سياسة / ملفات خاصة اليوم, 13:10 | --

شروط بناء الثقة


ما الحل؟.. حضور الرؤساء والملوك بقمة الدوحة يكشف "هشاشة" موقع العراق الدبلوماسي

بغداد اليوم - بغداد

القمة الطارئة التي انعقدت أمس بحضور معظم الرؤساء والملوك العرب والإسلاميين أبرزت حاجة المنطقة إلى وسطاء موثوقين، في وقت يواجه فيه العراق تحديًا جوهريًا يتمثل في قدرته على تقديم نفسه كأرض محايدة. فالمقارنة مع قمة بغداد السابقة، التي اقتصرت على مشاركة وفود تمثيلية محدودة من وزراء ومبعوثين، تكشف أن بغداد ما زالت تعاني من فجوة ثقة تعيق استعادة موقعها الدبلوماسي الكامل. هذه الفجوة مرتبطة بملفات داخلية غير محسومة، تتعلق بتعدد القوى المسلحة والامتثال المالي، إلى جانب غياب سياسة خارجية مستقرة في ظل المشهد السياسي المتقلب.

الدبلوماسية العراقية تقف أمام معادلة صعبة: النصوص الدستورية تؤكد على حصر السلاح بيد الدولة، لكن الواقع يكشف عن تعددية في مصادر القوة انعكست على صورة العراق الخارجية. في هذا السياق، قال الدبلوماسي العراقي السابق غازي فيصل، لـ"بغداد اليوم"، إن "هناك تحديات إقليمية ودولية تواجه الدبلوماسية العراقية، خصوصا ما يتعلق بعجز الحكومة العراقية عن تنفيذ (الشروط الدولية) وتأثيره على دور الوساطة". هذه الإشارة تعكس أن أي خلل داخلي سرعان ما يُترجم إلى ضعف خارجي، وأن نجاح الوساطة مرتبط بقدرة بغداد على فرض القواعد داخل أراضيها.

ويضيف فيصل أن "أي وسيط عراقي ناجح يحتاج ان يحقق: أولا احتكار السلاح بيد الدولة، وثانيا التزامًا ماليًا ومصرفيًا صارمًا، وثالثا قدرة على ضبط الفصائل عن استهداف أطراف أجنبية من أراضيه". هذه الشروط الثلاثة تمثل جوهر الثقة التي يبحث عنها الشركاء الدوليون. غير أن الخطوات التي اتخذتها بغداد في العامين الأخيرين – مثل حظر بعض البنوك عن التعامل بالدولار تحت ضغوط وزارة الخزانة الأمريكية – ما تزال تعكس مسارًا قيد الإنجاز لا منجزًا كاملًا. وفق تقديرات قانونية، هذا الوضع يقلّص من فرص العراق في تقديم نفسه كوسيط قادر على فرض التزامات متوازنة في ملفات إقليمية حساسة.

كما أشار فيصل إلى أن "المطلوب القدرة على الضبط الأمني، عبر استمرار توقف هجمات الفصائل المسلحة وعدم العودة لشن هجمات على قوات أميركية كما حدث خلال 2023–2024". هذا الشرط يوضح أن صورة "الأرض المحايدة" لا تُبنى بالشعارات بل بالاستقرار الفعلي على الأرض. دراسات بحثية ترى أن أي خرق أمني يضعف من ثقة الأطراف الدولية بقدرة العراق على الالتزام، ويحدّ من قابليته لأن يُنظر إليه كوسيط في أزمات المنطقة.

من زاوية أخرى، يضع الخبير في الشؤون السياسية والاستراتيجية علي ناصر أمام "بغداد اليوم" رؤية مكملة، تقوم على تحليل العلاقة بين الواقع الداخلي العراقي والتقلب في السياسة الخارجية. إذ يوضح أن "العراق لا يشبه بقية دول المنطقة في طبيعة تكوينه السياسي"، فآليات تشكيل الحكومة عبر البرلمان والكتلة الأكبر تجعل من السياسة العراقية متغيّرة بطبعها، و"تتبدّل بعد كل انتخابات، خصوصًا فيما يخص السياسة الداخلية المتأرجحة تحت وطأة الخلافات المتكررة".
ويضيف أن هذا التقلّب ينعكس خارجيًا، حيث يصعب على بغداد الالتزام بخط استراتيجي ثابت في ظل غياب الإجماع الوطني. لكنه يلفت إلى أن جولة الصراع الأخيرة بين إيران وإسرائيل أفرزت تحولًا لافتًا تمثل في "صمت عدد من السياسيين الذين كانوا سابقًا يؤججون التصعيد بتصريحاتهم، ما ساعد الحكومة على ضبط الإيقاع الدبلوماسي الداخلي والخارجي بهدوء أكبر".

