بغداد اليوم - بغداد
منذ عام 2003، شكّل العراق ساحة مفتوحة لتقاطعات النفوذ الدولي والإقليمي، إذ تحوّل القرار السياسي في كثير من الأحيان إلى ميدان مساومات بين العواصم، أكثر مما هو انعكاسٌ لإرادة داخلية مستقلة. غير أن السنوات الأخيرة حملت إشارات مختلفة: تراجع في الوجود العسكري المباشر للقوى الأجنبية، مقابل استمرار تأثيرها السياسي بطرق أكثر نعومة وتعقيدًا.
هذا التحوّل، كما يرى المختص في الشؤون الاستراتيجية علي الجبوري في حديثه لـ"بغداد اليوم"، “يُعدّ تراجعًا نسبيًا في التدخلات الخارجية، لكنه لا يعني انتهاءها، بل تحوّلها إلى أشكال أكثر هدوء وتعقيد”. ويأتي ذلك منسجمًا مع ما أكده زعيم تيار الحكمة الوطني عمار الحكيم، الذي أشار في تصريح حديث إلى أن "حجم التدخلات الخارجية في العراق تراجع بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة"، مبينًا أن "القوى السياسية باتت تعتمد في قراراتها على رؤى وطنية داخلية أكثر من استجابتها لتأثيرات خارجية". وهي إشارة تختصر ملامح مرحلة جديدة يتبدّل فيها النفوذ دون أن يختفي. يشير خبراء العلاقات الدولية إلى أن تراجع التدخل العسكري في العراق لم يُنهِ تأثير الخارج، بل نقل ساحة الصراع إلى الميدان السياسي. فبدلاً من الوجود العسكري المباشر، باتت القوى الإقليمية والدولية تتحكم في المشهد من خلال التحالفات الحزبية، وتمويل الحملات الانتخابية، وإدارة التوازن داخل الكتل النيابية.
تحليل لمعهد FPRI الأمريكي يؤكد أن النفوذ الإيراني انتقل من كونه حضورًا عسكريًا صريحًا إلى تأثير عبر الأذرع السياسية والاقتصادية والإعلامية، إذ تتولّى أحزاب وقوى عراقية محسوبة على طهران مهمة تمرير سياساتها داخل البرلمان والوزارات. في المقابل، تحاول واشنطن استثمار علاقاتها مع أطراف من داخل الدولة العراقية لتعزيز حضورها الدبلوماسي والاستخباري، دون أي تواجد ميداني كبير.
تؤكد هذه المعادلة ما ذهب إليه الجبوري حين قال إن “بعض القوى الإقليمية ما زالت تمارس نفوذها عبر أذرع سياسية أو اقتصادية أو أمنية غير مباشرة”، موضحًا أن “العراق يشهد تراجعًا تدريجيًا للتأثير الخارجي المباشر، مقابل استمرار التأثيرات السياسية والإعلامية التي تدار من خارج الحدود”. وبحسب تقارير بحثية منشورة في Chatham House، فإن التأثير الإيراني اليوم يتمظهر من خلال “هندسة القرارات داخل قبة البرلمان أو داخل مجالس المحافظات، أكثر من الوجود العسكري”.
تراجع التدخلات العسكرية لا يعني تراجع التنافس بين الولايات المتحدة وإيران داخل العراق، بل تغيّر أسلوب إدارة هذا التنافس. فبعد أن كانت المواجهة في الشوارع والمعسكرات، باتت اليوم في أروقة البرلمان ومكاتب الوزراء. بحسب تحليل من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، تبنّت الحكومة العراقية منذ 2023 سياسة “الحياد المتوازن” لتجنّب الانحياز لأي محور، خاصة بعد الضغوط الأميركية لإعادة تنظيم مهام التحالف الدولي، والضغوط الإيرانية لزيادة التنسيق الأمني. هذا التوازن سمح للعراق باستعادة جزء من سيادته الشكلية، لكنه لم يُلغِ تأثير تلك القوى في القرار السيادي.
