بغداد اليوم - متابعة
بلغت آثار الجفاف مناطق كانت تتمتع على الدوام بوفرة مياه في شمال البلاد حيث إقليم كردستان، إذ يشير واقع الحال هناك إلى تراجع لافت لكميات المياه الجارية في جميع الأنهر المعروفة بمناطق دهوك وزاخو وسوران وأربيل والسليمانية، بعدما جفت مئات من الينابيع والجداول التي كانت تغذي تلك الأنهر وتشكل مصدراً مهماً للزراعة ولتربية الأسماك.
يشبك المزارع حمه نوري (67 سنة) أصابع يديه ببعضهما، وهو يتأمل بقايا أشجار حقله الذي ورثه عن والده في منطقة كرميان، جنوب محافظة السليمانية، وقد تحولت أغصانها الجرداء الى ما يشبه المقاصل، وجفت ثمارها قبل نضوجها بسبب نقص المياه.
مسح بظاهر يده قطرات عرق تشكلت في جبهته، وقال وهو يهم برفع حبة خوخ متعفنة من الأرض:”أشجار كثيرة زرعتها مع والدي وجدي قبل عقود عندما كنت فتى صغيراً… لا أطيق النظر إليها الآن وهي تموت متيبّسة”.
يجول ببصره في المكان ويتابع بحزن: “كأنني أشاهد أطفالي يتساقطون أمامي ولا أملك سبيلاً لانقاذهم”.
تتفاقم أزمة الجفاف التي يعاني منها العراق منذ سنوات، والتي وصلت ذروتها في الأشهر الستة الأولى من 2025، لتأتي على آلاف الحقول الزراعية بما فيها من مزروعات وأشجار في محافظات عدة وسط البلاد وجنوبها وشرقها، متأثرة بتراجع معدلات تساقط الأمطار والانخفاض الكبير للواردات المائية عبر الأنهر من دول الجوار.
بلغت آثار الجفاف مناطق كانت تتمتع على الدوام بوفرة مياه في شمال البلاد حيث إقليم كردستان، إذ يشير واقع الحال هناك إلى تراجع لافت لكميات المياه الجارية في جميع الأنهر المعروفة بمناطق دهوك وزاخو وسوران وأربيل والسليمانية، بعدما جفت مئات من الينابيع والجداول التي كانت تغذي تلك الأنهر وتشكل مصدراً مهماً للزراعة ولتربية الأسماك.
وتظهر صور ملتقطة حديثاً، تراجعاً كبيراً في مياه سدي دربنديخان ودوكان، والأخير بات يضم 23 في المئة فقط من سعته التخزينية وفق أرقام رسمية، فيما يبدو نهر سيروان في محافظة حلبجة هزيلاً، ومثله يسجل نهر الخابور، في قضاء زاخو تراجعاً غير مسبوق، بينما أدى جفاف نهر بالكيان في سوران، الى توقف الزراعة في جوانبه للمرة الأولى في تاريخ المنطقة، وحصلت توقفات في تدفق مياه شلال كلي علي بك الشهير.
النقص الحاد في المياه ولا سيما في مناطق جنوب إقليم كردستان، منع مئات المزارعين من استدامة حقولهم، فتكبدوا خسائر مالية كبيرة نتيجة تلف محاصيلهم، فقرر البعض التخلّي عن الزراعة بنحو نهائي، فيما يكافح آخرون للبقاء مع تقليص المساحات المزروعة، بخاصة تلك التي تتطلب كميات أكثر من المياه.
في منطقة كرميان، الأكثر تأثراً بالجفاف، يعرض عشرات المزارعين أراضيهم للبيع، معلنين التخلّي عن مهنتهم ومصدر دخلهم الأساسي، بعدما فشلت كل محاولاتهم لإنقاذها من التصحّر، فحتى حفر الآبار الإرتوازية لم ينجح في إغاثتها نتيجة التراجع المستمر في المياه الجوفية.
يصف مسؤول نقابة الفلاحين جلال أحمد محمد، وضع مزارعي كرميان بـ”الكارثي”، ويقول إن الجفاف ابتلع نحو 90 في المئة من الأراضي الزراعية، وإن المزارعين في غالبيتهم تخلوا عن أراضيهم الزراعية: “لم يعودوا يحتملون التكاليف، خسائرهم تتجاوز ملايين الدولارات سنوياً، لذلك يهجرون الزراعة ويحاولون التحوّل إلى مهن أخرى”.
