سياسة / ملفات خاصة اليوم, 10:05 | --

ضياع النص الأعلى


الدستور الموازي.. الوجه القانوني للنفوذ السياسي وتقاسم السلطة وتبرير الصفقات

بغداد اليوم – بغداد

تحوّل الدستور العراقي، بعد أكثر من عقدين على إقراره، من وثيقة يُفترض أن تنظّم العلاقة بين السلطات وتضمن الحقوق، إلى مرجعية مزدوجة يُقرأ نصها بطريقة ويُطبّق واقعها بطريقة أخرى. فبين ما نص عليه الدستور من مبادئ العدالة والمساواة، وما تُنتجه القوانين والتعليمات من امتيازات وممارسات حزبية، نشأت ظاهرة جديدة أطلق عليها مختصون وصف "الدستور الموازي"؛ منظومة من الأعراف والتشريعات الجزئية التي تعمل على إعادة تفسير النص الدستوري لخدمة مصالح ضيقة، تحت غطاء الشرعية القانونية.

يقول الخبير في الشؤون الاستراتيجية علي ناصر إن الدستور العراقي “كُتب تحت ضغط كبير على القوى السياسية في حينها، وبشهادة أعضاء في لجنة الصياغة الذين واجهوا حملات ترغيب وترهيب مارستها قيادات قوات التحالف آنذاك”، وهو ما أوجد – بحسب تعبيره – “فجوة بنيوية في نص الدستور وطريقة التصويت عليه، وترك الباب مفتوحًا لتأويلات متضاربة أنتجت لاحقًا ما يمكن وصفه بـ(الدستور الموازي)”. ويرى ناصر أن هذه الفجوة أتاحت المجال أمام القوى السياسية لـ “تفسير الدستور بما ينسجم مع مصالحها في البقاء بالسلطة”، معتبرًا أن هذا المسار يشبه ما وصفه بـ“السلاح المنفلت”، في إشارة إلى غياب الضوابط التي تحكم سلوك القوى الحاكمة.

لا يُمارَس النفوذ في العراق بالضرورة خارج القانون، بل في كثير من الأحيان يُغلَّف بالقانون ذاته. فحين تُعاد صياغة التفسيرات القضائية للنصوص الدستورية لتتلاءم مع موازين القوى، يصبح الدستور غطاءً للنفوذ لا حاجزًا أمامه. ومن هنا وُلد ما يمكن تسميته بـ"الدستور الموازي"، أي النسخة العملية من الدولة التي تُدار بمنطق التكييف السياسي لا الالتزام الدستوري.

يظهر هذا بوضوح في تفسير المحكمة الاتحادية العليا للمادة (76) من الدستور عام 2010، حين اعتبرت أن “الكتلة الأكبر” التي يحق لها تشكيل الحكومة ليست بالضرورة الفائزة في الانتخابات، بل يمكن أن تتشكل بعد إعلان النتائج. بهذا التفسير، تحوّلت نتائج الاقتراع من حسمٍ شعبيّ إلى مادة تفاوض بين الكتل السياسية، فصار من الممكن أن تؤول رئاسة الحكومة إلى من يملك القدرة على جمع التحالفات لا من يملك أصوات الناخبين.

يشير مختصون في الفقه الدستوري إلى أن هذا القرار مثّل نقطة فاصلة بين النص والواقع، إذ منح القوى المتنفذة شرعية قانونية لإعادة ترتيب المشهد بما يخدم مصالحها، من دون أن يبدو ذلك خرقًا صريحًا للدستور. وهكذا بدأ الدستور يفقد موقعه كمرجع ملزم، ليصبح مرنًا إلى الحد الذي تسمح به السياسة.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فحين صرّح رئيس المحكمة الاتحادية السابق جاسم العميري بأن المحكمة “تحكم بما تراه يخدم المصلحة الوطنية”، بدا أن المؤسسة القضائية ذاتها انتقلت من وظيفة التفسير إلى وظيفة التقدير السياسي. فمبدأ “المصلحة الوطنية” ليس نصًا في الدستور، بل مفهوم فضفاض يفتح الباب أمام الاجتهاد خارج النص، وهو ما جعل التوازن بين القانون والسياسة يميل دومًا لصالح الأخيرة.

في هذا السياق، يذهب خبراء القانون الدستوري إلى أن هذه الممارسات أفرزت قضاءً مزدوج المرجعية: أحدهما دستوري يلتزم بالنصوص، والآخر سياسي يراعي الواقع. وبهذا أصبحت المحكمة الاتحادية جزءًا من لعبة التوازن السياسي، تُفسّر المواد بحسب الظروف لا بحسب المعنى القانوني الثابت.

إن ما يسمّى بـ"الدستور الموازي" ليس وثيقة جديدة، بل منهج حكم يقوم على ترويض النصوص وتكييفها لتخدم التوافقات الحزبية، لا المبدأ الدستوري. وهو الوجه القانوني الأشد خطورة للنفوذ السياسي، لأنه يمنح الشرعية لما هو في جوهره تجاوزٌ على الدولة. وكلما اتّسعت مساحة التأويل، تقلّصت سلطة النص، واتسع ظلّ النفوذ الذي يكتب قواعده الخاصة باسم القانون.

