بغداد اليوم - بغداد
يعيش العراق ما يمكن وصفه بـ"اقتصادٍ مصابٍ بالفساد البنيوي"، حيث لم يعد الفساد حادثا عابرًا أو انحرافا في السلوك الإداري، بل تحوّل إلى عنصرٍ مكوّن في معادلة السلطة، ومحرّكٍ خفيٍّ في دوائر القرار السياسي والاقتصادي. تشير التقديرات الرقابية والبحثية إلى أنّ العراق خسر ما يزيد على 600 مليار دولار خلال عقدين من الزمن بسبب الفساد الإداري والمالي، في وقتٍ لم يتجاوز فيه الإنفاق الفعلي على البنى التحتية والتعليم والصحة نسبة 20% من مجموع الإيرادات النفطية.
لكنّ هذه الحصيلة، التي أعلنها رسميًا رئيس الوزراء الأسبق مصطفى الكاظمي عام 2023، تغطي فقط الفترة حتى منتصف عام 2020، ما يعني أنّ السنوات الخمس الأخيرة (2021–2025) ما تزال خارج أي كشفٍ رسميٍّ شامل، رغم تراكم القضايا والفضائح التي شهدتها مؤسسات الدولة. وبحسب مراقبين، فإنّ استمرار غياب البيانات المحدثة بعد 2020 يشير إلى أنّ نزيف الفساد ما زال متواصلاً، وربما تفاقم في بعض القطاعات التي لم تخضع لتدقيق فعلي بعد.
وإذا ما تم اعتماد المعدل السنوي نفسه من الخسائر المسجَّلة حتى عام 2020، والبالغ نحو 35 مليار دولار سنويًا، فإن السنوات الخمس اللاحقة (2021–2025) كانت كفيلة بإضافة ما يقارب 176 مليار دولار أخرى إلى إجمالي الهدر والاختلاس. وبذلك، فإن المجموع التقديري للخسائر المتراكمة قد يتجاوز اليوم 775 مليار دولار، أي ما يعادل خمس موازنات عراقية كاملة وفق أرقام 2024.
توضح هذه المعادلة الحسابية أن استمرار بنية الفساد بالوتيرة ذاتها يعني أن الدولة لم توقف النزيف، بل نقلته من مرحلةٍ إلى أخرى دون قطيعةٍ مؤسسيةٍ حقيقية، ما يجعل كلفة الفساد في العراق متصاعدة زمنيًا ومركّبة سياسيًا. هذا الرقم وحده — حتى في شكله الناقص — كافٍ لتصوير حجم الأزمة البنيوية التي أصابت مؤسسات الدولة، وأضعفت قدرتها على النهوض بأبسط الخدمات العامة، رغم أنّ إجمالي الإيرادات النفطية منذ عام 2003 تجاوز 1.2 تريليون دولار. إنه رقمٌ يختصر فجوةً مريعة بين الثروة المتحققة والمردود التنموي، وبين ما جرى تحصيله وما جرى هدره.
تؤكد التحليلات المؤسسية أن هذه الخسائر لا تعبّر فقط عن المال المهدور، بل عن "رأس مال سياسي" مفقود أيضًا، إذ انعكس الفساد على الثقة العامة بالدولة، وعلى موقع العراق في مؤشرات النزاهة الدولية، حيث حلّ في المرتبة 140 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2024 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. إن هذا التراجع المستمر لا يعني فقط أن الفساد مستمر، بل أنه بات يُقاس بمدى انهيار الثقة في المؤسسات الرقابية أكثر مما يُقاس بحجم الأموال المنهوبة. وبذلك، تتحوّل كل محاولةٍ إصلاحية — مهما كانت متأخرة — إلى اختبارٍ وجوديٍّ للدولة نفسها: هل ما زالت قادرة على محاسبة نفسها، أم أن الفساد أصبح أحد شروط بقائها السياسي؟
حين نتحدث عن 600 مليار دولار، فإننا لا نتحدث عن رقمٍ في دفاتر المحاسبة، بل عن 3.7 مرّات من ميزانية العراق السنوية الحالية التي تبلغ نحو 162.9 مليار دولار وفق قانون موازنة 2024. بمعنى أوضح، فإن الأموال المهدورة حتى عام 2020 كانت كفيلة بتمويل موازنة العراق بالكامل لأربع سنوات متتالية دون تصدير برميلٍ واحد من النفط. وإذا ما أضفنا ما جرى بعد 2020 من قضايا موثقة — أبرزها قضية "سرقة القرن" التي بلغت وحدها 2.5 مليار دولار — فإن الخسائر الحقيقية تبدو أكبر من الرقم الرسمي بكثير. فلم تعلن أي حكومة منذ ذلك العام كشفًا مالياً محدّثًا، ولم تُعرض أمام البرلمان أرقامٌ تراكمية عن حجم الأموال المستردّة أو المهدورة، ما يعني أنّ الموازنة المفقودة قد تجاوزت سقف الـ600 مليار بالفعل.