يبيّن جلال الأسباب التي أدت إلى ذلك قائلاً: “يُزرع الدونم الواحد من الأرض بنحو 50 كيلوغراماً من البذور، ويحتاج الى ملايين الدنانير كنفقات لشراء أسمدة ومبيدات زراعية، ومع ذلك فهم لا يجنون شيئاً بسبب الجفاف.
ويضيف: “تفككت بسبب ذلك عائلات كثيرة، بعدما خسر أربابها المزارعون والفلاحون كل ما يمتلكونه”.
لا يبدو الوضع مختلفاً في المناطق الأخرى، إذ يمكن رصد التقلص الواضح في مجرى نهر سيروان ، نتيجة حجز مياه النهر من إيران المجاورة حيث ينبع. وقد ألحق ذلك أضراراً بالغة بالمزارعين على ضفتي النهر، بدءاً من حلبجة وصولاً الى مناطق شمال محافظة ديالى، حيث يلتقي مع نهر تانجرو(نهر ديالى) الذي يعاني بشدة من انخفاض مياهه وارتفاع نسب التلوث فيها.
أرقام تؤكد حجم المشكلة
يوجد في إقليم كردستان 17 سداً، بينها سدان كبيران في محافظة السليمانية، يُعتمد عليهما بنحو رئيسي في تخزين المياه، هما (دوكان) المشيد سنة 1959، ودربنديخان الذي شُيّد بعده بسنتين، وهناك سد ثالث في محافظة دهوك، متوسط الحجم، اكتمل إنجازه سنة 1988.
وتشهد ثلاثتها انخفاضاً غير مسبوق في مناسيب مياه خزاناتها. فقد وصل التخزين في بحيرة سدّ دوكان منتصف شهر حزيران/ يونيو 2025 إلى نحو 1.6 مليار متر مكعب، من أصل طاقته التخزينية البالغة سبعة مليارات متر مكعب، أي أقل من ربع طاقته الاستيعابية، وهو أدنى مستوى يسجله منذ أكثر من عقدين، بحسب مدير السد كوجر جمال.
يقول مدير السدود في إقليم كردستان عبدالرحمن علي، إن “نسبة المياه في بحيرة دوكان، قلت بنسبة 60 في المئة، وفي دربنديخان بنسبة 40 في المئة مقارنة بالتوقيت ذاته من العام الماضي”، لافتاً إلى أن “الموقف المائي في محافظة دهوك أفضل، حيث انخفضت المياه في سدها بنسبة 25 في المئة فقط”.
فيما يشير المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية، خالد شمال، إلى أن التخزين الحالي في سد الموصل بات أقل من ثلث قدرته، وأن كمية المياه التي تصل إليه من نهر دجلة هي 228 متراً مكعباً في الثانية، وكمية مياه نهر الفرات التي ترد إلى سد حديثة هي فقط 210 أمتار مكعبة في الثانية، وهي “دون المعدلات المتفق عليها مع تركيا”.
يؤكد المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، في تقرير عن الجفاف وتغير المناخ، أن تدفق نهري دجلة والفرات “انخفض بنسبة تتراوح بين 30–40 في المئة مقارنة بالمتوسط الطبيعي”، ما تسبّب بتراجع حاد في الموارد المائية، وتسارع معدلات التصحر، وارتفاع نسب التبخّر، وهو ما انعكس بنحو مباشر على الإنتاج الزراعي والغذائي.
وجاء في التقرير، أنه في العام 2024 “أصبحت 71 في المئة من الأراضي الزراعية مهددة بالجفاف الكامل، مع فقدان ما يزيد عن 100,000 دونم من الأراضي الصالحة سنوياً بسبب التصحر”.
جذور الأزمة
نقص المياه تحوّل إلى مصدر معاناة جديد لسكان بعض مناطق إقليم كردستان، الذين يكافحون لتأمين مياه نظيفة لبيوتهم، فمن زاخو في أقصى الشمال الى كرميان في جنوب إقليم كردستان، يواجه السكان نقصاً في كميات المياه التي تلبي احتياجاتهم اليومية.