التقارير ذاتها تُشير إلى أن النفوذ الأميركي لم يختفِ، بل تحوّل إلى تأثير “اقتصادي وتقني ودبلوماسي”، خاصة في ملفات الطاقة والدينار والتحويلات المصرفية، وهو ما يجعل السياسة النقدية العراقية خاضعة بدرجة ما للإدارة الأميركية. في المقابل، تحتفظ إيران بنفوذها عبر أدواتها السياسية والإعلامية داخل بغداد، وتواصل دعمها لفصائل مسلحة تُعد جزءًا من منظومة الضغط السياسي الداخلي. التدخلات السياسية في العراق تتجسّد بأوضح صورها عند تشكيل الحكومات. فكل دورة انتخابية تكشف عن حجم التأثير الخارجي في رسم خريطة التحالفات، إذ غالبًا ما تُدار المشاورات الكبرى في غرف مغلقة بين ممثلي الكتل والسفارات.
تقرير صادر عن مجلة Foreign Policy عام 2025 يؤكد أن “تشكيل الحكومات العراقية لم يعد شأنًا محليًا صرفًا، بل نتيجة لتفاهمات معقدة بين واشنطن وطهران وأنقرة والرياض”، مشيرًا إلى أن كل طرف يسعى لضمان موقع سياسي لحلفائه في الكابينة الحكومية، أو الحصول على ملفات اقتصادية وأمنية مقابل الدعم السياسي. ويُعدّ المثال الأبرز على ذلك ما جرى خلال مفاوضات تشكيل حكومة محمد شياع السوداني، حيث تنافست العواصم على التأثير في هوية الوزراء، ولا سيما الحقائب الأمنية والاقتصادية. وتشير دراسة من مركز Strategiecs الأردني إلى أن هذا النمط من التدخل “يتجاوز النفوذ التقليدي إلى عملية صناعة القرار عبر قنوات حزبية داخلية”.
تُجمع الدراسات الحديثة على أن أدوات النفوذ الخارجي في العراق انتقلت من السلاح والسياسة إلى الإعلام والاقتصاد، بوصفهما ساحتي التأثير الأكثر حساسية في تشكيل الرأي العام وتوجيه المزاج السياسي.
فبحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) حول المشهد الإعلامي في العراق (2024)، فإن عدداً من المؤسسات الإعلامية المحلية “تتلقى تمويلاً أو دعماً فنياً من جهات خارجية أو منظمات غير حكومية ذات ارتباطات سياسية”، ما يجعلها جزءًا من شبكة تأثير غير مباشرة تُدار عبر الرسائل الإعلامية الموجَّهة والاصطفاف مع أطراف داخلية مرتبطة بمشاريع إقليمية.
وتشير دراسة صادرة عن المرصد العراقي للصحافة وحرية التعبير (JFO) إلى أن قرابة 70 مؤسسة إعلامية تعمل بتمويل سياسي حزبي أو إقليمي بدرجات متفاوتة، وغالبًا ما تخفي مصادرها المالية أو ارتباطاتها اللوجستية، الأمر الذي “يضعف استقلاليتها التحريرية ويجعلها جزءًا من معادلة النفوذ السياسي”.
في المجال الاقتصادي، تُظهر تقارير البنك الدولي والهيئة الوطنية للاستثمار العراقية أن العراق ما يزال يعتمد بدرجة كبيرة على رؤوس الأموال والشراكات الإقليمية والدولية في قطاعات الطاقة والاتصالات والبنية التحتية، ما يجعل قراراته الاقتصادية خاضعة في بعض مفاصلها لتوازنات تتجاوز الإرادة الحكومية الصرفة.
فوفق وثيقة Policy Note Iraq Private Sector Fund الصادرة عن البنك الدولي عام 2023، فإن أغلب مشاريع الطاقة والكهرباء والاتصالات في العراق “تتطلب تمويلاً خارجياً أو شراكات استثمارية من مؤسسات دولية وشركات إقليمية” نتيجة ضعف التمويل المحلي وغياب بيئة استثمارية مستقرة.