وبمقارنة بسيطة، الأردن بميزانية سنوية تقارب 25 مليار دولار، كان يمكن أن تُموّل بالكامل لمدة 24 عامًا من تلك الأموال المهدورة. أما لبنان، الذي لا تتجاوز موازنته 16 مليار دولار، فكان يمكن أن يُغطّى إنفاقه العام لمدة 37 عامًا متواصلة. وسوريا التي تراوح ميزانيتها بين 8 و10 مليارات دولار، كان يمكن أن تُموَّل موازناتها لنحو 60 عامًا، فيما تكفي هذه المبالغ لتغطية موازنة الكويت البالغة 80 مليار دولار لمدة سبع سنوات كاملة.
تذهب تقديرات اقتصادية مستقلة إلى أن هذا الرقم يكفي لبناء 10 آلاف مدرسة حديثة، و1000 مستشفى، و5000 مجمع سكني متكامل، وإنشاء منظومة كهرباء وطنية مكتفية ذاتيًا، فضلًا عن شبكات مياه وصرف صحي تغطي جميع المحافظات. إنها ببساطة ميزانية إعادة إعمار دولة من الصفر، لكنها اختفت في دوامة العقود الوهمية، والصفقات الرديئة، والمحاصصة السياسية التي أعادت إنتاج الفساد في كل دورةٍ انتخابية تحت مسمياتٍ جديدة.
في هذا السياق، أكد النائب ياسر الحسيني خلال حديثه لـ"بغداد اليوم"، أن "الجهات الرقابية والقضائية تمضي في واحدة من أهم مراحل مكافحة الفساد في تاريخ العراق، عبر إحالة 22 ملفاً تُعد الأهم في معركتنا ضد الفساد إلى الجهات القضائية، من بينها الادعاء العام وهيئة النزاهة وديوان الرقابة المالية"، مضيفًا أن "الكرة الآن في ملعب القضاء الذي يمتلك الكلمة الفصل في حسم تلك الملفات".
تؤكد قراءات قانونية متقاطعة أن إحالة هذا العدد من الملفات في هذا التوقيت تمثل لحظة ضغطٍ سياسية–قضائية مزدوجة؛ فمن جهة، تحاول الحكومة الحالية إثبات جدّيتها في مكافحة الفساد قبل انتهاء ولايتها بشهرٍ واحد فقط، ومن جهةٍ أخرى، يجد القضاء نفسه أمام اختبارٍ للاستقلال والسرعة في آنٍ واحد.
تشير المداولات القانونية إلى أن قيمة هذه الإحالات لا تُقاس بعددها، بل بمستوى الشخصيات والمؤسسات التي ستطالها، وبقدرة النظام القضائي على تجاوز الضغوط السياسية التي عادةً ما ترافق الملفات الكبرى. أما التجارب السابقة فتؤكد أن معظم القضايا المشابهة أُغلقت تحت بند "عدم كفاية الأدلة" أو رُحّلت إلى حكومات لاحقة، ما يعني أن النجاح الحقيقي لهذه الإحالات لن يُقاس بالإعلان، بل بالحكم القضائي النافذ.
يقول المختص في شؤون مكافحة الفساد سعيد ياسين موسى لـ"بغداد اليوم"، إن "غياب المحاسبة الجادة وهيمنة القوى السياسية على المؤسسات شكّلت أبرز أسباب استمرار الفساد، إذ لم تُحاسب الجهات أو الأفراد المتورطين في الملفات الكبرى رغم وجود وثائق وتقارير رسمية تثبت حجم الانتهاكات والتجاوزات".
تؤكد قراءات بحثية أن ما يواجهه العراق ليس "فساد أفراد" بل منظومة نفوذ متكاملة تمتد عبر المستويات السياسية والإدارية والمالية والقانونية، بحيث تحوّلت مؤسسات الدولة إلى مناطق نفوذ حزبية أكثر من كونها وحدات تنفيذية محايدة. وبحسب دراسات الإدارة العامة، فإن غياب استقلالية الخدمة المدنية، وضعف الشفافية في التعاقدات الحكومية، ودمج الأجهزة الرقابية داخل المنظومة الحزبية، جعل من مكافحة الفساد عمليةً شبه مستحيلة دون إصلاحٍ إداريٍّ جذريٍّ وشامل.