“الأمر لا يتعلق بالقطاع الزراعي فقط”، يقول سليم أحمد (45 سنة) من مدينة زاخو التي يقسمها نهر الخابور الى نصفين. ويضيف: “أمضي ساعات ما بعد منتصف الليل حتى الصباح بانتظار وصول المياه وجمعها بواسطة مضخة سحب في خزان، وغالباً لا تغطي احتياجاتنا سوى ليومين فقط”.
يتكرر هذا السيناريو في مدينتي السليمانية وجمجمال والكثير من مناطق كرميان، حيث ينتظر السكان أحيانا أياماً عدة قبل أن تصل المياه منازلهم، مع مشاكل تتعلق بتلوثها، وهو ما يثير غضبهم، لا سيما مع توسع المشاريع السكنية الاستثمارية واستحواذها على نسب كبيرة من المياه من دون النظر الى تداعيات ذلك.
يقول كاوا عبد الرحمن(33 سنة)، من جنوب السليمانية: “نعاني منذ عشر سنوات من مشكلة المياه، لكن في السنة الأخيرة بات الوضع أصعب ولا نعرف كيف سينتهي الأمر”.
يؤكد متخصصون، أن مشكلة توفير المياه للسكان لم تعد ترتبط بقلة أو فشل مشاريع تصفية المياه كما كان في السابق، بل بتراجع المياه الجوفية والسطحية نتيجة للجفاف، ويحذرون من أن أزمة المياه باتت تهدد بانحسار القطاع الزراعي في بعض مناطق الإقليم وتوقفه تماماً في مناطق أخرى.
ليس هذا فقط، فهم يحذرون كذلك، من أن أزمة المياه ستؤثر في حال استمرارها على الخطط الواعدة للقطاع السياحي الذي يعتمد على الموارد المائية في جذب غالبية السياح القادمين من مدن وسط البلاد وجنوبها.
ووفق معلومات أدلى بها باحثون وناشطون في المجال البيئي، بات التصحّر يهدد الأراضي الزراعية في غرب كردستان وجنوبها، ففي منطقة إدارة كرميان لوحدها طاول الجفاف أربعة آلاف دونم زراعي، وهذا ما دفع المزارعون والفلاحون في غالبيتهم إلى هجرة أراضيهم والانتقال إلى أعمال أخرى تؤمن لهم معيشتهم.
ومع ارتفاع درجة الحرارة وتجاوزها الخمسين درجة مئوية لأيام عدة خلال شهري تموز/ يوليو وآب/ أغسطس2025 في مدن البلاد ووسطها وجنوبها. ونتيجة النقص المستمر في المياه السطحية والجوفية، وتوقف النشاط الزراعي، تنخفض الرطوبة في التربة وتفقد حيويتها وتتطاير ذراتها مع الرياح ليغزوها التصحر.
ووفق تقارير أممية، تعد دول الشرق الأوسط وعلى رأسها العراق إحدى أكثر المناطق في العالم تأثراً بالتغييرات المناخية، ومن المتوقع أن تواجه تراجعاً في معدلات الأمطار ونقصاً حاداً في المياه يؤدي الى فقدان آلاف الكيلومترات المربعة سنوياً من الأراضي الزراعية.
ووفقاً للبيانات المناخية، سجلت معدلات تساقط الأمطار في العراق خلال السنوات الأربع الماضية، تراجعاً واضحاً عن المعدل السنوي المسجل خلال 100 عام، إذ أصبحت ما دون الـ200 ملم، مع تفاوت في مناطق الهطول.
وبلغ معدل الهطول 194 ملم في 2024، و190 ملم في 2023، و161 ملم في 2022، و148 في 2021، مع متوسط تاريخي يبلغ 204 ملم منذ 1901 حتى 2023. وكان أعلى مستوى مسجل هو 287 ملم في سنة 1954، وأدنى مستوى كان 133 ملم في 1973.
وفي إقليم كردستان، الذي تتجاوز معدلات الهطول المطري فيه باقي مناطق البلاد، بأكثر من الضعف، لا سيما في السليمانية ودهوك، حصل التأثير الأكبر للجفاف في المناطق الجنوبية والغربية من الإقليم، وبخاصة في كرميان، وبات ذلك يشكل تحدياً كبيراً للأمن المائي والزراعي في الإقليم عموماً.