ويعزز ذلك تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عن مناخ الاستثمار في العراق (2024)، الذي أشار إلى أن “القطاع الخاص العراقي يعتمد في تمويله على شراكات مع أطراف إقليمية بسبب محدودية القروض المحلية وصعوبة الإجراءات المصرفية”.
وتُعدّ مشاريع الطاقة والاتصالات أبرز أمثلة هذا الارتباط، إذ تشارك شركات خليجية وأوروبية وآسيوية في تنفيذ عقود كبرى تحت إشراف الحكومة العراقية أو بالتعاون مع مؤسسات التمويل الدولية، كما في مشروع إعادة تأهيل منظومة الكهرباء المموّل جزئياً من البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية (IFC) منذ عام 2021.
هذا النمط من الاعتماد المتبادل، وإن كان ضرورياً لاقتصاد يعاني من هشاشة التمويل الداخلي، إلا أنه يفتح الباب لتأثير سياسي غير مباشر، من خلال آليات العقود والتفاوض والتمويل. فالاقتصاد العراقي — بتشابكاته الاستثمارية المعقدة — بات واحداً من المداخل الهادئة للتأثير الخارجي، لا عبر القرارات المعلنة، بل من خلال شبكات المصالح التي تحدد من يحصل على المشروع، ومن يضع الشروط، ومن يقرّر في النهاية أين تُوجّه الأموال.
ويشير الجبوري في هذا السياق إلى أن “تحول التدخلات إلى أشكال أكثر هدوء وتعقيد لا يعني زوالها، بل إعادة تموضعها في مساحات جديدة من الإعلام والاقتصاد”. وهو توصيف دقيق للواقع السياسي الراهن، حيث لا يُرى النفوذ بوضوح كما كان، لكنه موجود في خلفية المشهد، يوجّه القرارات دون أن يُعلن نفسه. تقول Chatham House إن “تراجع التدخلات الخارجية في العراق ما زال هشًا، لأن أساسه قائم على تهدئة ظرفية لا على إصلاح بنيوي”، وتضيف أن “الاستقلال الحقيقي لن يُتحقق ما لم يُعاد بناء مؤسسات الدولة لتصبح قادرة على مقاومة الضغوط السياسية والمالية الخارجية”.
وهذا ما أكده الجبوري أيضًا حين ختم تصريحه قائلاً إن “السنوات المقبلة ستظهر ما إذا كان هذا التراجع مرحليًا مرتبطًا بظروف آنية، أم أنه يمثل تحولًا استراتيجيًا طويل المدى في بنية الدولة العراقية”، مشددًا على أن العراق يمتلك اليوم “فرصة حقيقية لترسيخ سيادته الكاملة، شريطة أن تُستثمر حالة الهدوء النسبي في بناء مؤسسات قوية، وتحقيق توازن داخلي يحد من أي عودة للتدخلات الإقليمية والدولية”.
ويرى مراقبون، أنه لا يمكن البت بنهاية التدخلات الخارجية في العراق؛ بل أعادت تشكيل نفسها بما يتناسب مع توازنات الداخل وتغيّر أدوات النفوذ. فالمشهد العراقي اليوم يشهد انتقالًا من التدخل العسكري إلى التدخل السياسي، ومن السيطرة المباشرة إلى التوجيه الناعم عبر التحالفات والاقتصاد والإعلام. وما بين واشنطن وطهران، والعواصم الإقليمية الأخرى، يواصل العراق اختبار قدرته على الاستقلال، في معركة لا تُدار بالرصاص هذه المرة، بل بالكواليس والقرارات والولاءات.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"+ وكالات
بغداد اليوم - أربيل لم يعد المشهد السوري بمعزل عن القراءة العراقية، إذ باتت التحولات في شمال سوريا تُراقب من بغداد وأربيل كجزءٍ من معادلة الأمن والاستقرار الإقليمي. فاللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، وما