سياسة / أمن / ملفات خاصة اليوم, 11:00 | --

مشهد قاتم


الجأوا للدعاء.. العراق يواجه خطر الزوال من خارطة العالم: موت ونزوح ولا حلول تلوح في الأُفق

بغداد اليوم - بغداد

العراق يقف اليوم أمام واحدة من أخطر أزماته الوجودية، بعدما تحولت المياه من مورد حياتي إلى معضلة استراتيجية تهدد الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي. لم تعد المسألة مقتصرة على انخفاض مناسيب دجلة والفرات، بل صارت أزمة مركبة تتداخل فيها ضغوط دول الجوار، والتغير المناخي، وسوء الإدارة الداخلية للموارد. ووفق تقديرات بحثية، فإن الخزين المائي الاستراتيجي وصل إلى حدود لم تُسجل منذ عقود، ما يعكس هشاشة المنظومة المائية في مواجهة التحديات المتراكمة. وتشير المداولات السياسية إلى أن هذا الوضع لم يعد مجرد أزمة بيئية، بل اختبار مباشر لقدرة الدولة على حماية سيادتها وضمان بقاء مجتمعاتها المحلية.

على المستوى الميداني، تتعدد الشواهد التي تكشف عمق الأزمة وتوضح كيف تسللت آثارها إلى مختلف مناطق العراق. ففي إقليم كردستان، أوضحت مديرة سد حماموك في السليمانية نوا محمد أن الجفاف "أثر بشكل كبير على السدود والبرك المائية في محيط قضاء كويسنجق"، مؤكدة أن السدود لم تصل إلى طاقتها الاستيعابية هذا العام نتيجة قلة الأمطار وجفاف العيون، ما انعكس على أكثر من 150 دونماً من الأراضي الزراعية التي تعتمد على مياه السد. وتشير بيانات رقابية إلى أن هذا النقص لم يقتصر على الزراعة فحسب، بل امتد إلى الآبار الارتوازية والسياحة المحلية، ما جعل الأزمة شاملة في تأثيراتها.

وفي جنوب العراق، وصف المختص عادل المختار وضع الأهوار بأنه "لم يعد أزمة بيئية فحسب، بل تحوّل إلى كارثة إنسانية واقتصادية تهدد استقرار المجتمع المحلي"، محذراً من أن نفوق الجواميس وانكماش المسطحات المائية يهدد بضياع مصدر رزق آلاف العائلات. ويفسر خبراء أن ما يحدث في الأهوار لا يمثل خسارة بيئية فقط، بل انهياراً لمنظومة ثقافية وحضارية طالما شكلت جزءاً من هوية العراق المدرجة على لائحة التراث العالمي.

وفي محافظة ذي قار، أكد النائب عارف الحمامي أن النزوح من القرى الجنوبية "مستمر مع تصاعد الأعداد"، مشيراً إلى أن "العاملين الرئيسيين هما ارتدادات الجفاف على المناطق الزراعية والريفية، بالإضافة إلى النزاعات العشائرية". وبحسب تقديرات ميدانية، فإن أكثر من 10 آلاف عائلة اضطرت لترك مناطقها، في واحدة من أكبر موجات النزوح البيئي التي يشهدها العراق في تاريخه الحديث.

أما على صعيد الغطاء النباتي، فقد كشف مرصد العراق الأخضر عن فقدان مليون شجرة خلال العامين الماضيين نتيجة الجفاف، فضلاً عن ممارسات بشرية مثل قطع المياه عن البساتين وبيع الأشجار لمطاعم الأسماك أو اقتلاعها لإقامة مشاريع تجارية. هذه الخسارة تعكس تآكل الحزام الأخضر وتراجع قدرة المدن على مواجهة الغبار والعواصف الرملية. وفق تقديرات بيئية، فإن تعويض هذا العدد من الأشجار يحتاج عقوداً من الزرع والرعاية، ما يجعل الفجوة البيئية أوسع من أن تعالج بإجراءات سطحية.

الخبير في الشأن المائي والبيئي مرتضى الجنوبي يوضح لـ"بغداد اليوم"، أن "أزمة الجفاف في العراق دخلت مرحلة خطيرة تهدد الأمن الغذائي والاستقرار الاجتماعي، في ظل استمرار تراجع الإيرادات المائية من دول الجوار وضعف الإجراءات الحكومية لمواجهة هذه التحديات". هذا التشخيص يعكس انتقال الأزمة من مستوى طبيعي إلى تهديد مباشر لمعيشة المواطنين، حيث انعكست معدلات هبوط المناسيب ونضوب الخزانات المائية على الزراعة والإنتاج الحيواني. وتشير بيانات رقابية إلى أن هذه التداعيات تضرب سبل العيش لملايين العراقيين، وتزيد من معدلات البطالة والهجرة الداخلية. ويفسر خبراء أن الاكتفاء بالإجراءات الآنية مثل تقليل المساحات المزروعة أو الاعتماد على السدود الداخلية من دون استراتيجية وطنية شاملة، يعني أن الأزمة ستتفاقم عامًا بعد آخر.

لم يقتصر ملف الجفاف على المداولات الفنية، بل انتقل إلى البرلمان العراقي الذي وجد نفسه مضطراً إلى التدخل في ظل تزايد الضغوط الشعبية. وأوضح عضو لجنة الزراعة والمياه النيابية ثائر الجبوري، في حديثه لـ"بغداد اليوم"، أن "معدل إطلاقات المياه من نهري دجلة والفرات نحو العراق انخفض إلى مستوى خطير لا يتجاوز 150 متراً مكعباً بالثانية، في وقت يحتاج فيه العراق ما بين 750 إلى 800 متر مكعب لتأمين متطلبات الري والشرب". هذا الفارق الكبير يوضح حجم الفجوة بين الحاجة الفعلية وما يصل فعلياً من دول المنبع، وهو ما يفسر ارتدادات الأزمة على مناطق الجنوب والفرات الأوسط، حيث بدأت مؤشرات نزوح واسعة من الأهوار والأرياف الزراعية.

