سياسة / أمن / ملفات خاصة اليوم, 16:30 | --

القوانين بلا تطبيق


أوروبا تجلد العراق بتقرير قاسٍ عن الأمن والحقوق والحريات وتقلب الطاولة على "رواية التعافي"

بغداد اليوم – بغداد

يشكّل تقرير الوكالة الأوروبية للجوء (EUAA) عن العراق الصادر في تشرين الأول 2025 واحدًا من أبرز التقارير المرجعية التي تستند إليها دول الاتحاد الأوروبي في تقدير مستويات الأمان وحماية الحقوق عند دراسة ملفات اللجوء. فالتقرير لا يُقرأ كوثيقة إنسانية فحسب، بل كمرجع سياسي–قانوني يعكس تقييم المجتمع الدولي لقدرة الدولة العراقية على توفير الحماية لمواطنيها. صدور هذا التقييم في لحظة تشهد فيها بغداد انفتاحًا دبلوماسيًا وحراكًا اقتصاديًا لافتًا، يضعه في موقع حساس بين الاعتراف بالتقدم النسبي والتحذير من المخاطر الهيكلية التي ما زالت قائمة في بيئة الدولة والمؤسسات.

وفق المنهجية المعتمدة لدى الوكالة، تقوم عملية إعداد تقارير معلومات بلد الأصل (COI) على مراجعة موسعة للمصادر الحكومية والدولية وتقارير المنظمات الحقوقية، ما يجعلها وثيقة ذات طابع شبه قضائي تُستخدم في تقييم ما إذا كانت العودة إلى العراق “آمنة” وفق معايير الحماية الأوروبية. لذلك، فإن التقرير لا يتناول الظواهر بعمومية، بل يقيّم بدقة “قابلية المخاطرة” على أساس المحافظات والمناطق والفئات الاجتماعية. وتؤكد تحليلات قانونية أوروبية أن تحديث تقرير العراق في 2025 يحمل دلالات على إعادة تقدير البيئة الأمنية والحقوقية في ضوء تراجع العمليات العسكرية الواسعة، مقابل استمرار العنف المتقطع وضعف منظومة الحماية القانونية.

بحسب قراءات بحثية، فإن التقرير يُعدّ مؤشّرًا مزدوجًا: من جهة يعترف بتحسّن بعض المؤشرات الأمنية والإدارية، ومن جهة أخرى يُظهر هشاشة البنية التشريعية وضعف تنفيذ الإصلاحات الحقوقية. هذه الازدواجية تعكس واقعًا مركّبًا يعيش فيه العراق بين بنية أمنية مستقرة نسبيًا في المدن الكبرى، وبيئة هشّة في الأطراف والمناطق المتنازع عليها، وبين مسارات تشريعية متقدمة نظريًا لكنها محدودة التطبيق ميدانيًا. تشير المداولات المؤسسية الأوروبية إلى أن مثل هذا التوصيف لا يُراد به تقييم سياسي للحكومة، بل رسم حدود المسؤولية القانونية لدول الاتحاد عند دراسة قضايا اللجوء والترحيل القسري، وهو ما يمنح التقرير ثقلًا قانونيًا مضاعفًا.

من الزاوية الوطنية، يعكس هذا التقرير أيضًا اختبارًا لفاعلية سياسات الدولة في بناء منظومة حماية متكاملة بعد عقدين من التحول السياسي. فالمعايير التي يعتمدها الاتحاد الأوروبي — من الأمن إلى العدالة، ومن الحريات العامة إلى حماية الأقليات — تُعد بمثابة مقياس لمدى استقرار التجربة العراقية داخليًا، ولصورتها خارجيًا أمام المؤسسات الدولية. ووفق مقاربات سياسية حديثة، فإن طريقة استجابة العراق لهذه الملاحظات — عبر تطوير التشريعات وتعزيز التنسيق بين المركز والإقليم وتحسين الرقابة المؤسسية — ستحدد ما إذا كان سيُنظر إليه بوصفه دولة آمنة ذات حوكمة مستقرة، أم ساحة انتقالية تتكرر فيها دوائر المخاطر.

