بغداد اليوم - نينوى
يشكل ملف العدالة الجنائية في العراق أحد أعقد الملفات التي واجهت الدولة الحديثة، إذ تداخلت فيه مقتضيات الأمن مع استحقاقات الدستور وضمانات حقوق الإنسان. وعلى الرغم من سَنّ البرلمان قوانين إصلاحية مثل العفو العام، والشروع مؤخرًا في تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية لحصر التحقيق أمام القضاء، ما تزال فجوة التطبيق قائمة، تعكسها ممارسات متأخرة كاستمرار الاعتماد على نظام المخبر السري وتأخر الإفراج عن مشمولين بالعفو. وفق تقديرات مؤسساتية، فإن هذه الفجوة تُقوّض ثقة المجتمع بالمنظومة العدلية وتبقي شبح الظلم حاضرًا.
رغم أن قانون العفو العام أُقر قبل أشهر قليلة، إلا أن تنفيذه العملي يواجه عراقيل كبيرة. تفيد الملاحظات الأكاديمية بأن الروتين الإداري والإجراءات البطيئة عطّلت استفادة آلاف العوائل من أحكامه. وهنا يؤكد عضو مجلس عشائر جنوب الموصل خالد الجبوري أن "بالرغم من شمول الآلاف بقانون العفو العام، لكن هناك الكثير مازالوا لم يطلق سراحهم، بسبب الإجراءات الروتينية والبطيئة، والتي تؤخر فرحة العوائل بخروج ذويها".
توضح الدراسات الميدانية أن هذا التأخير يضعف قيمة القانون كأداة للعدالة التصالحية، ويكشف عن فجوة خطيرة بين النص التشريعي والواقع الميداني، بما يعزز من مشاعر الغبن لدى المجتمع.
إلى جانب الروتين، تبرز مشكلة الاعتقالات القائمة على تشابه الأسماء أو التهم الكيدية، وهو ما يجعل الحاجة للعفو العام انعكاسًا لأخطاء إجرائية مستمرة. وفي هذا السياق، أضاف الجبوري أن "في ظل التطور التكنلوجي والاستخبارات والمعلومات ووجود منظومة أمنية متطورة، فإن الاعتقال بتشابه الأسماء، أو التهم الكيدية يجب أن يصبح من الماضي، فنحن الآن نمتلك منظومة أمنية واستخبارية متكاملة، يجب تزويدها بكامل الأجهزة الحديثة، التي تساعد على التأكد وضبط أمن المواطن، دون الاعتقال كما حصل في السنوات الماضية، وبالتالي وقتها لن نحتاج للعفو العام، لغرض إطلاق سراح الأبرياء".
بحسب قراءات نقدية في الفقه الدستوري، فإن هذه الإشارة تُبرز الحاجة إلى استبدال الشهادات السرية بوسائل تحقق حديثة قائمة على الأدلة الجنائية والبيانات البيومترية، بما ينسجم مع الضمانات الدستورية لحقوق المواطنين.
تتجلى الإشكالية بوضوح في قضية تكريت الأخيرة، حين وجّه المسؤول السابق في صلاح الدين وأحد وجهائها جاسم الجبارة مناشدة إلى وزير الداخلية بشأن توقيف مواطنَين استنادًا إلى شهادة مخبر سري في قضية تعود إلى عام 2004. وأوضح الجبارة أن "الحادثة وقعت بتاريخ 24 نيسان 2004 وأسفرت عن استشهاد سبعة مواطنين وإصابة 37 آخرين، وقد تم حينها القبض على الجناة الذين اعترفوا بالتخطيط والتنفيذ، وصدر بحقهم الحكم القانوني، فيما لم يرد اسم الشقيقين في أي مرحلة من التحقيقات". وأضاف أن "إعادة فتح الملف بعد 21 عاماً بناءً على شهادة مخبر سري يثير تساؤلات جدية عن مصدر هذه المعلومات وأسباب عدم ظهورها سابقاً، رغم أن جميع بيانات الأجهزة الأمنية موحدة وتخضع للتدقيق عند استصدار الوثائق والمعاملات الرسمية".
تؤكد تحليلات قانونية معمقة أن هذه الواقعة تجسد خطورة الاعتماد على شهادات سرية غير مدعومة بأدلة مادية، خصوصًا بعد مرور سنوات طويلة على حسم القضايا قضائيًا، بما يهدد استقرار المنظومة العدلية ويضعف الثقة بها.
في مواجهة هذه الإشكالات، أُحيل قبل يومين تعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية، ليتم بموجبه حصر التحقيق أمام قاضي التحقيق أو المحقق القضائي. يُنظر إلى هذه الخطوة باعتبارها انتقالًا من التحقيق البوليسي إلى التحقيق القضائي، بما يقلل من مظاهر الابتزاز والتعذيب والانتهاكات التي لطالما شابت مرحلة جمع الأدلة. وفق مقاربات مؤسساتية حديثة، فإن هذا التعديل يُمثل نقلة نوعية طال انتظارها، ويُتوقع أن يضعف تدريجيًا من نفوذ المخبر السري، ويؤسس لتحقيق يتماشى مع مبدأ الفصل بين السلطات والمعايير الدولية لحقوق الإنسان.
المشهد برمته يُظهر أن العراق يعيش معضلة عدلية مزدوجة: قوانين إصلاحية تُقر، لكن تطبيقها يتعثر، وممارسات قديمة كالمخبر السري تبقى قائمة رغم عدم ملاءمتها. الاستنتاج المتدرج يقود إلى أن الإصلاح لا يمكن أن يكتمل ما لم تُستبدل هذه الأدوات بوسائل تحقق قضائية وتقنية حديثة، تُغلق الباب أمام الاعتقالات الكيدية وتشابه الأسماء، وتعيد للمواطن الثقة بالعدالة كسلطة محايدة، لا كأداة خاضعة للشكوك أو الضغوط.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم - بغداد أعلنت وزارة التربية، اليوم الأربعاء (1 تشرين الأول 2025)، عن حسم أكثر من 1,200 قضية خلال شهري آب وأيلول، بجهود دائرة التقويم والامتحانات. يتبع..