وبجهد استثنائي نوعي عابر للحدود