يذهب عدد من خبراء الشأن المؤسسي إلى أن التقارير الأوروبية من هذا النوع أصبحت تؤدي وظيفة “التقييم السنوي لثقة العالم بالعراق”، إذ تقيس بدقة قدرة مؤسسات الدولة على تحويل السياسات الأمنية والحقوقية إلى واقع تطبيقي، وتحسم في الوقت ذاته الجدل الأوروبي حول تصنيف البلاد بين “العودة الآمنة” و“العودة المشروطة بالمخاطر”. لذلك، فإن قراءة التقرير لا تقتصر على محتواه الإحصائي، بل تمتد إلى ما يكشفه من اختبار مستمر لمدى جاهزية الدولة العراقية لحماية مجتمعها في زمن التحول الرقمي، والتقلبات السياسية، والتداخلات الإقليمية.

الوضع الأمني بين تراجع التهديد ودوام الفوضى المنظمة

يصف تقرير الوكالة الأوروبية للجوء المشهد الأمني في العراق لعام 2025 بوصفه مركّبًا ومتفاوتًا جغرافيًا، تتجاور فيه مناطق استقرار نسبي مع جيوب اضطراب نشط، خصوصًا في محافظات نينوى وكركوك وديالى وصلاح الدين. هذا التوصيف يعكس استمرار ظاهرة الأمن المتجزئ، حيث تُدار المحافظات وفق تفاوتٍ في القدرات الاستخبارية ومستويات التنسيق بين المؤسسات الاتحادية وقوات الإقليم والجهات المحلية. ووفق التقديرات المؤسسية، فإن العراق ما زال يعاني من تعدد مراكز القرار الأمني وضعف التكامل في منظومة الإنذار المبكر، رغم الانخفاض الملحوظ في عدد الهجمات الإرهابية الكبرى مقارنة بالأعوام السابقة.

تشير البيانات المستقاة من مجموعة رصد النزاعات (ACLED) — التي اعتمدها التقرير الأوروبي — إلى أن نمط العنف تحول من هجمات واسعة إلى عمليات نوعية محدودة النطاق، تستهدف مواقع أمنية أو طرقًا حيوية أو شخصيات محلية. هذه التحولات لا تعني زوال الخطر، بل انتقاله من الكم إلى الكيف؛ أي من التنظيم الواسع إلى الخلية الصغيرة المتنقلة. تفيد ملاحظات أمنية عراقية بأن هذا النمط يُصعّب عملية الرصد، ويجعل السيطرة الميدانية أكثر تعقيدًا في المناطق الجبلية أو الصحراوية، خاصة تلك الواقعة بين حدود نينوى والأنبار وكركوك.

بحسب قراءات بحثية متخصصة، فإن ضعف البنية التحتية للأمن السيبراني والمعلوماتي يفاقم من هشاشة الميدان. فالتنظيمات المتطرفة لم تعد تعتمد على التمويل التقليدي أو التحرك الميداني فحسب، بل طوّرت أدوات اتصال رقمية مشفرة، ما يجعل المواجهة الأمنية بحاجة إلى عناصر استخبارات رقمية وتكنولوجية متقدمة. وتذهب التحليلات المقارنة إلى أن تحدي العراق اليوم لم يعد في محاربة داعش ككيان عسكري، بل في ملاحقة بقاياه كشبكة ظلّ مالية وإعلامية تعمل في فضاء متداخل بين الداخل والخارج.

يؤكد التقرير أن تعدد الجهات المسلحة غير الحكومية، وامتلاكها موارد وسلاحًا وتأثيرًا سياسيًا، يمثل أحد عوامل الإرباك البنيوي في المشهد الأمني. فبينما تُظهر الأجهزة الاتحادية قدرة متزايدة على ضبط المدن، تبقى بعض المناطق الريفية والمناطق المتنازع عليها خارج السيطرة الكاملة. وفق مقاربات أمنية حديثة، هذا الواقع يعزز مفهوم “الاستقرار الهش”، حيث توازن القوى الداخلية — أكثر من هيبة الدولة — هو الذي يحكم معادلة الهدوء النسبي.