وعلى الرغم من أن البيانات المناخية التي تعتمد على ما يسمى بالدورات المائية، تشير الى مواسم مطرية أفضل ستبدأ من موسم الأمطار 2025-2026 وستتحسن في الأعوام التالية والى العام 2030، إلا أن ذلك التوقع حتى وإن صحّ، فإنه مع ارتفاع درجات الحرارة وزيادة عدد السكان وفشل إدارة الموارد، سيظل “التهديد على الأمن المائي والغذائي قائماً في إقليم كردستان في السنوات المقبلة”، بحسب خبراء.
سياسة إيران وتركيا المائية
ثمة أسباب أخرى وراء أزمة المياه في إقليم كردستان وتحول مساحات زراعية كبيرة فيها الى أراض جافة ومتصحرة، أبرزها السياسات المائية التي تتبعها كل من إيران وتركيا من خلال بناء عشرات السدود التي تحجز المياه وتمنع وصول الكميات السابقة الى مجرى نهري دجلة والفرات، الى جانب تحويل مجاري الكثير من الأنهر الصغيرة، وهي بمجموعها حرمت العراق من نحو ثلث حصته المائية السابقة، والأساسية في إدامة الزراعة خلال موسمي الزراعة الشتوي والصيفي.
الخبير في علوم البيئة والأستاذ في جامعة كرميان د. عبد المطلب رفعت، يصف الجفاف الذي حصل في السنوات الخمس المنقضية (2020-2025) بالأسوأ في تاريخ المنطقة، ويذكر أن كردستان واجهت ثلاث سنوات جفاف خلال تلك الفترة، ولم تحصل بعض المناطق سوى على نسبة 20 في المئة من التساقطات المطرية السابقة.
ويضيف: “كذلك، انخفضت نسبة المياه في أنهار سيروان والزابين الكبير والصغير الى أقل من 30 في المئة من النسبة التي كانت تسجل سابقاً، وقد أدّى هذا النقص الحاد الى تراجع المساحات المزروعة، بخاصة من القمح والشعير والأرز”.
ويصف السياسات المائية لدول جوار العراق بـ”العدائية”، وأنها أدت إلى انخفـــاض حاد في كميات المياه في الأنهار وتدهور نوعيتها، ما أدى الى “نتائج كارثية على صعيد الإنتاجين الزراعي والحيواني، وأثر بذلك على الحالة المعيشية لعشرات آلاف العائلات التي تعتمد على الزراعة”.
ويعدد د. عبد المطلب، الأنهر التي تأثرت بالمشاريع التركية والإيرانية: “دجلة، الفرات، الزاب الأعلى، الزاب الأسفل، سيروان/ديالى، الوند، قورتو، هواسان… وغيرها”، ويذكر أن الإيرادات المائية القادمة من إيران انخفضت الى أدنى معدلاتها منذ العام 2021، وأدت الى انخفاض حاد في مياه سدّي دربنديخان ودوكان.
ويوضح:”خلال سنة 2025، انخفض مستوى المياه في سد دوكان الى أدنى مستوياته خلال الـ60 سنة الماضية، إذ أصبح المخزون المائي فيه أقل من 23 في المئة، لذا لا يمكن إرجاع السبب الى تراجع التساقطات المطرية، فسياسات دول الجوار هي الأكثر تأثيراً على الواقع المائي في العراق”.
ولم يستفد العراق من السنوات القليلة التي شهدت تساقطات مطرية جيدة، بسبب عدم وجود ما يكفي من السدود الاستراتيجية. ويقدر باحثون بأن أكثر من 85 في المئة من مياه الأنهار وموارد المياه التي تتدفق عبر کردستان وبقية الأراضي العراقية، تذهب هدراً وتصبّ في الخليج العربي.
حكومة كردستان أنشأت في العقد المنصرم سدوداً جديدة، لكن بقدرات تخزين صغيرة لم تتجاوز بمجموعها النصف مليار متر مكعب. وزيرة الزراعة في حكومة كردستان بيكرد طالباني، تقول إن هنالك 12 سداً قيد الإنشاء حالياً في الإقليم، لتضاف الى 25 سداً تم بناؤها سابقاً، بينما تم اقتراح إنشاء 42 سداً آخر، وإن العمل جار لبناء 56 بحيرة صناعية.
