مشهد من رقي الأكاديميا… ومشهد من خذلانها

بقلم د. نوار السعدي

قبل شهر، تلقيت اتصالاً من زميل سابق لي في جامعة بوخارست، البروفيسور "إيجور". أخبرني أن يوم 29 أيار، أي يوم أمس، يصادف الذكرى ال 75 (اليوبيل الذهبي) لميلاد البروفيسور إيوان يانوش، أستاذي ومشرفي على أطروحة الدكتوراه منذ عام 2010، والذي عملت معه لاحقًا حتى عام 2018 في الجامعة نفسها.

طلب مني إيجور أن أكتب كلمة تهنئة، وأُرفق معها صورة وذكرى أو موقف حصل بيني وبين البروفيسور يانوش، حيث أنهم شكلوا فريقا داخل الجامعة يعمل على جمع شهادات وصور وذكريات من جميع الزملاء السابقين والحاليين، لإصدار كتاب مطبوع يوثق مسيرة يانوش الأكاديمية التي امتدت 44 سنة في جامعة بوخارست، إلى جانب إعداد فيلم وثائقي عن حياته، وعرضه في حفل تكريم مفاجئ سيحضره دون علمه.

تخيلوا معي ... يتم دعوته إلى الجامعة ليدخل قاعة المؤتمرات وليس لديه علم بالموضوع، ليجد زملاءه وتلاميذه والأساتذة جميعًا يصفقون له، يستقبلونه بالحب والتقدير، تُعرض أمامه سيرة حياته العلمية، وتوزع نسخ الكتاب المطبوع الذي يوثقها، ويتسلم الهدايا والتكريمات من الجامعة ومن الحضور. في مشهد مهيب يليق بمن قدم حياته للعلم والتعليم، ويعكس أعلى درجات الوفاء الأكاديمي.

وقفت أمام هذه المبادرة المليئة بالاحترام والرقي، وأنا أشعر بالألم لما آلت إليه حال جامعاتنا اليوم… للأسف، في العراق، حين يحال الدكتور الجامعي إلى التقاعد، لا يسأل عنه أحد. يغيب بصمت، وقد يموت دون أن يعرف به أحد، ولا يلتفت إلى صحته أو أحواله. لا تكريم، لا وفاء، واحيانا ولا حتى كلمة شكر.

أصبح الأستاذ الجامعي في بلدي يعامل وكأنه عبء، "مجرد راتب" لا قيمة له، يحتاج إلى وساطات لتحصيل أبسط حقوقه، ترقية علمية، مكافأة نهاية خدمة، أو حتى تصحيح مدة خدمته!

ما الفرق؟ الفرق أن هناك مؤسسات تعترف بقيمة الإنسان، تحترم من قدم عمره في بناء العقول، وتدرك أن الوفاء جزء من حضارتها وثقافتها الأكاديمية. أما عندنا، فغابت ثقافة التقدير، وحل مكانها الإهمال، وأُقصيت الكفاءات بصمت لا يليق بها.

أنا اليوم أكتب هذا المنشور وقلبي يعتصره الألم على حال التعليم في بلدي… على كفاءات تدفن وهي على قيد الحياة، وأساتذة يرحلون بصمت، وكأنهم لم يكونوا.

لكني في ذات الوقت أرفع قبعتي احترامًا لجامعة بوخارست، ولزملائي السابقين الذين لم ينسوا أستاذهم، ولم ينسوا فضل من علّمهم.

ربما ما زال هناك أمل…