في هذا السياق، يشير الخبير الأمني علي العمران في حديثه لـ“بغداد اليوم” إلى أن “التوسع في الأنظمة المتصلة ودمج الخدمات عبر الإنترنت يفتح آفاقًا جديدة أمام مجرمي الإنترنت لاستغلال الثغرات الأمنية”، في إشارة إلى العلاقة المتنامية بين الأمن الميداني والأمن الرقمي. يؤكد العمران أن “التحول الرقمي من دون مقاييس حماية متقدمة قد يؤدي إلى تسريب بيانات وسياسات تعطيل للخدمات العامة”، موضحًا أن ضعف التنسيق بين المؤسسات الأمنية والتقنية يخلق “مستوى جديدًا من الهشاشة غير المرئية”. تفيد التقديرات المؤسسية أن مثل هذه الثغرات يمكن أن تُستغل في شلّ منشآت حيوية أو اختراق منظومات الدولة الحساسة، وهو ما يجعل الأمن السيبراني جزءًا من معادلة الأمن الوطني لا منفصلًا عنها.

تشير المداولات الأمنية الحديثة إلى أن خريطة المخاطر في العراق تتغير تبعًا لعاملين أساسيين: الأول هو مدى التفاعل بين المركز والإقليم في الملفات الأمنية المشتركة، والثاني هو قدرة الدولة على تحييد الفاعلين المسلحين غير الرسميين دون خلق فراغ أمني. وتؤكد تحليلات قانونية معمقة أن استمرار حالة “التوازن القلق” بين الأطراف الفاعلة، من دون إطار مؤسسي واضح، قد يُبقي البلاد في دائرة الاستقرار المؤقت القابل للانفجار عند أول احتكاك سياسي أو ميداني.

بحسب تقديرات سياسية–أمنية متقاطعة، فإن العراق في عام 2025 يقف عند مفترق حاسم: فإما أن ينجح في تحويل استقراره النسبي إلى منظومة أمن مستدامة تستند إلى المهنية والقيادة الموحدة، أو يبقى رهين التهدئة المرحلية التي تديرها توازنات القوى لا المؤسسات. عند هذا الحد، يصبح الأمن ليس غياب الخطر فحسب، بل القدرة على إدارة الخطر ضمن قواعد الدولة، وهو المعيار الذي يعتمد عليه المجتمع الدولي في تقييم “أمان العراق” وشرعية العودة إليه.

الحقوق والحريات.. قانون مقيد ومجتمع مأزوم

يضع تقرير الوكالة الأوروبية للجوء ملف الحقوق والحريات العامة في العراق ضمن المحاور التي ما تزال تشهد فجوة واسعة بين النص الدستوري والممارسة الفعلية. فالدستور العراقي لعام 2005 تضمّن في فصوله الأولى منظومة حقوقية متقدمة توازي في كثير من جوانبها المعايير الدولية، إلا أن ما سجله التقرير في عام 2025 يعكس استمرار ضعف التنفيذ وغياب الضمانات العملية في مجالات حرية التعبير، وحرية التنظيم، وحماية الصحفيين والنشطاء، وحقوق النساء والأقليات. ووفق التحليل الأوروبي، فإن التحسن التشريعي لا يزال محكومًا بثقافة سياسية وأمنية ترى في الحريات العامة مصدرًا للاضطراب لا شرطًا للاستقرار.