وتهدف تلك السدود الى زيادة كميات المياه السطحية التي يمكن استغلالها للشرب والزراعة، وزيادة فرص الحفاظ على مستويات المياه الجوفية، وإثراء الموارد السمكية، وتطوير السياحة وتنمية الثروة الحيوانية، بالإضافة الى مساهمتها في مواجهة التغيرات المناخية وزيادة المساحات الخضراء.
وينتقد د. عبد المطلب رفعت، السياسات المائية لحكومة كردستان منذ العام 1992، لاعتمادها وبنحو كبير على المياه الجوفية، مع إهمال المشاريع الاستراتيجية لاستغلال المياه السطحية، مبيناً أن نسبة 95 في المئة من مياه الشرب والزراعة والصناعة في الكثير من مناطق الإقليم تعتمد على الآبار، وهو ما أدى الى انخفاض منسوبها الى عشرات الأمتار بل ونضوب الكثر منها.
ويذكر أن أربيل عاصمة الإقليم، تعتمد ومنذ عقود في تأمين احتیاجاتها المائیة على مياه الآبار وبنسبة تصل الى 65 في المئة. وبحسب تقارير وبيانات بيئية، تراجعت أعماق الآبار فيها الى أكثر من 500 متر، وفي بعض ضواحيها يصل عمق الآبار الى نحو 700 متر، وكان محافظ أربيل أوميد خوشناو، ذكر في تصريح صحافي أن أكثر من 100 بئر تم حفرها سنة 2023، إلا أن 25 في المئة منها جفت.
20 ألف بئر ماء غير مرخصة
الاعتماد المتزايد على المياه الجوفية، للاستخدامات المنزلية والزراعة، وتراجع مخزوناتها في ظل قلة تساقط الأمطار والثلوج، فضلاً عن النمو السكاني المتزايد، ذلك كله دفع الى حفر آلاف الآبار في إقليم كردستان من دون تراخيص رسمية، وهو ما فاقم حدة أزمة المياه.
وبحسب بيانات مديرية الموارد المائية في كردستان لعام 2016، يوجد أكثر من (40 ألف) بئر للمياه الجوفية في الإقليم، 40 في المئة منها فقط مرخصة من الدوائر الحكومية. ووفق البيانات ذاتها، يبلغ عدد الآبار غير المرخصة في محافظة السليمانية أكثر من (17 ألف) بئر، وفي محافظة أربيل أكثر من (3 آلاف) بئر، وفي محافظة دهوك أكثر من (200) بئر. وهذه الأرقام ارتفعت بنحو سريع في الأعوام اللاحقة.
ويحدد مدير عام الموارد المائية في كردستان الدكتور كاروان صباح هورامي، أعداد الآبار المرخصة حتى نهاية العام 2021 بـ”24 ألفاً و 357 بئراً محفورة في قطاعات مياه الشرب والزراعة والصناعة”، وأن آبار مياه الشرب بلغت (12.421) بئراً، منها 4320 في أربيل، و6117 بئراً في السليمانية، والباقي في دهوك ومنطقة كرميان.
أما عدد آبار المياه الزراعية فبلغ (10986) بئراً بينها 4831 بئراً في اربيل، و2017 في دهوك، و3028 في السليمانية، و 1110 بئراً في كرميان. وبلغ عدد آبار المياه الصناعية (950) بئراً أكثر من نصفها في السليمانية.
ناشطون بيئيون يؤكدون أن حفر الآبار للنشاطات المختلفة ازداد في السنوات الأخيرة، لا سيما غير المرخصة منها، وهو ما شكل نزيفاً للمياه الجوفية، ومعه ازدادت أعماق الآبار المحفورة من 200 و 300 متر الى ما فوق الـ500 متر وصولاً الى 700 متر في بعض المناطق.
ويشيرون إلى أن الزيادة السكانية، ومع التوسع في إنشاء المجمعات السكنية العمودية التي تستقطب غالباً المواطنين العرب من سكان مناطق وسط العراق وجنوبه، هي من العوامل الأخرى التي قلّصت مخزون المياه الجوفية.
إذ تؤمن تلك المجمعات، التي تعود ملكيتها غالباً الى شخصيات سياسية وحزبية متنفذة في السلطة بإقليم كردستان، المياه لـ24 ساعة في اليوم، بالتالي هي عمقت الأزمة المائية بسبب الحاجة الى كميات مياه أكبر لسد حاجة السكان الجدد.
