بغداد اليوم – بغداد
تخضع الحملات الانتخابية في العراق إلى إطار قانوني واضح صاغته المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بهدف منع تغوّل المال السياسي وضمان تكافؤ الفرص بين المرشحين. يستند هذا الإطار إلى نظام تمويل الحملات لعام 2024، الذي حدّد سقف الإنفاق الانتخابي بواقع 250 دينارًا لكل ناخب في حدود الدائرة الانتخابية، مع منع التمويل الأجنبي أو استخدام موارد الدولة في الدعاية السياسية.
لكن هذا النظام، الذي يفترض أن يكون حجر الزاوية في نزاهة العملية الانتخابية، يبدو اليوم أمام اختبار صعب، بعدما تجاوز بعض المرشحين سقوفه بمليارات الدنانير، ما يعيد طرح السؤال حول فعالية الرقابة ومدى قدرة المفوضية على ضبط التمويل الانتخابي في بيئة سياسية هشّة واقتصاديًا رخوة. وفق تقديرات قانونية حديثة، يمثل هذا السقف محاولة لضبط إيقاع المنافسة، لكنه يصطدم بثقافة مالية متوارثة تجعل من المال “المحرّك الأول” في العملية الانتخابية.
توضح بيانات المفوضية أن حساب السقف يتم وفق معادلة بسيطة: عدد الناخبين × 250 دينارًا، ليكون الحد الأعلى للإنفاق في دائرة تضم 300 ألف ناخب نحو 75 مليون دينار. لكن أرقامًا متداولة في الساحة السياسية، كشف عنها عضو الإطار التنسيقي عصام شاكر، خلال حديثه لـ"بغداد اليوم"، تشير إلى أن بعض المرشحين أنفقوا “بين 4 و5 مليارات دينار حتى الآن، مع توقعات بزيادة الإنفاق لاحقًا”، وهو ما يعني تجاوزًا للسقف بما لا يقل عن 60 إلى 200 ضعفًا تبعًا لحجم الدائرة.
يفسّر خبراء القانون الدستوري هذا التفاوت بوصفه إخلالًا بمبدأ العدالة الانتخابية المنصوص عليه في المادة (20) من الدستور، التي تضمن حق المواطن في المشاركة المتكافئة بالانتخابات دون تمييز. وتؤكد تحليلات قانونية معمقة أن تجاوز السقوف المحددة يحوّل المنافسة من سباق برامج وأفكار إلى تنافس مالي صِرف، يكرّس اختلال موازين القوة داخل النظام الانتخابي. كما تفيد ملاحظات أكاديمية بأن ضعف إنفاذ العقوبات – رغم النصوص – يُنتج ردعًا ناقصًا، ما يشجع على تكرار المخالفة في الدورات المقبلة.
تشير المقارنة الحسابية بين ما يسمح به القانون وما يُنفق فعليًا على الأرض إلى فجوة هائلة تكشف حجم الخلل البنيوي في ضبط الإنفاق الانتخابي.
ففي الدائرة الصغيرة التي تضم نحو 100 ألف ناخب، لا يتجاوز السقف القانوني للإنفاق 25 مليون دينار عراقي، بينما تشير المعطيات إلى أن بعض المرشحين أنفقوا ما يقارب خمسة مليارات دينار، أي بما يعادل 200 ضعفًا للسقف المحدد.
وفي الدوائر المتوسطة التي تضم قرابة 300 ألف ناخب، يبلغ السقف المسموح 75 مليون دينار، ما يجعل الإنفاق المعلن بمستوى خمسة مليارات دينار تجاوزًا يقارب سبعة وستين ضعفًا.
أما في الدوائر الكبيرة التي يصل عدد ناخبيها إلى نصف مليون شخص، فإن السقف القانوني يقدَّر بنحو 125 مليون دينار، في حين يبقى الإنفاق الفعلي على مستوى خمسة مليارات أيضًا، أي أربعين ضعفًا للسقف القانوني تقريبًا.
هذه الأرقام، وإن بدت جافة في ظاهرها، إلا أنها تكشف أن السقف التشريعي لم يعد سوى إشارة رمزية لا تمت بصلة إلى الواقع المالي للحملات، وأن حجم التجاوزات تجاوز منطق الدعاية إلى ما يشبه اقتصادًا انتخابيًا منفلتًا يقوم على المال غير المعلن والإنفاق غير القابل للتتبع.
بحسب معطيات بحثية أولية، تعكس هذه الفوارق تآكل الردع القانوني وغياب المساءلة الجدية عن مصادر التمويل. ويذهب خبراء في الشأن السياسي–الاقتصادي إلى أن هذه الظاهرة تعبّر عن تضخّم موازٍ لاقتصاد الظلّ الانتخابي، حيث تُموّل الحملات من شبكات حزبية وتجارية غير خاضعة للرقابة المصرفية. كما تشير المداولات الدستورية إلى أن هذا النوع من الإنفاق المفرط يمكن أن يشكّل “رشوة انتخابية مقنّعة” في ضوء المادة (307) من قانون العقوبات العراقي، إذا ثبت أنه يهدف إلى التأثير في إرادة الناخبين.
