بغداد اليوم - البصرة
من مشاهد الانهيار أمام الجرافات، إلى صرخات المسنّات في الهواء الطلق: "ما عندي غير الله... وين أروح؟"، تتكوّن في البصرة الآن واحدة من أكثر الأزمات تعقيدًا منذ سنوات. ليست الأزمة في طين الجدران أو صفيح السقوف، بل في قسوة القانون حين يُنفَّذ بلا رحمة، وفي فوضى العلاقة بين المركز والمحافظة. وما يجري اليوم ليس مجرد "إزالة تجاوزات"، بل اختبار سياسي وأخلاقي واسع: كيف تُدار السلطة في بلد يعيش فيه أكثر من ثلاثة ملايين مواطن في العشوائيات؟ ومن يملك القرار حين تتقاطع الإنسانية بالقانون؟
السوداني يدعو إلى التريّث... والعيداني يرد بالرفض
مع بدء تنفيذ حملات إزالة التجاوزات في عدد من مناطق البصرة، أصدر رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني توجيهًا في 19 أيار 2025 بإيقاف أي عمليات إزالة سكنية دون توفير بديل، مؤكدًا على ضرورة احترام كرامة المواطن وحمايته من التشريد. التوجيه أشار إلى أن "العدالة لا تتحقق بهدم بيت دون بديل، ولا تُبنى الدولة على أنقاض المساكين".
لكن محافظ البصرة، أسعد العيداني، رفض تنفيذ توجيهات السوداني، معتبرًا أن ما يجري هو تنفيذ لقرارات قضائية باتّة، ولا يمكن تعطيلها، مؤكدًا أن المحافظة ليست جهة تابعة للحكومة المركزية. وردّ العيداني بأن "العراق دولة اتحادية، ولا يمكن للمركز أن يتدخل في قرارات مستندة إلى أحكام قضائية صادرة بحق المتجاوزين على أراضٍ عامة أو مخصصة للغير".
وقفة احتجاج في خور الزبير: "مع القانون... ولكن أين البديل؟"
وفي مشهد يعكس الاحتقان الشعبي، نظّم العشرات من أهالي ناحية خور الزبير جنوب البصرة وقفة احتجاجية للمطالبة بإيقاف حملات إزالة المنازل السكنية دون بديل، وإعطاء مهلة واقعية للسكان. المحتجون أعربوا عن تأييدهم لمبدأ تنظيم المدن وإزالة العشوائيات، لكنهم رفضوا طريقة التنفيذ "التي لا تحفظ كرامة المواطن"، مطالبين بتخصيص أراضٍ سكنية وفقًا لما ينص عليه الدستور.
وأكد عدد من المواطنين في حديثهم لوسائل اعلام محلية، أنهم "لا يمانعون بتنفيذ القانون، ولكن ليس بهذه الطريقة التي تهدم البيت فوق رؤوس الأطفال وتترك العائلة في العراء". كما شددوا على ضرورة استكمال إجراءات تحويل خور الزبير إلى ناحية رسمية، وتعيين مدير لها، بعد مرور أكثر من عام على صدور قرار التحويل.
أزمة التمليك والتجاوز.. شهادة تكشف الوجه الآخر
إحدى الشهادات اللافتة جاءت من مواطن يمتلك سند تمليك لقطعة أرض في مقاطعة 55 بمنطقة النجمي، غرب البصرة. قال المواطن إن الأرض وُزعت منذ التسعينات على موظفي الصناعة، لكنها لم تُفرز قانونيًا حتى اليوم، ما أفسح المجال لآخرين للتجاوز عليها، واستغلالها كبيوت سكنية أو مزارع دون سندات رسمية.
وحين بدأت السلطات المحلية بتنفيذ الإزالات، وُضع الجميع في سلة واحدة، دون تمييز بين مالك قانوني ومتجاوز اضطراري. ويقول هذا المواطن: "أنا أملك سند رسمي، لكني أسكن في بيت تجاوز، لأني لا أستطيع بناء أرضي بسبب الإهمال الإداري"، داعيًا الحكومة إلى تعويض المتجاوزين لإنهاء الأزمة وحفظ حقوق الجميع.
مشهد إنساني لا يغيب عن العدسة
المقطع الذي جرى تداوله على "إنستغرام" لامرأة مسنّة تصرخ بحرقة بعد هدم بيتها، قائلة "ما عندي غير الله، وين أروح؟"، تحوّل إلى رمز للأزمة. تجاوز المشهد البعد الإعلامي، وأصبح مرآة تعكس الطريقة التي يتعامل بها القرار السياسي مع الفقر المزمن. وفي ظل عدم توفير بدائل سكنية فورية، تتحول كل جرافة إلى معول يهدم ما تبقى من ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.
الربيعي: "القنبلة الموقوتة في الشارع"
النائب عن محافظة البصرة، أحمد طه الربيعي، اعتبر خلال حديثه لـ"بغداد اليوم"، أن ما يجري "لا يحمل أي شكل من أشكال الإنسانية"، مؤكدًا أن "الناس سكنوا اضطرارًا لا ترفًا"، وأن إزالتهم من دون بديل تمثل قنبلة موقوتة تهدد السلم المجتمعي. وأضاف: "السوداني كان يحمل جانبًا إنسانيًا واضحًا في توجيهاته، لكن غياب التنسيق بين المحافظات والحكومة المركزية جعل الفقراء هم ضحية هذا الصراع".
الربيعي أشار إلى أن الحل لا يكمن فقط بإيقاف الهدم، بل بإعادة تنظيم العلاقة بين الحكومة والمحافظات، وإنشاء خطط إسكان وطنية شاملة، تبدأ من القاع لا من مكاتب الاستثمار.
مشاريع مستقبلية لا تعالج ألم الحاضر
محافظة البصرة أعلنت من جانبها عن مشروع "مدينة النخيل" أو Palm City، وهو مشروع إسكان وتنمية طموح يهدف إلى بناء أكثر من 120,000 وحدة سكنية، بالتعاون مع شركات مصرية وصينية. لكن المشروع، رغم أهميته، لا يُعد حلاً فوريًا، بل يحتاج إلى سنوات لتنفيذه، ما يجعل أزمة العائلات الحالية بلا أفق واضح.
في المقابل، تُشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 3.2 مليون عراقي يعيشون في تجمعات عشوائية، وهو ما يتطلب استراتيجية وطنية طويلة الأمد، لا حملات طارئة يختلط فيها القانون بالقسوة.
من قانون بلا بديل إلى دولة بلا اتساق
ما يحدث في البصرة اليوم لا يعبّر فقط عن أزمة سكن، بل عن أزمة حكم. فحين تتجاهل الدولة الإنسان باسم القانون، وتتنازع مؤسساتها على الشرعية أمام بيوت الصفيح، تُصبح الأزمة بنيوية لا ظرفية. وقد آن الأوان لتكون العدالة أوسع من حدود سند التمليك، وأن تتحوّل "الدولة العادلة" من شعار سياسي إلى واقع لا يهدم بيتًا دون أن يبني أملاً.
المصدر: بغداد اليوم + وكالات
بغداد اليوم- متابعة كشفت مصادر مطّلعة لوكالة رويترز، اليوم الثلاثاء، (20 أيار 2025)، أن الحكومة السورية وافقت على تسليم مقتنيات الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين إلى إسرائيل. وعزت المصادر هذه الخطوة "محاولة لتخفيف التوترات وكبادرة حسن نية تجاه الرئيس