يُذكر أن سكان إقليم كردستان بحسب التعداد السكاني الذي أُجري في تشرين الثاني/ نوفمبر2024، بلغوا 6 ملايين و370 ألف نسمة.
معدل الاستهلاك البشري في الإقليم
يتراوح معدل الاستهلاك اليومي للفرد من المياه في إقليم كردستان بين 300 الى 370 لتراً يومياً وفق دارسات عدة. ويصف خبير الاستراتيجيات والسياسات المائية وتغير المناخ رمضان حمزة هذه الأرقام بـ”المرتفعة” مقارنةً بالمعايير الدولية، إذ إن المتوسط العالمي يبلغ 250 لتراً للفرد يومياً.
ويذكر أن “دراسات ميدانية قدّرت معدل الاستهلاك المنزلي للفرد في أربيل التي تعاني من شح في المياه، بنحو 195 لتراً يومياً، بينما يصل الاستهلاك الإجمالي- منزلي وتجاري وخدمي- إلى نحو 400 لتر للفرد يومياً”.
ووفقاً لرمضان، يقدّر معدل الاستهلاك للعائلة الواحدة في كردستان بمتر مكعب واحد من المياه (1000 لتر) أو أكثر قليلاً “إذا لم يكن هنالك إسراف في الاستهلاك”. ويُقدر نسبة هدر المياه ما بين 10 إلى 30 في المئة من إجمالي الاستهلاك اليومي للفرد في الإقليم.
وعلى افتراض أن متوسط حجم العائلة هو 5 أفراد، فإن الفرد في الإقليم يستهلك فقط للاحتياجات المنزلية أكثر من 200 ليتر يومياً. لكنْ، هنالك تفاوت في الاستهلاك بين المناطق الحضرية والريفية، إذ يكون الاستهلاك في المدن أعلى بسبب طبيعة الحياة وتوافر الخدمات والمرافق.
وعن معدل الحاجة الفعلية الى المياه في الإقليم لسقي الأراضي الزراعية، يقول رمضان: “يختلف ذلك حسب نوع المحصول ونوع التربة وطريقة الري”، ويلفت الى أنه في الظروف التقليدية، يحتاج الدونم الواحد (2500 متر مربع) إلى ما بين (4000 و6000) متر مكعب من المياه سنوياً للمحاصيل الصيفية “إذا اعتمدت طرق الزراعة المروية”.
ويستدرك: “أنظمة الري التقليدية كالري السيحي، تستهلك كميات أكبر بكثير من المياه، مقارنة بأنظمة الري الحديثة مثل الري بالتنقيط أو الرش، التي تقلل الاستهلاك بنسبة تترواح بين 30-50 في المئة”. وينوه إلى أن الحاجة المائية تحدد بحسب نوع المحصول “القمح، الشعير، الخضروات، إلخ”، ونوع التربة “رملية، طينية”، وكذلك طرق الري “تقليدي أو حديث” والظروف المناخية “معدلات الأمطار ودرجات الحرارة”.
غياب السياسات المائيّة
تتولى وزارة الزراعة والموارد المائية في إقليم كردستان، رسم وتنفيذ السياسات المتعلقة بالأمن الغذائي وتطوير مصادر المياه، لكنها تواجه تحديات كبيرة بسبب النقص المستمر في المياه الجوفية والسطحية ومخزون السدود، بالإضافة إلى تذبذب كميات الأمطار السنوية.
ويفتقر الإقليم، الذي يفترض أنه يتمتع ببيئة جيدة للزراعة وللسياحة المعتمدة على الموارد المائية، الى سياسات مائية كفوءة قادرة على مواجهة مواسم الجفاف والتداعيات الناجمة عنها، وهذا ما يجعله محل انتقاد الكثير من الخبراء والمعنيين بالمناخ وسياسات المياه.
وتعد كميات المياه السطحية في إقليم كردستان متوسطة، إذ توجد أنهار رئيسية عدة مثل الزاب الكبير والزاب الصغير ودجلة الذي ينبع من تركيا. وبحسب وزارة الموارد المائية في إقليم كردستان، يبلغ إجمالي إيرادات المياه الداخلية (مصدرها إقليم كردستان) والخارجية (مصدرها إيران وتركيا) في الإقليم نحو 18.5 مليار متر مكعب.