ففي السنوات الماضية، أُقِرّت قوانين حملت طابعًا نخبويًا، مثل تعديل قانون الجوازات الدبلوماسية الذي منح امتيازات لأعضاء مجلس النواب وعائلاتهم، قبل أن تُبطله المحكمة الاتحادية العليا باعتباره مخالفًا لمبدأ المساواة. هذه الواقعة، برأي باحثين في القانون الدستوري، تمثّل نموذجًا لكيفية تحويل النص الدستوري إلى مظلة لشرعنة المصالح الشخصية عبر أدوات تشريعية تبدو قانونية في ظاهرها لكنها تنتهك روح العدالة في مضمونها.

ينطبق الأمر ذاته على تعديلات قانون الانتخابات التي غيّرت معادلة احتساب المقاعد لصالح الكتل الكبيرة (نظام سانت ليغو المعدل)، ما أضعف حظوظ المستقلين. وبالرغم من أن التعديل جرى وفق الإجراءات الدستورية، إلا أنه جسّد أحد أكثر أشكال “الدستور الموازي” وضوحًا: استخدام الشرعية الإجرائية لتقويض التعددية السياسية التي يفترضها النظام الديمقراطي.

جزء كبير من هذه الإشكالية يتجلى في بقاء قوانين موروثة من حقب سابقة تُطبّق إلى اليوم، رغم تعارضها مع الحقوق التي يضمنها الدستور. فالمادة (38) التي تكفل حرية التعبير والتظاهر، تقابلها قوانين عقوبات قديمة تُقيّد تلك الحريات بذريعة “المصلحة العامة”، ما يجعل النص الدستوري أقرب إلى إعلان نوايا لا إلى قاعدة نافذة.

كما يُسهم توسع السلطة التنفيذية في إصدار التعليمات بتكريس ما يسميه خبراء القانون بـ“السلطة التنظيمية الموازية”، حيث تُدار كثير من الملفات عبر تعليمات وزارية لا تمرّ عبر البرلمان، لكنها تملك أثر القانون في الواقع، لتصبح وسيلة للتحايل الإداري على النص الدستوري نفسه.

يرى مختصون في الحوكمة أن أخطر ما في “الدستور الموازي” هو أنه لا يظهر في النصوص بل في التحالفات السياسية التي تتحكم في تفسيرها. فحين يتحوّل التوافق إلى أداة لتقاسم النفوذ بدل إدارة الدولة، يصبح الدستور وثيقة مرجعية شكلية، فيما تتكفل التفاهمات الحزبية بإنتاج الدستور الواقعي.

ووفق قراءات بحثية في الفقه الدستوري، أدى هذا التراكم إلى تكوين ما يشبه الازدواج القانوني: دولة تُحكم بالدستور المكتوب في المحافل الرسمية، وأخرى تُدار بموازين القوة والصفقات داخل الغرف المغلقة.

يتفق باحثون في الاقتصاد السياسي على أن من نتائج هذا المسار تحوّل الامتيازات إلى إدمان مؤسسي؛ فكل حزب يسعى لتثبيت مكتسباته عبر تشريع أو استثناء، ما يخلق حلقة متواصلة من التضخّم القانوني في بنية الدولة.

تعديل قانون التقاعد، امتيازات كبار المسؤولين، آليات التعيين الخاصة، جميعها أمثلة على قوننة النفوذ تحت مظلة الشرعية الدستورية، حيث يتحول النص الأعلى إلى أداة تبرير بدلاً من أداة ضبط.

إن تجربة “الدستور الموازي” في العراق لا تعكس أزمة نصوص بقدر ما تكشف أزمة إرادة سياسية في الالتزام بروح الدستور. فالقوانين لا تُنتج عدالة ما لم تُنفَّذ بعقلية مؤسساتية. كل تعديل أو تعليمات تستند إلى استثناءات تضعف هيبة الدستور وتخلق واقعًا قانونيًا مزدوجًا: أحدهما رسمي يُدرّس في الجامعات، والآخر عملي يُدار بالمصالح.

ويرى مراقبون، إن من دون إصلاح دستوري حقيقي يعيد تعريف حدود السلطات وآليات الرقابة، سيبقى الدستور العراقي وثيقة محترمة في الشكل، معطّلة في الجوهر، وتستمر ظاهرة “الدستور الموازي” كأخطر مظاهر التحايل المنظّم على الدولة.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"

أهم الاخبار

حيدر الملا: العدالة تُقام لا تُمنح.. والاستبعاد السياسي يهدد الديمقراطية

بغداد اليوم – بغداد أكد القيادي في تحالف العزم حيدر الملا، اليوم الثلاثاء (21 تشرين الأول 2025)، إن العدالة تُقام ولا تُمنح، مشدداً على أن المطلوب هو عدالة الفعل لا عدالة النص، محذراً من أن الاستبعاد السياسي يمثل مؤشراً خطيراً يهدد جوهر الديمقراطية

اليوم, 11:52