ناصر يرى أن تجدّد الصراع في المنطقة "أمر وارد جدًا، فالشرق الأوسط لا يهدأ طويلًا". لكنه يحذّر من أن العراق يفتقر إلى البنية العسكرية والتكنولوجية التي تمكنه من خوض صراعات متطورة، ما يجعله "في موقع العاجز ميدانيًا، والمطالب بالمرونة سياسيًا". ويؤكد أن الاستثمار في الدبلوماسية هو الخيار الأكثر واقعية، فالحروب الحديثة تُخاض بالتقنيات والطائرات المسيّرة والحرب الإلكترونية، وهي مجالات لا يمتلك العراق فيها بنية متقدمة. لذلك يدعو إلى تبنّي سياسة خارجية هادئة ومتوازنة تقلل من الانكشاف أمام أي تصعيد جديد.

ويضيف ناصر أن "الحياد لم يعد حلًا كافيًا في جميع الظروف، لكنه يبقى الخيار الأنسب حاليًا ما دام العراق يفتقر إلى أدوات المواجهة الشاملة". وبرأيه، فإن الحياد الذكي لا يعني الوقوف على الهامش، بل استثمار الموقع الجغرافي للعراق كـ"جسر تواصل" بين الخصوم، شرط أن يُدار بوسائل دبلوماسية احترافية. ويستشهد بتجارب مثل إندونيسيا وماليزيا، التي وظفت الحياد كأداة لاستقرارها وربطت أمنها بالاستثمار الخارجي، معتبرًا أن العراق يمتلك مقومات أكبر يمكن أن تجعله يبني نموذجًا مشابهًا، يقوم على الاقتصاد بدل السلاح.

التجربة العراقية خلال العقود الماضية تُظهر انتقالًا بين الانخراط في حروب مباشرة، والانكفاء الداخلي، ثم الانفتاح على محاور متناقضة بعد 2003. وبعد 2019، بدأت الحكومة تطرح خطاب "سياسة التوازن"، لكن دون تحويله إلى استراتيجية متكاملة. إعلان بغداد رفضها الانخراط في المحاور لم يكن كافيًا، لأن الانقسام الداخلي ونفوذ القوى غير الرسمية واستمرار التدخلات الخارجية جعلت من الحياد موقفًا هشًا، سريع الانكشاف عند أي تصعيد في الإقليم.

ما تكشفه رؤى كل من غازي فيصل وعلي ناصر أن العراق يقف على مفترق طرق دقيق. فمن جهة، يواجه ضغوطًا دولية في مجال الامتثال المالي والضبط الأمني، ومن جهة أخرى، يفتقر إلى مقومات القوة الصلبة التي تحصنه من تداعيات أي صراع جديد في الشرق الأوسط. الفارق بين القمة الطارئة أمس وقمة بغداد السابقة يلخص هذا الواقع: الحضور الرفيع يعكس الثقة، بينما التمثيل المحدود يكشف عن هشاشة الموقع.
ولذلك، فإن مستقبل الدور العراقي مرهون بقدرة مؤسساته على معالجة الداخل أولًا، سواء عبر حسم ملف السلاح أو عبر بناء سياسة خارجية أكثر ثباتًا. وفي غياب هذه الخطوات، سيبقى العراق أقرب إلى "حياد متفرج" لا يقيه من العواصف ولا يمنحه موقعًا بين اللاعبين الكبار.

المصدر: بغداد اليوم+ وكالات

أهم الاخبار

رغم التوافق على تحالف دفاعي عربي–إسلامي.. إسرائيل ستبقى "تصول وتجول" بدون رادع

بغداد اليوم - بغداد القمة الطارئة التي انعقدت في الدوحة عقب القصف الإسرائيلي لم تكن مجرد حدث عابر، بل محطة كشفت حجم المخاطر الأمنية والسياسية التي تواجه المنطقة، وأعادت إلى الواجهة النقاش حول قدرة القمم العربية والإسلامية على صناعة قرارات مؤثرة. فبرغم

اليوم, 14:27