بغداد اليوم - بغداد
من جديد، تطفو على سطح السجال السياسي والإعلامي تقارير تتحدث عن نشاط عسكري إيراني داخل الأراضي العراقية، لكن هذه المرة ليست عبر دعم الفصائل المسلحة، بل عبر مزاعم باستخدام معسكرات عراقية لتدريب مقاتلين سوريين موالين لطهران. التقرير الذي نشره موقع "ميديا لاين" الأمريكي، يعيد فتح ملف التداخل الإقليمي بين العراق وسوريا وإيران، ويضع علامات استفهام أمام قدرة الدولة العراقية على ضبط حدودها ومسارات النفوذ غير الرسمي داخل أراضيها.
ورغم حساسية الموضوع وخطورته الإقليمية، سارع عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية ياسر وتوت إلى نفي الادعاءات، مؤكدًا أن العراق "رافض لأن يكون جزءًا من أي أزمة داخل سوريا"، مشيرًا إلى أن ما يُنشر من تقارير هو "محاولة لزج العراق قسرًا في صراعات لا تعنيه". لكن التوقيت، وتراكم الاتهامات السابقة، يعطيان هذا التقرير وزنًا لا يمكن تجاهله، ويثيران تساؤلات عن حقيقة ما يجري في الفراغات الأمنية التي لا تصلها الدولة، لا سيما في عمق البادية الغربية على امتداد خط الحدود مع سوريا.
هذه ليست أول مرة يُتهم فيها العراق – أو بالأحرى مناطق محددة منه – بالتحول إلى ساحة خلفية لتمرير أجندات عابرة للحدود، لكن ما يميز هذا الاتهام أنه لا يتحدث عن دعم فصائل عراقية، بل عن "نقل وتدريب سوريين"، ما يعني تطورًا نوعيًا إن صحّت المزاعم، وتحول العراق إلى ساحة تدريب وتصدير لقوة إقليمية موالية لطهران، بما يتجاوز حدود الدفاع المحلي أو الدعم السياسي التقليدي.
رد لجنة الأمن والدفاع: العراق ليس ساحة لأحد
في خضم تصاعد الاتهامات، جاءت لهجة لجنة الأمن والدفاع البرلمانية حاسمة ورافضة لكل ما ورد في التقارير الأمريكية. النائب ياسر وتوت اعتبر، عبر "بغداد اليوم"، أن ما يُنشر مجرد "شائعات لا أساس لها من الصحة"، مشددًا على أن "العراق لا يحتضن أي معسكر لتدريب قوات سورية، وأن موقفه واضح في رفض أي تدخل بالشأن السوري".
لكن هذا النفي، رغم قوته، يواجه تحديات بنيوية تتعلق بواقع السيطرة الميدانية على الأرض. إذ لا تزال مساحات شاسعة من البادية الغربية، الممتدة من الأنبار وصولًا إلى الحدود السورية، تُعرف بطبيعتها المفتوحة وصعوبة ضبطها، وهو ما يجعلها بيئة مثالية لأنشطة عابرة للحدود، سواء لفصائل موالية لإيران أو حتى لتنظيمات متطرفة في مراحل سابقة.
تصريحات وتوت تُعبر عن الرؤية الرسمية للدولة العراقية، أو على الأقل عن المسعى لإبراز العراق كطرف محايد لا يتورط في المحاور الإقليمية. فهو يشير بوضوح إلى أن "العراق لا يريد أن يكون جزءًا من أي تغيير سياسي أو عسكري يجري في سوريا، ولا يسمح بتحويل أراضيه إلى نقطة ارتكاز لأي طرف"، وهي رسالة موجهة إلى الخارج بقدر ما هي موجهة إلى الداخل، خصوصًا مع تصاعد الحديث عن الضغوط الأمريكية على الحكومة العراقية لضبط تحركات الفصائل المسلحة وتقييد نفوذها خارج الحدود.
لكن المفارقة أن هذا التصريح نفسه، بما فيه من وضوح، يُسلّط الضوء على معضلة العراق الكبرى: أنه يريد الحياد لكنه محاصر بالولاءات غير الرسمية، التي تتحرك أحيانًا خارج إرادة الدولة. إذ لا يخفى على أحد أن هناك فصائل مسلحة عراقية تمتلك ارتباطًا مباشرًا بالحرس الثوري الإيراني، بعضها يملك قواعد فعلية قرب الحدود السورية، وتاريخ طويل من التداخل العسكري في جبهات القتال هناك منذ 2013.
