بغداد اليوم - بغداد
يتحرك خطاب الاستثمار في العراق بين صورتين متوازيتين: صورة رسمية تؤكد وجود استقرار نسبي وإصلاحات إجرائية وتنامي شهية الشركات الأجنبية، وصورة ميدانية تحذّر من مخاطر أمنية وتنظيمية وقانونية ترفع كلفة المخاطرة وتربك سلوك رؤوس الأموال. هذا التناقض لا يمكن فصله عن البنية السياسية العراقية منذ 2003، حيث رسم الدستور مسارًا لتشجيع القطاع الخاص وضمان حماية الاستثمارات، فيما أفرزت البيئة الأمنية واقعًا مختلفًا تحكمه الفصائل وتوازنات القوى.
تقارير المؤسسات الدولية بدورها تُظهر مفارقة واضحة: ففي الوقت الذي يسعى فيه الاقتصاد العراقي إلى تنويع قاعدته عبر مشاريع طاقة وبنى تحتية وشراكات مع شركات كبرى، ما تزال مؤشرات الاستثمار الأجنبي المباشر عالميًا في حالة تراجع منذ 2024 وفق بيانات الأونكتاد، وهو ما ينعكس على المنطقة برمّتها وليس العراق وحده. إن إدراك هذا الإطار الأوسع ضروري لفهم حساسية أي تصريح أو تحذير صادر عن عواصم كبرى أو بعثات دبلوماسية، كما أنه يضع الجدل الداخلي—بين الترحيب الحذر والاستثمار المشروط—ضمن سياق عالمي متقلب في شهية المخاطرة، بدل أن يُقرأ فقط في حدود المشهد المحلي، وفق مقاربات سياسية حديثة.
المستشار الاقتصادي في السفارة الأمريكية ببغداد أعاد صياغة الجدل من زاوية قانونية–أمنية حين أكد أن "جماعات مسلحة مرتبطة بقوة أجنبية يمكنها الخطف، وتنفيذ ضربات بطائرات مسيّرة، وحتى مهاجمة مسؤولين حكوميين مع قدر ضئيل من المساءلة، تدفع الاستثمارات إلى أماكن أخرى"، مضيفًا أن "الأمن لا يتعلق فقط بالسلامة في الشوارع، بل يتعلق أيضًا بالتوقعات والمساءلة في ظل القانون". وتابع أن "كلما عزز العراق سيادة القانون، وحمى مؤسساته، وحاسب أولئك الذين يستخدمون العنف، أصبح أكثر جاذبية كمكان لممارسة الأعمال". هذا التصريح لا يضع الفصائل وحدها في موضع الاتهام، بل يوجّه أيضًا نقدًا غير مباشر للحكومة، باعتبار أن ضعف آليات المحاسبة القانونية أحد أبرز العوامل التي تُعطّل فرص الاستثمار، بحسب قراءات قانونية.
أما عضو الإطار التنسيقي، عدي عبد الهادي، فقد اعتبر خلال حديث لـ"بغداد اليوم"، أن السفارة الأمريكية "اعتادت بين فترة وأخرى على إطلاق مزاعم وافتراءات بعيدة عن الواقع تخدم أجندات البيت الأبيض". هذا الرد يعكس محاولة لنقل النقاش من بعده الأمني إلى بعد سياسي، بتصوير التحذيرات على أنها أدوات ضغط لا توصيفًا مهنيًا للمخاطر. غير أن تجربة أسواق أخرى تُظهر أن الشركات الأجنبية لا تفصل بين السياسة والأمن، بل تأخذ التحذيرات الرسمية للحكومات بجدية عالية وتبني عليها قراراتها الاستثمارية، تُظهر التجارب المقارنة أن أثر التحذيرات لا يتوقف عند الخطاب بل يمتد إلى عقود التأمين وخطط التمويل.
ولإثبات وجهة نظره، أشار عبد الهادي إلى أن "الحديث عن تهديدات للفصائل المسلحة غير دقيق، والدليل وجود ما بين 3 إلى 4 آلاف شركة عربية وأجنبية عاملة في العراق، بينها أكثر من 600 شركة تركية". هذه الأرقام، رغم أهميتها، تحتاج إلى تفكيك جغرافي؛ فالمعطيات الرسمية في إقليم كردستان توثق أكثر من 3,600 شركة أجنبية بينها نحو 1,600 تركية، ما يعني أن الثقل الاستثماري يتركز في الشمال أكثر من الوسط والجنوب. هذا التفاوت يعكس أن البيئة الاستثمارية ليست متجانسة، وأن الأرقام الإجمالية قد تُخفي هشاشة متفاوتة بين المناطق، تشير المداولات الدستورية إلى أن التباين في الصلاحيات بين المركز والإقليم ساهم في رسم خريطة استثمار غير متوازنة.