بينما يبلغ الطلب السنوي على المياه في الإقليم نحو 6.5 مليار متر مكعب، وتقدر كميات المياه الجوفية القابلة للاستخدام نحو 1.5 مليار متر مكعب. لكن كميات المياه السطحية والجوفية تشهد تراجعاً سريعاً عاماً بعد آخر بسبب سياسات دول الجوار والجفاف.
يقول مدير عام المياه الجوفية العراقية د. ميثم علي، إن احتياطي البلاد من المياه الجوفية يبلغ خمسة مليارات متر مكعب، نحو نصفه (2.5 مليار متر مكعب) موجود في إقليم كردستان، مبيناً أن كميات الأمطار القليلة في السنوات الأخيرة “لا تساعد في الحفاظ على الاحتياطي عند مستواه الحالي”.
وبسبب الضغط المستمر على ذلك الاحتياطي من المياه الجوفية، والذي لا يمكن تجديده، ومع خطورة تراجع المياه السطحية التي ترد نصفها من مصادر خارج الإقليم (تقدر بـ 8 مليارات متر مكعب)، ينبه الخبير في سياسات المياه رمضان حمزة، الى خطورة عدم وجود “سياسة مائية واضحة ومتكاملة وصارمة” لمواجهة أزمة الجفاف المتفاقمة.
ويقول: “تقلصت حصص المياه الواردة الى العراق من دول التشارك المائي إلى أقل من 40 في المئة من استحقاقه، ما أدى إلى تقليص المساحات الزراعية في عموم مناطقه بما فيها إقليم كردستان، فيما تم إلغاء الخطط الموضوعة للموسم الزراعي الصيفي لعام 2025”.
تُتهم الحكومة العراقية بدورها، بعدم امتلاكها سياسة مائية متكاملة لمواجهة التغير المناخي من جفاف وتصحر، على الرغم من وجود دراسة استراتيجية لمصادر المياه والأراضي أُعدت للسنوات 2015-2035، وتم تحديثها في العام 2025 ولكنها لم تطبق لوجود تحديات في التمويل والتنفيذ والالتزام القانوني.
يقول الخبير في استراتيجيات المياه رمضان حمزة، إن الوضع المتفاقم للمياه يستدعي “تعزيز التخطيط الاستراتيجي، وتطوير البنية التحتية للمياه، وتفعيل التعاون الإقليمي والدولي لضمان استدامة الموارد المائية، ووضع خطة شاملة لإدارة الموارد المائية”.
ويحذّر من تدهور بيئي خطير، إذا استمرت الإطلاقات المائية من دول الجوار بمعدلاتها الحالية، داعياً الحكومة الى تحرك شامل وعبر مسارات متعددة “للتوصل الى اتفاقيات ملزمة مع (تركيا، إيران، وسوريا) إلى جانب العمل بشكل عاجل لرفع التجاوزات وإدارة الموارد المائية المتاحة بصورة متكاملة ومستدامة”.
وبشأن الاستراتيجية المائية في كردستان، يقول إن الوضع مشابه، فالحكومة قررت إنشاء سدود جديدة “لكن تمويلها لا يزال محدوداً، ما يعيق تنفيذ خطة شاملة لإدارة الموارد المائية”.
وتعليقاً على مشاريع حكومة كردستان لإنشاء سدود جديدة، يقول مدير السدود في إقليم كردستان، عبد الرحمن علي، إن مجموعة من السدود الصغيرة وسدود حصاد الأمطار أُنشئت في بعض المناطق التي تعاني من الشح المائي والجفاف.
ويشير الى مشاريع أخرى ضمن مخرجات “الدراسة الاستراتيجية لموارد المياه والأراضي في العراق”، يتم العمل على إدراجها ضمن تخصيصات الموازنة الاتحادية كونها تخدم العراق وإقليم كردستان معاً، كسدود “منداوة، باكرمان، دلكة وطق طق”.
ويؤكد أهمية هذه المشاريع لضمان الأمن المائي والغذائي واستقرار القرويين والمزارعين في أراضيهم، ولضمان المتطلبات البيئية لمواجهة التغير المناخي بما فيه “الحد من استهلاك المياه الجوفية التي تُستنزف بنحو مفرط، والتي تعد حالياً المصدر الرئيسي للاستخدامات الزراعية والصناعية ومياه الشرب لمناطق واسعة في كردستان، بخاصة مدن كلار، كفري، وأربيل”.