بالتالي، فإن تصريحات لجنة الأمن تبدو في مكان ما محاولة لاستباق التداعيات، أكثر منها تفنيدًا لمزاعم لا أساس لها، خاصة وأن الولايات المتحدة كانت قد استهدفت سابقًا مواقع لفصائل عراقية على الحدود بزعم دعمها لعمليات عسكرية في سوريا، كما حصل في ضربات 2019 و2021.
المصدر الأمريكي والمعلومات الواردة: رواية بديلة
التقرير الذي فجّر الجدل نشره موقع "ميديا لاين"، وهو موقع أمريكي يُعنى بشؤون الشرق الأوسط، نقل عن مصادر وصفها بـ"الاستخبارية المطلعة" أن إيران بدأت بالفعل بإعادة تشكيل نفوذها في سوريا عبر تدريب مقاتلين سوريين موالين للنظام السابق، داخل معسكرات صحراوية تقع في العراق.
الرواية التي قد تبدو للوهلة الأولى ضعيفة الاستناد، تكتسب وزنًا مضاعفًا حين نضعها في سياق ما نُشر سابقًا من تقارير في صحف أمريكية مرموقة، كـ"واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، التي تحدثت مرارًا عن خطوط دعم لوجستي تمر عبر العراق باتجاه سوريا، يقودها عناصر من فصائل عراقية تتبع لـ"محور المقاومة".
في تقرير آخر لنفس الموقع، أُشير إلى أن بعض المنشقين السوريين الذين قاتلوا سابقًا إلى جانب فصائل ممولة من إيران جرى تجنيدهم مجددًا عبر وسطاء عراقيين، لتشكيل ما يشبه "جيش ظل"، يتدرب في مناطق نائية من غرب العراق، تحت إشراف ضباط من "فيلق القدس"، ويعاد نشرهم لاحقًا داخل الأراضي السورية.
الهدف من هذا – وفق التقرير – ليس فقط دعم النظام السوري، بل خلق قوة موازية مستقلة عن الجيش السوري، موالية بالكامل لطهران، ومستعدة للعب أدوار استراتيجية في المنطقة، من الجنوب السوري إلى الجولان، بالتوازي مع تنامي التهديدات الإسرائيلية – الإيرانية.
وإن صحت هذه المزاعم، فإنها تمثل نقلة نوعية في نمط النفوذ الإيراني داخل العراق، فبدل أن تكون العلاقة مقصورة على الفصائل العراقية، تتحوّل الأراضي العراقية إلى منصة تدريب وتصدير لقوات أجنبية، وهو ما قد يُفسر سبب حساسية النفي العراقي لهذه الادعاءات.
ورغم أن التقرير لم يُسمِّ مواقع المعسكرات أو عدد العناصر، إلا أن الإشارة إلى "مناطق صحراوية" تُعيدنا إلى مشهد معروف: الفراغ الأمني في مناطق الرطبة والنخيب، ومثلث الحدود بين الأنبار ونينوى وسوريا، وهي مناطق سبق أن استخدمتها "داعش"، ثم تكررت التقارير حول وجود الفصائل فيها، وهو ما يجعل الرواية، رغم غياب الأدلة الميدانية، غير بعيدة عن التخيل الاستخباري الغربي.
المساحة الرمادية بين الدولة واللادولة: من يراقب من؟
حين يدور الحديث عن "معسكرات داخل العراق"، فإن السؤال لا يتوقف عند حدود النفي الرسمي أو التأكيد الغربي، بل يتجه نحو لبّ المعضلة الأمنية في البلاد: من يملك سلطة الفعل في المناطق الرمادية؟ تلك التي لا تخضع تمامًا لسيطرة الدولة، ولا تُدار علنًا من قِبل فصائل، بل تقع في حيز بيني تملؤه التأويلات والأنشطة غير المعلنة.
فعلى مدى السنوات الماضية، ظلت الحدود الغربية للعراق، الممتدة من الأنبار وصولًا إلى نينوى، مسرحًا لتحركات غامضة لفصائل مسلحة. بعضها معروف بولائه لإيران، وبعضها الآخر يُصنَّف باعتباره حليفًا ظرفيًا للحشد الشعبي، أو مجرد قوة محلية تنشط تحت مظلة "محاربة الإرهاب". في هذه المساحات، لا تملك الدولة أدوات رقابة دائمة، ولا يمكنها أن تُقدم أدلة قطعية على ما يجري فعلًا هناك، وهو ما يجعل كل رواية – سواء كانت تأكيدًا أم نفيًا – رهينة بحدود النفوذ السياسي لا المعلومة الاستخبارية الخالصة.
