نيويورك تايمز: نيران الحقول تلوث البصرة وتهوي بالعوائل إلى “جحيم دانتي”
محليات | 19-07-2020, 16:23 |

بغداد اليوم _ متابعة
وضع رجالٌ من قرية نهران عمر، في القلب من جنوبي العراق الغني بالنفط، مظاريف كبيرة تتضمَّن تقارير لأشعةٍ سينية، وتقارير طبية، وشهادات وفاة، في ضريحٍ شيعي. جاءوا ليصفوا البؤس الذي يقولون إنه ينتج عن الغاز المُحترِق والمواد الكيميائية من آبار النفط في قريتهم. كان لكلٍّ منهم ابنٌ مريض أو زوجة بين الحياة والموت، أو أخ أو أخت أنهكهم المرض.
وتنقل صحيفة "نيويورك تايمز" عن خالد قاسم فالح، وهو شيخ قبيلةٍ هناك: "تصوَّر أن في البلدة التي تأتي منها كلُّ عائلةٍ لديها فردٌ مصابٌ بالسرطان، هذا هو الحال في نهران عمر".
تأتي المواد الكيميائية بالهواء -في نهران عمر وغيرها من البلدات النفطية عبر أرجاء جنوبي العراق- من اللهب المُنبعِث من ألسنة اللهب البرتقالية فوق آبار النفط، والتي تحرق الغاز الطبيعي الذي يصعد مع النفط، بحسب الصحيفة.
وتابعت أن العديد من البلدان قلصت هذه الممارسة، المعروفة باسم "الإحراق"، جزئيًا بسبب أنها تُهدِر موردًا نفيسًا. ووفقًا للوكالة الدولية للطاقة، قد يكون ذلك القدر من الغاز المحترق في العراق كافيًا لإمداد ثلاثة ملايين منزل بالطاقة.
لكن الإحراق أيضًا يبعث موادّ كيميائية تلوِّث الهواء والأرض والماء. وقد ثبُتَ أنه سببٌ في تدهور حالات الربو والضغط العالي، ويُعَدُّ سببًا في بعض حالات الإصابة بالسرطان، علاوةً على تسريع وتيرة التغيُّر المناخي.
غير أن العراق لا يزال يمارس ذلك الإحراق لأكثر من نصف الغاز الطبيعي الذي يُنتَج من حقول النفط، ويُعَدُّ هذا أكثر من أيِّ بلدٍ آخر، باستثناء روسيا، بحسب التقرير.
واشارت نيويورك تايمز، إلى أن هذه الممارسة تساهم في تعزيز المفارقة الغريبة بمجال الطاقة في العراق، إذ لدى هذا البلد بعض من أكبر احتياطيات العالم من النفط والغاز، بينما يواجه عجزًا مُزمِنًا في الطاقة وانقطاعات مستمرة فيها. ولتغذية محطات الكهرباء التي تعمل بالغاز خلال فصل الصيف الحار الطويل، على العراق أن يستورد الغاز الذي يشتريه في المقام الأول من إيران.
وقال علي الصفار، رئيس قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالوكالة الدولية للطاقة في باريس: "بإمكان العراق أن يحقِّق اكتفاءً ذاتيًا. إنها معضلةٌ في حدِّ ذاتها أن يشعل العراق الغاز في الوقت نفسه الذي يستورده فيه".
وبينما يتفكَّك اقتصاد العراق تحت الهجوم المُزدوَج لانهيار أسعار النفط وجائحة فايروس كورونا المُستجَد، لا يمكنه تحمُّل عدة مليارات من الدولارات سنويًا للإنفاق على شراء الغاز من إيران. وعلاوةً على ذلك، قُوِّضَت عمليات الشراء من إيران إثر العقوبات الأمريكية التي تهدف إلى منعها من بيع النفط والغاز.
ولفتت الصحيفة، أن المسؤولين العراقيين يقرون بالحاجة إلى تقليص الإحراق، لكنهم يقولون إن الجهود المبذولة من أجل بناء مصانع وخطوط أنابيب باهظة التكلفة لاستخراج الغاز من آبار النفط قد أُعيقَت بسبب الحرب، والآن بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية.