تشير المداولات المؤسسية في بروكسل إلى أن حالة الحريات في العراق ترتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى الاستقلال القضائي وقدرة مؤسسات الرقابة على العمل دون تدخل سياسي. فبينما يقرّ التقرير بوجود محاولات إصلاحية في بعض المجالات، كإنشاء وحدات مختصة بالعنف الأسري وتمرير قوانين تتعلق بحرية الصحافة، إلا أن هذه المبادرات تُقابل عادةً بتحديات سياسية أو دينية أو عشائرية تُفرغها من مضمونها التطبيقي. وتفيد قراءات بحثية أن السلطة التنفيذية في بعض الأحيان تمارس صلاحيات رقابية تتجاوز نصوص الدستور، من خلال تقييد التظاهر أو تضييق الوصول إلى المعلومات العامة، وهو ما يعدّ وفق المقاييس الأوروبية إخلالًا بحق المشاركة السياسية والمجتمعية.

يُبرز التقرير أيضًا قلقًا خاصًا من تصاعد ظاهرة الاستهداف الممنهج للمدافعين عن حقوق الإنسان، سواء عبر الدعاوى القضائية أو التهديد أو التشهير. ووفق المعطيات الموثقة، فإن العديد من النشطاء يواجهون ملاحقات غير مباشرة من خلال تطبيقات قانونية فضفاضة، مثل “الإساءة إلى المؤسسات” أو “الإخلال بالنظام العام”، وهي عبارات تسمح بمرونة قانونية قد تُستغل سياسيًا. وتشير التحليلات القانونية إلى أن غياب قانون موحد لحماية المدافعين عن الحقوق، وعدم استقلال الهيئات القضائية في بعض المحافظات، يجعلان البيئة الحقوقية هشّة وقابلة للتراجع في أي لحظة من التوتر السياسي.

في المقابل، يُسجّل التقرير ملاحظة على مستوى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إذ يرى أن التفاوت الواسع في توزيع الثروة والخدمات يكرس شعورًا بالتمييز الجغرافي والاجتماعي. فمحافظات الوسط والجنوب رغم غناها بالنفط، لا تزال تعاني ضعف الخدمات الأساسية، فيما تواجه المناطق المحررة من داعش بطالة مرتفعة وتأخرًا في إعادة الإعمار. تؤكد تحليلات اقتصادية اجتماعية أن هذا الاختلال البنيوي في العدالة التنموية يُترجم مباشرة إلى ضعف في مؤشرات الاستقرار الاجتماعي، ويغذي ظواهر الاحتجاج والهجرة الداخلية، التي أصبحت شكلًا من أشكال التعبير عن فقدان الثقة بالدولة.

يشير التقرير كذلك إلى استمرار مظاهر التمييز ضد النساء في سوق العمل والمؤسسات الأمنية، رغم وجود التزامات قانونية صريحة بالمساواة. ووفق تقديرات الأمم المتحدة التي استند إليها التقرير، فإن نسبة مشاركة النساء في القوى العاملة لا تتجاوز 14%، وهي من أدنى المعدلات في المنطقة، ما يعكس تحديًا مزدوجًا: ثقافيًا ومؤسساتيًا. وتوضح الدراسات الميدانية أن العنف القائم على النوع الاجتماعي لا يزال مستترًا في أغلبه، نتيجة ضعف آليات التبليغ والخوف من الوصمة، ما يجعل معالجة الظاهرة رهينة بإرادة سياسية وتشريعية شاملة لا جزئية.

على المستوى الإعلامي، يرى التقرير أن البيئة الصحفية ما زالت غير آمنة بالكامل، وأن العراق يحتل مرتبة متأخرة في مؤشرات حرية الصحافة بسبب تعدد الانتهاكات التي تتراوح بين الاعتداءات الجسدية والمنع من التغطية، وصولًا إلى الرقابة الناعمة التي تمارسها القوى النافذة من خلال الإعلانات أو الترخيص. وفق مقاربات مؤسسية حديثة، فإن الاستقلال الإعلامي في العراق لن يتحقق ما لم تُفصل الإدارة الإعلامية عن التمويل السياسي، وما لم يُعاد تعريف الصحافة كسلطة رقابية لا كأداة ترويجية.