ومن هنا، تتكرس معضلة الرقابة ذات الطابع السيادي: فالعراق، حتى حين يُنكر وجود معسكرات أو تدريب عناصر أجنبية، لا يملك في الغالب قدرة ميدانية دائمة على تتبع الأنشطة غير الرسمية في عمق الصحراء، خاصة في ظل وجود جهات تملك السلاح، والعلاقات العابرة للحدود، وتتحرك ضمن غطاء "مقاوم" يُكسبها شرعية في نظر داعميها.
ولعل ما يضفي على المسألة بعدًا أكثر حساسية، أن الفاعلين في تلك المناطق – حتى إن لم يكونوا رسميين – يمتلكون علاقات وثيقة مع قيادات أمنية أو سياسية نافذة داخل الدولة، ما يجعل من أي محاولة لضبط تحركاتهم تحديًا مزدوجًا: أمنيًا من جهة، وسياسيًا من جهة أخرى.
وبينما تتحدث الحكومة عن دعم وحدة سوريا ورفض التدخل، تستمر بعض الفصائل – كما هو ظاهر في تصريحاتها وبياناتها – بالحديث عن "الواجب الجهادي" في مواجهة الاحتلال الأمريكي في سوريا، ما يعكس ازدواجًا في الخطاب، يجعل من حدود العراق "مرنة سياسيًا"، وإن كانت مغلقة جغرافيًا.
النتيجة المعلقة: ما بين النفي والوقائع الرمادية
في نهاية المطاف، يظل الجدل حول وجود معسكرات تدريب سورية داخل العراق معلقًا بين روايتين متوازيتين لا تلتقيان: رواية رسمية تؤكد التزام العراق بمبدأ الحياد والسيادة، وتنفي بشكل قاطع أي نشاط عسكري أجنبي خارج علم الدولة؛ ورواية استخبارية إعلامية غربية، ترى في العراق ساحة مفتوحة لنفوذ إيراني متعدد الأذرع، يتحرك فيها الحرس الثوري عبر الفصائل لا عبر السفارات.
وبين هاتين الروايتين، تقع الحقيقة غالبًا في منطقة رمادية لا تصلها التصريحات ولا تعترف بها البيانات. فالمسألة لم تعد تتعلق بمجرد نفي أو إثبات وجود معسكرات، بل بسؤال أعمق: هل تمتلك الدولة العراقية، فعلًا، سيطرة كاملة على كل من يحمل السلاح على أرضها؟
وهل تستطيع الحكومة أن تفرض موقفها حين تصطدم إرادتها بـ"مشروع أكبر" لا ينظر إلى الجغرافيا بوصفها حدودًا سياسية، بل كأراضٍ ضمن "فضاء المقاومة"؟
التاريخ القريب يُظهر أن الوقائع في العراق كثيرًا ما كانت تتقدم على التصريحات، وأن مساحات النفوذ تُبنى على الأرض، لا في القاعات. فحين كان بعض المسؤولين ينكرون وجود "داعش" في الموصل، كانت راياته تُرفع في الأحياء. وحين قيل إن الحدود ممسوكة بالكامل، كانت القوافل تُستهدف وتُقتل جنود أمريكيون على أطراف الوليد.
وهكذا، يبقى العراق – في مثل هذه القضايا – ضحية لسرديتين متناقضتين: الأولى تحاول إقناع الداخل بأنه ما زال دولة ذات سيادة، والثانية تخاطب الخارج بوصفه مجرد "ساحة وسطى" في صراع أكبر. أما الحقيقة، فهي غالبًا تُدار في المناطق التي لا تغطيها الكاميرات، ولا يدخلها الصحفيون، ولا تصلها حتى الخرائط الحكومية الدقيقة.
وفي هذا الفراغ، تتكاثر التفسيرات: هل فعلاً ثمة معسكرات؟ هل يتم تدريب سوريين؟ أم أن الأمر مبالغ فيه ومفبرك؟
قد لا نملك الإجابة القطعية اليوم، لكن ما نعرفه تمامًا هو أن الفراغات حين تُترك دون سلطة، تملؤها مشاريع الآخرين، وحين تصمت الدولة، تنطق البنادق نيابةً عنها.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم – متابعة اندلع، مساء اليوم السبت (3 أيار 2025)، حريق واسع في إحدى وحدات كبس الكرتون في منطقة قوجه سار التابعة لمدينة نظر آباد بمحافظة البرز الإيرانية، ما أدى إلى امتداد النيران بسرعة إلى 12 وحدة مجاورة، وفق ما أفاد به مسؤولون محليون. وقال