بغداد اليوم – بغداد
بينما تتسع رقعة الجرائم المالية في العراق بأساليب متطورة وأشكال متجددة، تتصاعد الأصوات من داخل المؤسسات القضائية والرقابية للتحذير من هشاشة منظومة الردع، وضعف العقوبات التي لم تعد تواكب حجم الخطر. فبحسب مختصين، ما زالت القوانين العراقية تُطبّق بمعايير تقليدية على جرائم تجاوزت منذ زمن حدود الفعل الفردي، لتتحول إلى شبكات مالية منظمة تمتلك أدواتها داخل أجهزة الدولة.
العقوبات غير الكافية كانت محور تحذير القاضي خالد صدام، رئيس محكمة جنايات مكافحة الفساد المركزية، الذي شدد على أن “العقوبات المفروضة حاليًا على الجرائم المالية لم تعد كافية لتحقيق الردع المطلوب”، موضحًا أن “حماية المال العام، الذي يعتبر ملكية للشعب والركيزة الاقتصادية للدولة، لا يمكن أن تتحقق دون مواجهة جميع أشكال الفساد، مهما كانت مواقعها أو مظاهرها”.
القاضي صدام، الذي تولّى منصبه بعد إعادة تشكيل المحكمة في نهاية عام 2021، دعا إلى تجديد التشريعات وتعزيز أدوات الرقابة على نحو يضمن حماية المال العام من الهدر والتلاعب، مؤكدًا أن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق بالعقوبات القديمة ذات الطابع الزجري، بل بتشريعات حديثة تواكب التحولات الاقتصادية وتحد من الإفلات من العقاب.
يتقاطع هذا التحذير مع ما أكده لـ"بغداد اليوم"، المختص في مكافحة الفساد علي الحبيب، الذي يرى أن “الجرائم المالية لم تعد مجرد تجاوزات فردية، بل تحولت في بعض الأحيان إلى شبكات منظمة تمتلك وسائل وأدوات تمكنها من الالتفاف على القانون”، داعيًا إلى “تحديث الإطار التشريعي وتغليظ العقوبات لتتناسب مع خطورة الأفعال التي تمس الاقتصاد الوطني وثقة المجتمع بالمؤسسات العامة”.
ويضيف الحبيب أن “الردع الحقيقي لا يتحقق فقط عبر الأحكام القضائية، بل أيضًا من خلال تعزيز منظومة النزاهة والرقابة الوقائية داخل المؤسسات الحكومية، وتفعيل أدوات المساءلة الإدارية والمالية قبل وقوع الجريمة، لأن الوقاية من الفساد لا تقل أهمية عن معاقبة مرتكبيه”.
بعد إعلان النصر على تنظيم داعش في عام 2017، أعادت المرجعية الدينية العليا في النجف توجيه البوصلة نحو معركة أخرى وصفتها بأنها "أشد وأطول" من الحرب العسكرية نفسها: معركة الفساد.
كان ذلك التحذير بمثابة بيان مبكر عن طبيعة التحدي الذي يواجه الدولة العراقية بعد السلاح، فالمعركة ضد الفساد لم تكن، في نظر المرجعية، معركة ضد أشخاص بل ضد منظومة تتغذّى على المال العام وتُضعف مؤسسات الدولة من الداخل.
تقول دراسات في الشأن المالي والقانوني إن الترسانة التشريعية العراقية الخاصة بمكافحة الفساد لم تشهد تحديثًا جوهريًا منذ أكثر من عقد، على الرغم من التطور السريع في أساليب غسل الأموال والاختلاس والتحايل المصرفي.
ويرى مختصون أن هذا الجمود التشريعي جعل من الفساد جريمة منخفضة المخاطر مرتفعة العائد، إذ غالبًا ما تكون العقوبات غير رادعة أو قابلة للتسوية الإدارية.
ويحذر باحثون في الشأن الاقتصادي من أن الفساد لم يعد مجرد خلل سلوكي، بل أصبح نظاماً موازياً يبتلع المال العام ويعيد إنتاج نفسه داخل المؤسسات الرسمية، ما يجعل الإصلاح الحقيقي مرهونًا بوجود إرادة سياسية حازمة تعيد تعريف وظيفة القانون.
الأكثر إثارة، أن الولايات المتحدة نفسها بدأت تفكر في نقل نموذج "التسويات مع الفاسدين" إلى العراق عبر مبعوثها الخاص مارك سافايا، في خطوة تعكس تحولاً في مقاربة واشنطن لملف الفساد في المنطقة.
فالمبعوث الأمريكي، بحسب تسريبات دبلوماسية وتقارير بحثية، يعمل على صياغة مبادرة تستند إلى تجربة “التسويات التفاوضية” (Negotiated Settlements) التي توسّع استخدامها داخل الولايات المتحدة بموجب قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (FCPA)، لتُطبّق في دول تعاني من الفساد البنيوي كالعراق.
الهدف المعلن من المبادرة هو استرداد الأموال المنهوبة وتسوية الملفات الكبرى خارج إطار المحاكمات الطويلة، ما يعكس تحوّلاً في فلسفة الردع الأميركية نحو ما تسميه مؤسساتها القانونية “الردع الذكي” بدلاً من “الردع الانتقامي”، أي التركيز على إعادة المال إلى الدولة لا الزجّ بالمذنبين خلف القضبان فقط.
يتفق القاضي خالد صدام والمختص علي الحبيب على أن العقوبات وحدها لم تعد كافية، وأن الردع الحقيقي يبدأ من بناء ثقافة مؤسساتية للنزاهة، وتفعيل منظومة المساءلة داخل الدولة قبل أن تتدخل السلطة القضائية.
فحماية المال العام – كما يختتمان – ليست مجرد مسؤولية قانونية، بل اختبار لإرادة الدولة في مواجهة شبكة المصالح التي صنعت من الفساد نظام حكم موازٍ، يتغذّى من ضعف الردع ويتنفس من هوامش التساهل.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة - بغداد اليوم
بغداد اليوم – بغداد في 11 تشرين الثاني 2025، يستعد العراق لإجراء الانتخابات البرلمانية في لحظة مفصلية من مسار الدولة والمجتمع. تتزامن هذه الانتخابات مع تحدّيات كبرى: ضعف الثقة الشعبية في النتائج، استياء المواطنين من تكرار الوجوه السياسية، وتحالفات مكوكية