ولهذا يشدّد موسى على أن "استعادة الثقة بالاقتصاد العراقي لا يمكن أن تتحقق دون إرادةٍ سياسيةٍ صادقةٍ وإجراءاتٍ قانونيةٍ حازمةٍ تعيد للدولة هيبتها وتوقف نزيف المال العام الذي يهدد مستقبل التنمية في البلاد"، داعيًا إلى تفعيل مبدأ (من أين لك هذا)، وتشريع قوانين تحمي المبلّغين عن الفساد، وتُلزم بالكشف العلني عن الذمة المالية.
تُجمع التقديرات السياسية على أن توقيت إحالة هذه الملفات — قبل شهر واحد من الانتخابات — يجعلها محاطةً بالشكوك، ليس لعدم أهميتها، بل لأنّها جاءت بعد سنواتٍ من الصمت والمماطلة الرقابية. فالحكومة التي تستعد لتسليم السلطة تبدو وكأنها تسعى إلى ترك أثرٍ معنويٍّ في اللحظة الأخيرة، أكثر من إحداث أثرٍ إصلاحيٍّ فعلي. وفق مقاربات سياسية حديثة، فإن محاربة الفساد لا تُقاس بمدى إعلانها، بل بمدى استدامتها. والإجراءات المتأخرة لا تكفي لتبديل الانطباع العام في بلدٍ يعتقد أغلب مواطنيه أن المحاسبة الانتقائية أصبحت جزءًا من اللعبة السياسية نفسها. تشير قراءات أكاديمية إلى أن الدولة التي تؤجل المواجهة حتى لحظة الوداع تفقد شرعية الإصلاح، لأنها لم تختر التوقيت الصعب، بل التوقيت الآمن. فالإصلاح الحقيقي لا يتم حين تكون السلطة في نهايتها، بل حين تكون في ذروة قوتها، قادرةً على المواجهة بلا حسابات انتخابية أو تفاهمات ائتلافية.
تمثل خسارة 600 مليار دولار — حتى عام 2020 — مرآة مكبّرة للعطب البنيوي في الدولة العراقية. لكنّ ما يجعل الصورة أكثر قتامة هو أن الخمس سنوات اللاحقة لم يُعلن فيها أي كشفٍ رسميٍّ للحصيلة الجديدة، رغم تراكم قضايا كبرى لم تُفتح بعد. ما يعني أن الرقم الحقيقي اليوم قد يتجاوز المليار السابع من مجموع الموازنات المهدورة. وإذا كانت إحالة 22 ملفًا ثقيلًا تمثل من حيث الشكل تطورًا إيجابيًا، فإن مضمونها سيظل مرهونًا بقدرة القضاء على تجاوز الإرادات السياسية وتطبيق العدالة بلا انتقائية. لأن ما سيحسم معركة الفساد في العراق ليس عدد الملفات ولا حجمها، بل قدرة الدولة على محاسبة نفسها قبل أن تحاسب الآخرين.
إن الدولة التي تهدر من مواردها ما يكفي لبناء ثلاث دولٍ مجاورة، ثم تُحيل ملفات الفساد في الأسابيع الأخيرة من دورتها السياسية، لا تمارس إصلاحًا فعليًا بقدر ما تُقدّم اعترافًا مؤجّلًا بعجزها البنيوي عن إدارة المساءلة في وقتها الطبيعي.
فكل دولارٍ مفقودٍ من تلك المليارات الستّ هو دليل توثيقي على غياب الدولة حين كان ينبغي أن تحضر كضامنٍ للعدالة والرقابة، وكل ملفٍ يُغلق دون حكمٍ نافذ هو تجسيد لاستمرار اختلال العلاقة بين القانون والسلطة، حيث تبقى العدالة مؤجلة في النص قبل أن تُؤجّل في التطبيق.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم" + وكالات
بغداد اليوم- بغداد رحّب رئيس تحالف العزم في محافظة ديالى، النائب رعد الدهلكي، اليوم الخميس (9 تشرين الأول 2025)، بالجهود المبذولة في التوصل إلى اتفاق يوقف نزيف الدم وانهاء عدوان الكيان الإسرائيلي على أهالي غزة، مؤكداً أهمية ضمان التزام الكيان ببنوده.