بغداد اليوم - بغداد
تواجه الدول التي يتغلغل فيها الفساد خيارين لا ثالث لهما: إما بناء مؤسسات رقابية قادرة على ردع النهب وإعادة توجيه المال العام نحو التنمية، أو البقاء داخل دوامة الاقتراض والعجز المزمن. وبينما اختارت السعودية الطريق الأول عبر تجربة ولي العهد محمد بن سلمان، الذي حوّل مكافحة الفساد إلى مشروع وطني بنيوي، ما يزال العراق يراوح مكانه داخل نظام إداري متآكل، يُنتج الفساد ويعيد تدويره بأسماء جديدة.
في تشرين الثاني 2017، أطلق محمد بن سلمان واحدة من أكثر الحملات حسماً في التاريخ الحديث ضد الفساد. خلال أيام، جرى احتجاز عشرات من كبار رجال الأعمال والأمراء في فندق الريتز–كارلتون بالرياض، ضمن عملية هدفت إلى استرداد الأموال المنهوبة. كانت الرسالة بسيطة لكنها جذرية: لا أحد فوق المساءلة.
انتهت الحملة باستعادة أكثر من 100 مليار دولار عبر تسويات قانونية، وتحولت إلى نقطة تحول في العلاقة بين السلطة والمال. فقد أُعيد تعريف الشرعية السياسية على أساس النزاهة والمساءلة، وأُنشئت هيئات رقابية مستقلة تتابع الملفات بلا استثناءات. هذا التحوّل البنيوي أعاد الثقة في الدولة، ورسّخ فكرة أن مكافحة الفساد ليست رد فعل، بل سياسة دائمة.
على النقيض، يواجه العراق أزمة مالية متصاعدة رغم امتلاكه واحدة من أكبر الثروات النفطية في العالم. فبحسب بيان البنك المركزي العراقي الأخير، بلغ العجز الفعلي في الموازنة العامة للسنوات الثلاث الماضية 35 تريليون دينار، في وقت تجاوز فيه متوسط سعر النفط 75 دولارًا للبرميل، وبلغت الصادرات أكثر من 3.3 ملايين برميل يوميًا.
الخبير الاقتصادي نبيل المرسومي حذّر من أن “تمويل هذا العجز تم عبر الاقتراض الداخلي الذي وصل إلى أعلى مستوى في تاريخ العراق متجاوزاً 91 تريليون دينار”، معتبرًا أن ذلك “يعكس خللاً واضحًا في إدارة الموارد المالية ويزيد من الضغوط على الاقتصاد الوطني”.
النائب أحمد الشرماني بدوره حذّر من أن استمرار هذا الاتجاه “قد يهدد الاستقرار الاقتصادي ويقوض قدرة الدولة على تمويل التنمية”، مشيرًا إلى أن “تنامي الدين الداخلي بهذا الشكل يضغط على النظام المصرفي ويحد من قدرة القطاع الخاص على النمو، كما يؤدي إلى ارتفاع التضخم وتآكل الاحتياطات النقدية إن استمر التمويل عبر الطباعة النقدية غير المغطاة”.
ورغم محاولة البنك المركزي التخفيف من المخاوف بالإشارة إلى أن “نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي لم تتجاوز 43%، وهو مستوى آمن وفق التصنيفات الدولية”، إلا أن مؤشرات العجز والاقتراض المتراكم تُظهر أن الاقتصاد العراقي يسير نحو اعتماد شبه كلي على التمويل الداخلي بدل الإنتاج الفعلي.
الخبير في الشؤون الاستراتيجية حسين الأسعد يرى أن “العراق اليوم بحاجة إلى نموذج قيادي يشبه تجربة محمد بن سلمان، يملك الشجاعة على مواجهة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة ووضع مصلحة الدولة فوق كل اعتبار”.
ويضيف الاقتصادي صادق الركابي أن “30% من الديون ذهبت لمشاريع وهمية في قطاع الكهرباء”، مؤكدًا أن “محافظ البنك المركزي السابق علي العلاق دعم منظومة الفساد بتخفيض سعر الصرف دون مبرر اقتصادي، ما تسبب بإثراء غير مشروع لشبكات مالية مرتبطة بالنفوذ السياسي”.
من جهته، يرى الباحث منار العبيدي أن “الاقتصاد العراقي تحكمه اليوم تحالفات المصالح لا القوانين، والتوافقات السياسية أوصلته إلى مرحلةٍ أصبح فيها الإصلاح مرهونًا بالمجاملات”. ويضيف أن “العراق يعيش حكمًا أوليغارشيًا تتحكم فيه أقليات مالية وسياسية تفرض قراراتها من وراء الكواليس، وتحول دون أي محاسبة فعلية”، محذرًا من أن “حتى لو انخفض سعر النفط إلى 10 دولارات، فإن النظام سيخدّر الناس بالوعود ذاتها لتأجيل المواجهة”.
في السعودية، استُعيدت المليارات خلال أشهر، وأُعيدت هيبة الدولة في أعين مواطنيها. أما في العراق، فملفات الفساد تُحال كل دورة انتخابية إلى القضاء من دون نتائج ملموسة.
يقول المختص في شؤون مكافحة الفساد سعيد ياسين موسى إن “غياب المحاسبة الجادة وهيمنة القوى السياسية على المؤسسات جعل الفساد يستمر رغم وفرة الأدلة والوثائق”. ويرى أن “أغلب القضايا الكبرى أُغلقت بذريعة عدم كفاية الأدلة، ما يجعل من الإصلاح عمليةً شكلية لا جوهرية”.
تُجمع التحليلات الأكاديمية على أن المشكلة في العراق ليست في النصوص القانونية، بل في تعطّل إرادة تنفيذها. فحين تكون القوى المتهمة بالفساد هي ذاتها التي تُشرف على المحاسبة، يفقد القانون معناه. وهكذا يتحول الفساد إلى نظام حكم، لا مجرد خلل في السلوك الإداري.
الفارق الجوهري بين العراق والسعودية لا يتعلق بحجم الثروة، بل بطبيعة القرار السياسي. في السعودية، وُجّهت الضربة إلى البنية التي تحمي الفساد، بينما في العراق، ما زال الفساد هو من يحدد من تُوجّه إليه الضربة.
حين استردت الرياض 100 مليار دولار، كان الهدف إعادة الثقة في الدولة. أما بغداد، فخسرت أكثر من سبعمئة مليار دولار ولم تسترد سوى بيانات تبريرية. هناك صُنعت الإصلاحات في لحظة قوة؛ وهنا تُطرح الوعود في لحظة ضعف.
إنّ العراق لا يحتاج إلى تكرار تجربة محمد بن سلمان بحذافيرها، لكنه بحاجة إلى تبنّي جوهرها: الإرادة. إرادة تجعل من المال العام خطًا أحمر، ومن المحاسبة جزءًا من شرعية الدولة لا استثناءً عنها. فالإصلاح الحقيقي لا يتحقق بالتصريحات أو اللجان، بل بالقدرة على كسر “نظام الحصانة” الذي جعل الفساد جزءًا من إدارة الحكم.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم" + وكالات
بغداد اليوم - بغداد أصدر وزير الدفاع، ثابت محمد سعيد العباسي، اليوم الأربعاء (22 تشرين الأول 2025)، توجيهات بشأن الانتخابات البرلمانية المقبلة. يتبع..