بحسب تقديرات قانونية متقاطعة، فإن الاختبار الحقيقي لحرية الإنسان في العراق لا يقاس بالنصوص وحدها، بل بقدرة المواطن على التعبير والمساءلة دون خوف. فالمجتمع العراقي اليوم يقف أمام مفترق دقيق: إما أن تتحول الإصلاحات الحقوقية إلى بنية مؤسسية مستدامة تحمي المواطن، أو تبقى رهينة اللحظة السياسية وردّات الفعل. عند هذا الحد، يخلص التقرير الأوروبي إلى أن العراق يمتلك الأسس الدستورية الكافية لبناء منظومة حقوق متكاملة، لكنه يفتقر بعدُ إلى الإرادة السياسية الكاملة لتفعيلها وضمانها في الممارسة اليومية.

الأقليات والفئات الهشة.. هشاشة التمثيل وتحدي العودة

يشير تقرير الوكالة الأوروبية للجوء إلى أن الأقليات الدينية والقومية في العراق ما زالت تواجه تحديات بنيوية تعيق عودتها الكاملة إلى مناطقها الأصلية، رغم مرور أكثر من ثماني سنوات على هزيمة تنظيم داعش عسكريًا. فبينما تحققت عودة جزئية في بعض مناطق نينوى وسهلها، لا تزال عودة المسيحيين والإيزيديين والتركمان والشبك محدودة، وغالبًا مشروطة بالأمن المحلي أو بالضمانات السياسية. ويفيد التقرير أن الانقسام الإداري بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كوردستان، إضافة إلى تعدد القوى المسلحة في تلك المناطق، يشكلان عقبتين أساسيتين أمام تحقيق استقرار حقيقي ومستدام للأقليات.

وفق ما رصده التقرير، فإن الوجود الفعلي للأقليات في مناطق النزوح السابق ما يزال هشًا من حيث الخدمات والأمن والتمثيل السياسي. ففي سهل نينوى مثلًا، تتقاطع مصالح أطراف متعددة — قوات اتحادية، وحدات الحشد الشعبي، قوات البيشمركة، وفصائل محلية — الأمر الذي يجعل السيطرة الأمنية موزعة أكثر منها موحدة. هذا التداخل ينعكس على المواطنين في صورة تضارب صلاحيات إدارية، وضعف في تنفيذ المشاريع، وتباين في مستوى الخدمات. وتذهب المداولات الميدانية إلى أن غياب إدارة موحدة يرسخ انعدام الثقة بين السكان والسلطات، ويجعل العودة تبدو “رمزية” أكثر من كونها استقرارًا فعليًا.

من جانب آخر، يوضح التقرير أن الأقليات الدينية، وعلى رأسها الإيزيديون، ما زالوا يواجهون عقبات قانونية واجتماعية تحول دون اندماجهم الكامل. فآلاف الناجيات من جرائم داعش لا يزلن يعانين من تأخير في إعادة إدماجهن ضمن سجلات الأحوال المدنية، فيما تبقى قضايا التعويض وإعادة الإعمار في سنجار معلقة بسبب الخلافات الإدارية والسياسية. تشير دراسات ميدانية إلى أن تلكؤ تنفيذ اتفاق سنجار لعام 2020 بين بغداد وأربيل، وعدم حسم الملف الأمني، يحول دون استئناف مشاريع الإعمار وإعادة البنية التحتية، ما يفاقم من الإحباط المجتمعي ويدفع بعض العائدين إلى الهجرة مجددًا خارج البلاد.