رغم أن المفوضية تؤكد تشكيل لجان ميدانية مشتركة لرصد الحملات الدعائية وضبط التجاوزات، فإن فعالية تلك اللجان ما تزال موضع شك. فبحسب مراقبين في مجال الحوكمة الانتخابية، تركز الإجراءات غالبًا على المخالفات الصغيرة كـ"ملصق في غير موقعه"، بينما تمرّ الملفات الكبرى بصمت.
وهنا يبرز تصريح شاكر مرة أخرى بوصفه مؤشرًا على خلل أعمق: “هذا المال الكبير سيؤثر حتمًا في توجيه الناخبين، خصوصًا في البيئات الفقيرة. من هنا يجب أن يكون للمفوضية دور فعّال في ضبط الإنفاق وتصحيح المسار الانتخابي.” تُبرز الدراسات التطبيقية في هذا السياق أن غياب التنسيق بين المفوضية وهيئة النزاهة والبنك المركزي يؤدي إلى تشظي الرقابة المالية، إذ لا يوجد نظام تتبع إلكتروني موحد لمصادر الأموال الانتخابية. وتؤكد قراءات بحثية متخصصة أن هذا القصور المؤسسي يُضعف الثقة العامة ويجعل قرارات المفوضية عرضة للتشكيك السياسي.
لا يُعدّ تجاوز سقف الإنفاق مجرد مخالفة مالية، بل يمثل تحوّلًا في وظيفة المال داخل العملية الديمقراطية. فبدل أن يكون وسيلة لتمويل الخطاب والبرامج، أصبح أداة لإعادة إنتاج النفوذ والهيمنة في بيئات انتخابية هشّة. وتوضح دراسات مقارنة في النظم الانتخابية أن هذا النمط يُنتج ما يُعرف بـ“الديمقراطية المموّلة”، حيث يتحول الناخب إلى متلقٍ للامتيازات لا للأفكار، وتُقاس الحظوظ السياسية بكمية الإنفاق لا بمدى الشعبية أو الكفاءة.
تشير تحليلات حديثة، إلى أن الانتخابات العراقية “تشهد انقسامًا اجتماعيًا بين مرشحين أثرياء يملكون قنوات مالية مفتوحة، وآخرين لا يملكون سوى أصواتهم وخطابهم”، ما يجعل نتائجها انعكاسًا لميزان الثروة لا الإرادة الشعبية. وفق تقديرات اقتصادية محلية، فإن كلفة اللوحات الإعلانية والبث الإعلامي في موسم 2025 تجاوزت ضعف نظيرتها في 2021، ما يعني أن السوق الانتخابي نفسه أصبح قطاعًا ريعياً تستفيد منه شبكات دعاية مرتبطة بالأحزاب النافذة.
ترجّح مقاربات مؤسساتية حديثة أن معالجة هذه الأزمة تتطلب نقل الرقابة من النص إلى التطبيق عبر أدوات ملموسة، أبرزها:
-الإفصاح المالي الأسبوعي: إلزام القوائم والمرشحين بنشر بيانات الإنفاق والمصادر التمويلية على موقع المفوضية.
-الربط البنكي المباشر: ربط حسابات الحملات بالبنك المركزي لضبط التحويلات المشبوهة وتفعيل أدوات التتبع المالي.
-الغرامات التصاعدية: فرض غرامات تتناسب طرديًا مع حجم التجاوز وتجميد الدعاية مؤقتًا في حال عدم الامتثال.
-مشاركة المجتمع المدني والإعلام: تمكين منظمات المراقبة من توثيق التجاوزات ونشرها بشفافية.
-تقرير وطني للإنفاق الانتخابي بعد كل دورة، يعرض مقارنة بين السقوف النظرية والإنفاق الفعلي.
تؤكد دراسات بحثية حديثة صادرة عن جامعة بغداد أن نجاح المفوضية في تطبيق هذه الخطوات سيعيد ثقة الجمهور بآلية الانتخابات ويمنع تحولها إلى “منافسة مالية مغلقة”.
إذا كانت بعض الحملات الانتخابية تنفق ما يعادل ميزانيات مشاريع خدمية متوسطة، فإن الإشكالية لم تعد في اللافتات أو الدعاية، بل في جوهر العملية الديمقراطية نفسها. تؤكد مداولات قانونية أن الالتزام بالسقف المالي هو شرط لصحة الانتخابات وليس تفصيلًا شكليًا.
يقول شاكر في ختام تصريحه: “الالتزام بالسقف المالي ليس تفصيلًا إجرائيًا، بل ضمانة أساسية لنزاهة العملية الانتخابية، وأي تجاهل له يعني تحويل الانتخابات إلى صفقة مالية.” وفق تقديرات سياسية–اقتصادية متقاطعة، إن استمرار هذا الانفلات المالي سيؤدي إلى تشويه تمثيل الإرادة الشعبية، ويقوّض مبدأ المساواة أمام القانون والفرصة الانتخابية. ومن دون تدخل فوري لتفعيل أدوات الرقابة والمساءلة، ستبقى القوانين مجرد عناوين في بيانات رسمية، بينما تُدار الانتخابات من خارج السقف… ومن خارج الصندوق.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات
بغداد اليوم – بغداد تلقى رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، اليوم الخميس (9 تشرين الأول 2025)، اتصالاً هاتفياً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، جرى خلاله بحث العلاقات الثنائية وترتيبات عقد أول قمة عربية روسية. وبحسب بيان صادر عن المكتب الإعلامي لرئيس