وبحسب تقرير للبنك الدولي صدر في العام 2021، فإن العراق مهدد بخسارة 20 في المئة من موارده المائية خلال عقدين ونصف العقد نتيجة استمرار ظاهرة تغير المناخ، عدا عما يخسره من تراجع الإيرادات المائية من تركيا وإيران.
وحذّر التقرير من أنه و”بحلول العام 2050، سيؤدي ارتفاع درجة الحرارة درجة مئوية واحدة وانخفاض معدل المتساقطات بنسبة 10 في المئة، إلى انخفاض بنسبة 20 في المئة في المياه العذبة المتاحة، وأن المياه لن تصل إلى قرابة ثلث الأراضي المرويّة”.
السياحة تحت الضغط
الجفاف الذي قلل محصول الحنطة والشعير في العام 2025 الى نصف ما كان عليه في العام 2024، أدى الى توقف زراعة الأرز المحلي في الكثير من مناطق إقليم كردستان، والتخلّي عن مساحات واسعة من الأراضي التي طاولها الجفاف في كرميان والسليمانية واربيل.
أتى أيضاً على عشرات من أحواض تربية السمك، كما أثر على المواشي في ظل تراجع المراعي الطبيعية وارتفاع أسعار الأعلاف. وهذه بمجموعها ظلت لعقود تشكل مصادر دخل أساسية في كردستان قبل أن يُستثمر النفط.
تطاول آثار أخرى للجفاف القطاع السياحي، فعلى الرغم من عدم وجود أية بيانات رسمية عن حجم الأضرار الاقتصادية التي أصابت قطاع السياحة بسبب الجفاف، إلا أن رئيسة هيئة السياحة في إقليم كردستان أمل جلال، تتحدث عن أضرار مستقبلية أكيدة للجفاف على النشاط السياحي في الإقليم، الذي يعتمد بشكل أساسي على طبيعته الخضراء ومنتجعاته المائية.
مناطق سياحية كثيرة في كردستان، مثل حلبجة، سوران، زاخو، دهوك، عقرة، ودوكان، تعتمد في استقطاب السياح من وسط العراق وجنوبه على مرافقها المائية من شلالات وأنهر وبحيرات، أي على وفرة مياهها وطبيعتها الخضراء ومناخها المعتدل.
لذا، فإن توقف الينابيع عن الجريان وتحول الأنهر الى سواق صغيرة كما يحصل الآن، ومن ثم انحسار المساحات الخضراء، سيعني خسارة مئات آلاف السياح، ما سيؤثر مباشرة على عمل مئات الفنادق والمطاعم والأسواق والأنشطة الترفيهية.
وتتوقع أمل جلال ألا تحمل السنوات المقبلة أخباراً سارة لقطاع السياحة إذا استمر التدهور البيئي الحالي، ما سيهدد جاذبية الإقليم كمقصد سياحي وسيؤدي على المدى المتوسط إلى انخفاض أعداد السياح بنسبة قد تصل إلى 30 في المئة، مع احتمالية أن يغير بعض الزوار وجهتهم السياحية إلى دول أخرى.
تداعيات الجفاف على بيئة كردستان ومن ثم القطاعين الزراعي والسياحي، ستحرم عشرات آلاف العاملين في أهم قطاعين إنتاجيّين من فرص العمل، وستنعكس مباشرة على حركة السوق، بكل ما يحمله ذلك من آثار اقتصادية.
يقول الناشط البيئي كاروان علي: “كردستان تعتمد في استقطاب أكثر من 5 ملايين سائح سنوياً، على بيئتها المعتدلة ومياهها ومناطقها الخضراء.
تداعيات الجفاف وشح المياه ستكون هائلة، إذا لم يتم تداركها باستراتيجية عمل شاملة لاستغلال المياه”.
المصدر: شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية
بغداد اليوم – النجف في مدينة النجف، حيث تختلط رائحة التاريخ الديني بثقل الصراعات السياسية، يتقدم جيل جديد نحو الصناديق، جيل ولد مع بدايات القرن الجديد ولم يعرف سوى عراق مضطرب، لكنه الآن يتهيأ ليترك بصمته الأولى في الحياة العامة. مواليد 2006 و2007 يدخلون