أما في ما يتعلق بالأقليات القومية كالتركمان والشبك، فيؤكد التقرير أن تداخل مناطقهم بين نفوذ المركز والإقليم يجعلهم عرضة لتقلبات سياسية وأمنية متكررة. فكل تغيير في موازين القوى ينعكس مباشرة على مستوى الحماية والخدمات التي يتلقونها، ما يخلق شعورًا دائمًا باللايقين. ووفق مقاربات سياسية حديثة، فإن غياب نظام تمثيل محلي فعّال يضمن حقوق الأقليات في الإدارة والموارد، يؤدي إلى تحويل تلك المكونات من شركاء في العملية السياسية إلى متلقين سلبيين للقرارات، دون مشاركة حقيقية في صنعها.

يشير التقرير أيضًا إلى أوضاع النازحين داخليًا، الذين يمثلون شريحة واسعة من الفئات الهشة. ورغم إعلان الحكومة العراقية إغلاق معظم المخيمات رسميًا، إلا أن آلاف الأسر ما زالت تعيش في نزوح ثانوي داخل مدنها أو في مساكن مؤقتة. تفيد تقديرات الأمم المتحدة أن نحو 1.2 مليون شخص ما زالوا خارج مناطقهم الأصلية، لأسباب تتراوح بين الدمار الواسع للمساكن، وانعدام فرص العمل، والخوف من الانتقام أو التمييز. وتؤكد تحليلات إنسانية أن معالجة ملف النزوح في العراق لم تعد قضية إغاثة، بل اختبارًا لقدرة الدولة على استعادة الثقة الاجتماعية وبناء عقد مدني جديد بين المواطنين ومؤسساتهم.

على الصعيد القانوني، يرى التقرير أن الإطار التشريعي لحماية الأقليات في العراق لا يزال ناقصًا من حيث التطبيق والتنفيذ. فالمواد الدستورية التي تضمن حقوق المكونات لا تجد دائمًا طريقها إلى السياسات المحلية أو الموازنات. ويشير التقرير إلى أن بعض المحافظات التي تضم تنوعًا دينيًا وقوميًا ما زالت تعتمد على الأعراف العشائرية في حل النزاعات، ما يقلل من فعالية القانون المدني ويقوض المساواة أمام القضاء. وتشير المداولات الدستورية الحديثة إلى أن تحقيق العدالة الانتقالية الحقيقية يستوجب إنشاء هيئة وطنية مستقلة تُعنى بحقوق الأقليات وضمان عودتها الآمنة، تكون بعيدة عن الحسابات السياسية المباشرة.

بحسب قراءات بحثية مستقلة، فإن التحدي الذي يواجه العراق في ملف الأقليات لا يقتصر على حماية المكونات، بل على تحويل التنوع إلى قوة مؤسسية. فالمجتمع العراقي الذي تشكل عبر قرون من التعدد يمكن أن يكون نموذجًا للتعايش في الشرق الأوسط إذا ما توفرت الإرادة السياسية لتضمينه في الدولة لا على هامشها. من دون ذلك، ستظل الأقليات مقيّدة بخطاب الحماية لا المشاركة، وستبقى عودتها معلّقة بين قرارات إدارية متباينة ومخاوف أمنية متكررة.

الاستنتاج العام: دولة بين التعافي والقلق

يخلص تقرير الوكالة الأوروبية للجوء إلى أن العراق يقف اليوم على عتبة انتقالية حرجة، تتأرجح بين ملامح التعافي ومؤشرات القلق. فالمشهد العام يوحي ببلدٍ أنهكته الحروب لكنه لم يفقد بعد قدرته على الترميم الذاتي، غير أن هذا التعافي لا يزال هشًا، يتقدم خطوة ويتراجع أخرى بفعل تضارب الإرادات السياسية، وضعف المؤسسات، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية.

تُظهر القراءة المقارنة أن العراق يمتلك عناصر قوة هيكلية — كالثروة النفطية والموقع الجغرافي والموارد البشرية — لكنها تُقابل بعناصر ضعف مزمنة: البيروقراطية، الفساد، والاعتماد المفرط على الدولة الريعية. هذا التناقض البنيوي يجعل الدولة العراقية “نصف مستقرة”: قادرة على إدارة الأزمات، لكنها عاجزة عن تجاوزها جذريًا. وتشير ملاحظات بحثية إلى أن البلاد تعيش حالة “توازن قلق”، إذ يُدار الأمن والسياسة والاقتصاد بمنطق إدارة المخاطر لا بمنطق بناء الاستدامة.

