بغداد اليوم - بغداد
شهدت واشنطن هذا الأسبوع مشاركة الوفد العراقي في مؤتمر الإصلاح المصرفي المنعقد على هامش اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين، في حدث يُعد اختبارًا عمليًا لمدى قدرة بغداد على تقديم صورة واقعية عن نتائج برنامجها الاقتصادي.
الوفد العراقي، الذي ضم عدداً من المستشارين والمسؤولين الماليين، سعى إلى إبراز ما تحقق من خطوات إصلاحية خلال العامين الماضيين، بوصفها مؤشرات على انتقال الدولة من مرحلة إدارة الأزمة إلى مرحلة بناء المنظومة الاقتصادية الحديثة.
مستشار رئيس الوزراء صالح ماهود سلمان، الذي قدّم ورقة العراق في المؤتمر، عرض سلسلة إجراءات وصفها بأنها “مرحلة مفصلية في مسار الإصلاح الاقتصادي والمالي”، موضحًا أن الحكومة “تنفذ حزمة إصلاحات مصرفية استراتيجية بالتعاون مع البنك المركزي وشركات استشارية دولية”، وتركّز على “إعادة هيكلة المصارف الحكومية وتوسيع الشمول المالي وأتمتة النظام الجمركي والضريبي”.
لكن هذا العرض، رغم أهميته من الناحية الإدارية، يفتح الباب لتساؤلات أوسع حول عمق التحوّل ومدى توافقه مع متطلبات الاقتصاد العالمي المتسارع.
فالإصلاح في بيئة مالية مثل العراق، حيث تتداخل التحديات البنيوية مع القيود السياسية، لا يُقاس بعدد المشاريع بقدر ما يُقاس بقدرة الدولة على تغيير سلوك النظام المالي نفسه.
مؤشرات إصلاح.. ولكن إلى أي مدى؟
تقول الحكومة إن إعداد موازنة لثلاث سنوات يمثل نقلة نوعية في التخطيط المالي، باعتبارها خطوة غير مسبوقة في تاريخ الدولة العراقية الحديث. لكن خبراء في الاقتصاد المالي يشيرون إلى أن نجاح هذا النموذج يرتبط بتوافر بيانات دقيقة واستقرار في السياسة النقدية، وهما شرطان لا يزالان يواجهان صعوبات في بيئة مالية تعتمد بنسبة تفوق 90% على الإيرادات النفطية.
ويرى مختصون في الاقتصاد المؤسسي أن “الاستقرار في الموازنة لا يعني بالضرورة استقراراً في النمو”، إذ إن التقلب في أسعار النفط، وضعف التنويع الاقتصادي، يجعل أي تخطيط طويل الأمد عرضة للاهتزاز بمجرد حدوث أزمة عالمية أو تراجع في الطلب على الخام.
في المقابل، يشير مستشار رئيس الوزراء إلى أن الحكومة تمكّنت من زيادة الإيرادات الجمركية والضريبية عبر أتمتة نظام الجمارك باستخدام برنامج (أسيكودا) المعتمد من الأمم المتحدة، وهو ما يعكس بداية لتقليص الفجوة بين الاقتصاد الرسمي والاقتصاد الموازي.
ومع ذلك، يرى باحثون اقتصاديون أن نجاح هذه الخطوة يحتاج إلى نظام رقابي فعّال وهيكل إداري مرن، لأن التكنولوجيا وحدها لا تكفي لتغيير ثقافة العمل أو الحد من الفساد الإداري الذي يُعدّ من أبرز معوّقات الإصلاح المالي في العراق.
الشمول المالي والتحول الرقمي.. بين الطموح والقدرة
تُعدّ أنظمة الدفع الإلكتروني إحدى أكثر الملفات التي شهدت تقدماً ملموساً، إذ ارتفعت نسبة الشمول المالي من أقل من 10% إلى أكثر من 40% خلال عامين، وفق ما أكده المستشار الحكومي.
هذه القفزة الرقمية تُعَدّ مؤشراً على تحول تدريجي في السلوك المالي للمواطنين، خاصة مع توسع استخدام البطاقات المصرفية وخدمات الدفع عبر الهاتف.
إلا أن مراقبين في الشأن المصرفي يرون أن التوسع الكمي لا يوازيه تطور نوعي في البنية المصرفية، إذ لا تزال الخدمات المصرفية في أغلب المصارف الحكومية تقليدية وتعتمد المعاملات الورقية، فيما يعاني القطاع الخاص من قيود في الوصول إلى التمويل الخارجي.
يشير مختصون في الاقتصاد الرقمي إلى أن التحول نحو الاقتصاد الإلكتروني لا يمكن أن يكتمل دون بيئة قانونية وتشريعية متكاملة تضمن الحماية من الجرائم المالية وتبني الثقة بين المواطن والنظام المصرفي.
ويذهب بعض الاقتصاديين إلى أن العراق، رغم تقدّمه النسبي في هذا الملف، ما زال في مرحلة "التجريب"، ويحتاج إلى دمج التقنية في منظومة الإدارة المالية العامة لا في المعاملات الفردية فقط.