كما أضاف عبد الهادي أن "هذه الشركات تستثمر في أكثر من 20 قطاعًا حيويًا… فيما أعلنت الحكومة مؤخراً عن مشاريع بمئات المليارات من الدولارات ستتدفق داخل البلاد". هذه المقاربة تُظهر طموحًا حكوميًا لتوسيع قاعدة الاقتصاد خارج النفط، لكنها لا تعني بالضرورة تحقق التدفقات الفعلية. فالإعلانات الرسمية ما لم تُعزّز بإصلاحات قانونية وتشريعية تظل أقل جذبًا لرؤوس الأموال، خصوصًا أن تقارير الأمم المتحدة أكدت تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالميًا منذ 2024. في هذا الإطار، ترى دراسات بحثية أن العراق مطالب بتقديم حوافز وضمانات استثنائية إذا أراد منافسة بيئات استثمارية أكثر استقرارًا في المنطقة.
أكد عبد الهادي أن "الاستثمار لا يمكن أن ينمو إلا بوجود بيئة مستقرة، وهو ما يشهده العراق حاليًا، حيث تتنامى حركة الاستثمار يومًا بعد آخر". هذا الخطاب ينسجم مع السردية الرسمية لكنه يغفل أن الاستقرار يُقاس بصلابة المؤسسات أكثر من قياسه بغياب العنف الظرفي. تقرير صندوق النقد الدولي لعام 2025 أشار إلى تحسن نسبي في بعض المؤشرات، لكنه حذّر في الوقت نفسه من ضغوط مالية وتحديات مرتبطة بتقلب أسعار النفط. وهذا يجعل المشهد أقرب إلى حالة مختلطة بين مكاسب ظرفية وتحديات بنيوية، يفسّر خبراء في الشأن المؤسسي هذا الوضع باعتباره توازنًا هشًا يحتاج إلى إصلاح أعمق.
تجربة قانون الاستثمار السعودي توضح هذه الهشاشة؛ إذ تعطّل إقراره في البرلمان رغم أن الحكومة روّجت له كأداة لجذب رؤوس الأموال، فيما اعتبرته كتل سياسية "قانونًا استعماريًا". هذا الانقسام أرسل إشارة سلبية للأسواق، وأظهر أن البيئة التشريعية غير مستقرة بما يكفي لتوفير الحماية القانونية للمستثمرين. وهنا يتضح أن التحدي لا يقتصر على المخاطر الأمنية، بل يمتد إلى غياب التوافق المؤسسي الذي يُربك حركة رأس المال. تشير بيانات رقابية إلى أن مثل هذه الانقسامات كانت سببًا مباشرًا في عزوف بعض الشركات عن إتمام استثمارات سابقة.
المشهد العام يختصره خطان متوازيان: خط رسمي يتحدث عن استقرار وأرقام كبيرة للشركات وإصلاحات إجرائية، وخط دبلوماسي أمريكي يشدد على أن غياب المساءلة وضعف سيادة القانون يعطّلان الاستثمار أكثر من أي تهديد آخر. تصريحات عبد الهادي تعبّر عن موقف سياسي يسعى لإبعاد البُعد الأمني عن الملف الاقتصادي، بينما تكشف تصريحات المستشار الأمريكي أن جوهر المشكلة يرتبط بقدرة الدولة على فرض القانون وتحصين مؤسساتها. وفي ضوء هذه المعادلة، فإن مستقبل الاستثمار في العراق يتوقف على تضييق الفجوة بين الفرص المعلنة والضمانات المؤسسية، وهو ما يُعد، وفق تقديرات بحثية مستقلة، المعيار الحاسم لتحويل العراق من بيئة الفرص النظرية إلى بيئة الفرص المتحققة.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم - أربيل يعاني اقتصاد إقليم كردستان من جُرعة اقتصادية خانقة منذ أشهر، حيث باتت الرواتب محور خلاف بين الحكومة الاتحادية والإقليم، وتحوّل تأخيرها إلى أزمة تمتد آثارها إلى كل قطاع اقتصادي. في خضم هذا الخلاف، يعاني الإقليم من ركود اقتصادي حاد في