وبعد استيلاء تنظيم داعش على ثلث مساحة البلاد في 2014، استلزَمَت المعركة ضد التنظيم كلَّ عائدات الحكومة لسنواتٍ عدة. وفي الأشهر الستة الأخيرة، حَرَمَ انهيار أسعار النفط الحكومة من مصدر عائداتها الرئيس، وتسبَّبَت جائحة فايروس كورونا المُستجَد في إغلاق قطاعاتٍ كبرى من الاقتصاد.
وقال ثامر الغضبان، وزير النفط السابق في العراق: "حسنًا، نحن نحترم انتقادات الناس، لكن دعهم يأتون هنا ويحاولون تشغيل مصانع النفط والغاز في ظلِّ هذه الظروف".
ولسنواتٍ من الزمن، لم يكن استخراج الغاز أولويةً، بالنظر إلى إمدادات النفط غير المتناهية على ما يبدو في العراق. لكن المسؤولين يقولون إن دوام الحال من المحال. بعد سنواتٍ من التأجيل، افتتح العراق مصنعًا كبيرًا لاستخلاص الغاز في عام 2018، بتكلفةٍ تُقدَّر بـ1.5 مليار دولار، وفقًا لخبراء في قطاع النفط. لكن المصنع لا يمثِّل إلا خطوةً أولى، إذ استخلص أكثر قليلًا من نصف الغاز من ثلاثة آبار نفط كبرى. وهناك 15 حقل نفط في محافظة البصرة وحدها.
وأعلنت وزارة النفط الشهر الماضي خططًا من أجل تطوير مصانع تعمل على استخلاص معظم الغاز الذي يُحرَق في جنوبي العراق. وقال الغضبان إن المشروعات ستبدأ عملها في غضون عامين أو ثلاثة. ويقول خبراء طاقة دوليون إنه بالنظر إلى المشكلات الاقتصادية في العراق فإن هذه المشروعات متفائلة بدرجةٍ زائدة.
ووصف الصحيفة الأميركية، أن الطيران إلى البصرة ليلًا يبدو وكأنه منحدرٌ إلى "جحيم دانتي"، حيث أعمدة اللهب المُضاءة بلونٍ برتقالي في الظلام. هذه المحافظة قائظة الحرارة، التي تتجاوز فيها درجة الحرارة في الصيف عادةً 49 درجة مئوية، والتي تشمل ثلاثة ملايين نسمة في الركن الجنوبي الشرقي من العراق، تحوز 60% من احتياطيات النفط المؤكَّدة لدى العراق. لكن الحرارة المرتفعة لم تكن هي التي أذهلت الناس لدى سماعهم توقُّعات الطقس الصباحية في آب الماضي.
قال مذيع الطقس: "نحن ندق ناقوس الخطر. اليوم هناك غازاتٌ سامة في سماء جنوبي العراق قد تضرُّ الناس. وهذه الغازات السامة هي نتيجة عوادم النفط والسيارات".
وليس إحراق الغاز هو السبب الوحيد للتلوُّث في الجنوب الشرقي الغني بالنفط. فمصانع البتروكيماويات، والمصارف الصحية العتيقة، واليورانيوم من الأسلحة المتهالكة والعتاد الحربي من الحروب الأخيرة، كلُّ ذلك يساهم في ما أطلق عليه شكري حسن، أستاذ البيئة بجامعة البصرة، "كوكتيل من المُلوِّثات".
وقال حسن: "إن جودة الهواء سيئةٌ حقًا، وجودة المياه رديئة للغاية أيضًا، وهناك الكثير من المشكلات في التربة. وكلُّ ذلك يجعل من البصرة مكانًا غير صالح للعيش".
ويعيث الإحراق فسادًا في البيئة، إذ تُطلِق هذه العملية ما يصل إلى 30 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا في سماء العراق، أي ما يقرب من 10% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم أجمع.
في الوقت نفسه، يمكن أن يُستخدَم حرق الغاز في العراق بمحطات الطاقة، ما سيزيد من اعتماد البلاد على الوقود النفطي ويزيد من الضرر البيئي.
وقال علي شداد الفارس، وهو مستثمرٌ محلي في قطاع البناء يرأس لجنة النفط والغاز في مجلس المحافظة (المنحل)، إن العراق لديه قوانين بيئية لائقة بالفعل، لكن لا أحد ينفِّذها. ويضيف: "لقد التزمت شركات النفط بحماية البيئة، ولكن ليس هناك تطبيقٌ حكومي. تتمثَّل مهمتهم في حماية الناس، لكنهم لا يفعلون ذلك".