من زاوية اجتماعية، يعكس التقرير بيئة متناقضة بين جيلٍ جديدٍ متصل بالعالم رقمياً يبحث عن فرص وعدالة، ونظامٍ سياسيٍّ ما زال قائمًا على شبكات الولاء والانقسام المذهبي والقومي. هذا الانفصال بين المجتمع والدولة يغذي دوامة الإحباط والهجرة، ويجعل أي إنجاز حكومي عرضة للإنكار الشعبي بسبب فقدان الثقة المتراكم. بحسب تحليلات سوسيولوجية حديثة، فإن خطر الانفجار الاجتماعي لا يكمن في الفقر وحده، بل في الإحساس الجماعي بانسداد الأفق وضعف العدالة.

على الصعيد الدولي، يؤكد التقرير أن العراق ما زال محورًا لتقاطع النفوذ بين واشنطن وطهران وبكين، وأن موقعه الجيوسياسي يجعل أي خلل داخلي مرشحًا للتدويل السريع. فكل أزمة داخلية — من الاقتصاد إلى الأمن — لها بعد خارجي متشابك، ما يجعل الاستقلال السياسي الحقيقي رهينًا ببناء مؤسسات قوية واقتصاد منتج يحدّ من الارتهان للدعم الخارجي. وتذهب المقاربات المؤسسية إلى أن توازن العراق الخارجي لا يمكن تثبيته ما لم يُحسم توازنه الداخلي أولًا.

أما على المستوى المؤسسي، فيبرز التقرير الحاجة إلى إصلاح إداري شامل يربط بين كفاءة الأداء ومبدأ المساءلة، ويحوّل الدولة من جهاز توزيع إلى جهاز إنتاج. فالتنمية الاقتصادية لا يمكن أن تقوم في ظل اقتصاد يعتمد على التوظيف الحكومي والاستهلاك، بل تحتاج إلى إصلاح مالي وضريبي عميق يفتح المجال أمام القطاع الخاص والاستثمار الحقيقي. ووفق تقديرات مؤسساتية، فإن استدامة العراق المالية مرهونة بقدرته على كبح الهدر والفساد، وتحرير الاقتصاد من قبضة السياسة.

في الخلاصة، يرسم التقرير صورة بلدٍ يتقدّم بخطى محسوبة نحو الاستقرار، لكنه ما زال أسير تاريخه القريب. فالتعافي العراقي ممكن، لكنه مشروط بتوفر إرادة سياسية تتجاوز منطق التسويات المؤقتة، وتعيد تعريف “الدولة” بوصفها مؤسسة مواطن لا تحالف سلطة. عند هذا المفصل، لا تبدو المخاطر التي يواجهها العراق تقنية أو أمنية فقط، بل وجودية في طبيعتها: هل يستطيع بناء عقد اجتماعي جديد يُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع؟ الجواب، بحسب التقرير، سيحدد ما إذا كان العراق سيتحول إلى نموذجٍ ناجح للتعافي ما بعد الصراع، أم سيبقى عالقًا في منطقة رمادية بين الأمل والانقسام.

المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"

أهم الاخبار

نهضة سياحية في كردستان.. إنجاز 80 مشروعاً بكلفة تتجاوز 7 مليارات دولار

بغداد اليوم - كردستان أكدت رئيسة هيئة السياحة في إقليم كردستان أمل جلال، اليوم الثلاثاء، (14 تشرين الأول 2025)، أن قطاع السياحة في الإقليم قد شهد انتعاشا كبيرا في السنوات الأخيرة. وقالت جلال في مؤتمر صحفي تابعته "بغداد اليوم"، إن “قطاع السياحة

اليوم, 19:41