القطاع المصرفي وإعادة الهيكلة: إصلاح أم تدوير للأدوار؟
إعادة هيكلة المصارف الحكومية (الرافدين، الرشيد، الصناعي، الزراعي) تعد من بين الركائز الأساسية في الخطة الحكومية. الحكومة تعلن أنها رفعت كفاءة هذه المصارف التشغيلية وبدأت بإعادة تقييم أصولها، إلا أن محللين ماليين يرون أن الإصلاح الحقيقي لا يتحقق بمجرد إعادة الهيكلة الإدارية، بل بقدرة هذه المؤسسات على التحول إلى كيانات تمويلية مستدامة تساهم فعلياً في تحريك عجلة الإنتاج المحلي.
فالرافدين والرشيد، اللذان يمثلان نحو 80% من السوق المصرفية، ما زالا يعملان وفق نموذج الخدمات التقليدية، في حين أن المصارف الأهلية تواجه ضعف الثقة من المستثمرين والمودعين على حد سواء.
ويشير خبراء في التمويل المصرفي إلى أن الإصلاح البنيوي في القطاع المصرفي العراقي يتطلب تحريراً تدريجياً للسياسات الائتمانية وتفعيل الشراكات مع المصارف الإقليمية، لأن الاقتصاد المنغلق لا يستطيع الاستفادة من النمو العالمي أو التمويل الخارجي.
ضعف الاستمرارية المؤسسية وتبدّل الاستراتيجيات
من أبرز التحديات البنيوية التي تواجه الإصلاح الاقتصادي في العراق هي غياب الاستمرارية المؤسسية، إذ تميل كل حكومة جديدة إلى إعادة صياغة الاستراتيجية الاقتصادية من الصفر، حتى في الملفات التي أُنجزت فيها خطوات ملموسة.
هذا النمط المتكرر من “القطيعة الإدارية” يعرقل تراكم الخبرة، ويؤدي إلى فقدان التراكم المؤسسي اللازم لأي عملية إصلاح حقيقية. فبدلاً من البناء على البرامج السابقة وتقييم نتائجها، تُستبدل الخطط بمشروعات جديدة تُطرح بعنوان مختلف، من دون مراجعة أو تحليل علمي للسياسات السابقة.
يشير باحثون في الاقتصاد المؤسسي إلى أن هذا السلوك يعكس ضعف البنية المؤسسية للدولة العراقية، إذ لا توجد أجهزة تخطيط أو مجالس اقتصادية دائمة تضمن استمرارية السياسات بغضّ النظر عن تغيّر الحكومات.
وبذلك، تتحول عملية الإصلاح في كثير من الأحيان إلى مشروع سياسي قصير الأمد، يرتبط بدورة الحكومة لا بالدورة الاقتصادية، ما يحدّ من قدرتها على إنتاج أثرٍ اقتصادي مستدام أو على بناء ثقة داخلية وخارجية بالسياسات المالية.
هل تكفي هذه الخطوات لمواكبة التحولات العالمية؟
تُظهر التجربة العراقية في الإصلاح المالي والمصرفي أن المشكلة لم تكن يومًا في غياب الرؤية، بل في انقطاعها المتكرر. فكل حكومة تأتي بخطط جديدة، وتستبعد ما سبقها، وكأن الدولة تبدأ من الصفر في كل دورة سياسية. هذا السلوك لا يعبّر فقط عن تناقض في الأولويات، بل عن ضعف بنية مؤسسية لا تمتلك ذاكرة اقتصادية مستمرة قادرة على نقل التجربة وتثبيت السياسات الناجحة.
تؤكد دراسات في الاقتصاد العام أن نجاح أي إصلاح مالي يعتمد على تراكم الخبرة والاستمرارية أكثر من حجم التمويل أو الدعم الدولي. وفي الحالة العراقية، ما زالت الإصلاحات تُدار بمنطق “المرحلة الحكومية” لا “المرحلة الوطنية”، وهو ما يجعلها عرضة للتوقف بمجرد تبدّل التوجه السياسي.
إن الخطوات التي عُرضت في مؤتمر واشنطن تعكس جهداً فنياً واضحاً، لكنها لن تتحول إلى إنجاز فعلي ما لم تُربط بمؤسسات مستقلة قادرة على حماية الإصلاح من التبدّل السياسي. فالإصلاح لا يتحقق بتغيير الخطط، بل بترسيخ آلية تنفيذٍ لا تتأثر بتغيير الوزراء أو تبدّل الحكومات.
وبذلك، يمكن القول إنّ الإصلاح المالي في العراق يسير في الاتجاه الصحيح من حيث الشكل، لكنه لا يزال يحتاج إلى إطار مؤسسي دائم يضمن الاستدامة، ويحوّل الإصلاح من مبادرة حكومية إلى مسار دولة لا يتبدّل بتغيّر المسؤولين.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم - متابعة شهدت محافظة الإسماعيلية في مصر، اليوم السبت (18 تشرين الاول 2025)، جريمة صادمة أثارت الرأي العام، بعدما أقدم طفل لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره على قتل زميله وتقطيع جثمانه متأثراً بمشاهد عنف في أحد الأفلام والألعاب الإلكترونية.