وبحسب قراءات قانونية، فإن تحرك البرلمان لجمع توقيعات أكثر من 50 نائباً لإدراج فقرة عاجلة على جدول أعماله يعكس إدراكاً متأخراً لخطورة الأزمة، لكنه في الوقت نفسه يضع الحكومة أمام ضغط سياسي جديد. وتُظهر التجارب المقارنة أن تحويل الملفات البيئية إلى أجندة برلمانية غالباً ما يكون خطوة أولية، لكن فعاليتها تعتمد على مدى قدرة السلطة التنفيذية على تبني سياسات جادة. وهنا، يبرز التناقض العراقي: أزمة وجودية تهدد الأمن المائي والغذائي، في مقابل تحركات رسمية تبدو متأخرة ومجزأة وغير متناسبة مع مستوى التحدي.

لم يعد ملف المياه محصوراً في الداخل العراقي، بل صار موضوعاً يتقاطع مع العلاقات الإقليمية والدولية. ففي هذا السياق، دعا النائب السابق أيوب الربيعي إلى "الانفتاح على ثلاثة مراكز دولية متخصصة بتقييم ملف المياه ورسم الاستراتيجيات"، مؤكداً أن الأزمة ليست مؤقتة، وأن ضعف إيرادات شتاء 2026 قد يجعلها الأخطر خلال المئة عام الماضية. ووفق مقاربات سياسية حديثة، فإن هذا الطرح يعكس إدراكاً متزايداً بأن المعالجة المحلية وحدها لم تعد كافية، وأن إشراك المؤسسات الدولية قد يمنح العراق أدوات ضغط إضافية ومصادر تمويل وخبرة تقنية.

غير أن المعادلة تزداد تعقيداً عند النظر إلى دور دول الجوار، وفي مقدمتها تركيا. فقد أشار النائب ثائر الجبوري إلى مفارقة صارخة حين لفت إلى أن "أنقرة لم تتفاعل مع وعودها بزيادة الإطلاقات المائية، لكنها لا تزال تحظى بمئات الفرص الاستثمارية في العراق". هذا التناقض يسلط الضوء على غياب استراتيجية متماسكة لدى بغداد، حيث تُمنح أنقرة امتيازات اقتصادية واسعة في قطاعات الطاقة والبنى التحتية، فيما يظل ملف المياه مجمداً عند حدود اللجان المشتركة والتطمينات السياسية. وتشير بيانات رقابية إلى أن العراق لم يستخدم بعد أوراق الضغط الاقتصادية لفرض التزامات مائية عادلة، ما جعل الملف عُرضة للمساومات والتأجيل المستمر.

ويفسر خبراء في الشأن المؤسسي أن هذا الخلل يعود إلى غياب موقف وطني موحد، حيث تتباين مواقف القوى السياسية وتضعف إرادة الدولة في تحويل المياه إلى ملف سيادي يوازي في أهميته ملفات الطاقة والأمن. وبحسب تقديرات بحثية مستقلة، فإن الاستمرار في إدارة الأزمة بذات الأسلوب سيضاعف من اعتماد العراق على واردات تركيا وإيران، ما يضعف موقفه التفاوضي ويجعل أمنه المائي مرهوناً بمصالح الآخرين.

تكشف المعطيات المتراكمة أن أزمة الجفاف لم تعد أزمة طبيعية عابرة، بل اختبارًا شاملًا لبنية الدولة العراقية وقدرتها على حماية مواردها الأساسية. فالتراجع الحاد في الخزين المائي، والنزوح المتصاعد من الأرياف، والخسائر التي طالت الزراعة والثروة الحيوانية والغابات، كلها مؤشرات على أن العراق يقترب من عتبة الانكشاف المائي الكامل. ووفق تقديرات بحثية، فإن استمرار الاعتماد على المعالجات المؤقتة سيحوّل العطش إلى عامل ضغط اجتماعي وسياسي، قد يُترجم إلى احتجاجات واسعة تهدد الاستقرار الداخلي.

في المقابل، يبرز مسار آخر لا يزال ممكنًا إذا ما توفرت الإرادة السياسية: إعلان حالة طوارئ مائية وطنية، والانخراط في دبلوماسية صارمة مع دول الجوار، إلى جانب استثمار الخبرات الدولية وتوظيف البحث العلمي والتقنيات الحديثة في إدارة الموارد. وهنا، يصبح ملف المياه معيارًا لمدى جدية الدولة في التعامل مع قضايا السيادة، لا مجرد ملف خدماتي يُركن على هوامش السياسات العامة. فالرهان لم يعد على موسم مطري أو إطلاقات محدودة، بل على قدرة العراق على بناء رؤية متكاملة تحمي أمنه المائي وتؤسس لاستقراره الاجتماعي والاقتصادي لعقود مقبلة.

المصدر: بغداد اليوم+ وكالات

أهم الاخبار

اختاروا أيها العراقيون.. حاكمية شيعية أو إعلان الجمهورية "العراقية الإيرانية" الإسلامية!

بغداد اليوم - بغداد لم يكن العراق ينقصه أزمات جديدة، لكن الخطاب الذي عاد إلى الواجهة مؤخراً حول إمكانية تأسيس "جمهورية مع إيران" تضم 11 محافظة عراقية في حال تعرض ما يُعرف بـ"الحاكمية الشيعية" لتهديد، جاء ليزيد المشهد السياسي تعقيداً.

اليوم, 12:27