في تلك البلاد
مقالات الكتاب | اليوم, 15:53 |
زهراء كوسرت ظاهر
في تلك البلاد، حيث تختلط الأحلام بطعم التراب، وحيث تصارع الشعوب من أجل البقاء وسط أمواج عاتية من التحديات السياسية والاقتصادية، تحول الفكر والعلم والأدب والثقافة إلى ظل خافت خلف صخب الأحداث. تلك الأرض التي كانت يوماً منارةً للفكر ومصدراً للعلم والأدب، تعيش اليوم فصلاً مضطرباً من تاريخها، يحمل معه صخب التطورات السياسية والأزمات المتتالية التي تبدو وكأنها تحجب عن العيون نور الثقافة وهدوء القراءة.
الحياة السياسية وما تستتبعه من اضطراب قد يشتد حتى يصل إلى العنف، بل إلى الثورة. وإن في البلاد الأخرى خصوماتها الحزبية حول الحكم وما يتصل بالحكم. وإن للبلاد الأخرى ساعات وأياماً من حياتها السياسية ملؤها الفزع الذي يستأثر بالنفوس أو الفرح الذي يستهوي الألباب.
هل نحن على أعتاب مرحلة يعاد فيها رسم الخرائط؟ أم أننا نقف عند منعطف آخر قد يقود إلى طريق مسدود؟ أم أن الوقت قد حان لمراجعة اتفاقات تاريخية ينبغي عليها أن تُفسخ؟ أسئلة تتردد في الأذهان، وتلقي بظلالها على مصير الشعوب الساعية إلى مستقبل أكثر وضوحاً واستقراراً. وسط هذا المشهد المضطرب، وفي خضم هذا الصراع، تصبح الخيارات غامضة، فيما يواصل التاريخ نسج فصوله الجديدة بخيوط من الأمل والتوجس معاً.
التوترات السياسية تسود الأجواء، والنزاعات الإقليمية تلقي بظلالها الثقيلة على المجتمعات، فتجعل من الصعب على الأفراد أن يجدوا متسعاً للتفكير خارج حدود الخوف والقلق من المستقبل.. مشهد مضطرب، يبدو أن شغف الثقافة أصبح أسير الأحداث اليومية، وتلاشى الاهتمام بالمعرفة وسط عناوين الأخبار العاجلة والصراعات المستمرة.
تستطيع أن تلتقي بمن شئت أينما شئت ومتى شئت، فلن يكون الحديث بينكما إلا في السياسة وما نشرت مواقع التواصل الاجتماعي من أنباء وما امتلأت به من جدال وخصومة. فأما العلم والأدب والفن، فكل ذلك شيء لن تعرضا له في حديثكما إلا إذا اضطررتما إليه، وما أحسب أنكما تضطران إليه.
لو عدنا قليلاً بالتاريخ؛ ألا يقولون أقرأ التاريخ لتفهم المستقبل! لقد اضطرب العالم اضطراباً لم يعرف التاريخ مثله، واستمر هذا الاضطراب أعواماً أزهقت فيها نفوس لا يكاد يبلغها الإحصاء، وجرت فيها الدماء أنهاراً دون أن يكون في هذا التعبير مبالغة أو غلو، وآمتْ فيها نساء ويُتمت فيها أطفال واختل فيها التوازن الاقتصادي والخلقي والأدبي اختلالاً لا مثيل له. ولكن هذا كله لم يصرف أوربا ولا أمريكا عن حياة العقل والشعور أو لذة العقل والشعور، بل على العكس، كثر التأليف وكثرت الترجمة، واشتد ما بين الأمم من صلات، فحرصت الحرص كله على أن يعرف بعضها بعضاً ويفهم بعضها نفسيات بعضها الآخر.
ماذا عنّا؟ فَاسأل عن حُبّنا للحياة العقلية وعن عنايتنا بها قبل الحروب وأثناء الحروب، قبل الثورات وأثناء الثورات. نبئني عن نتيجة هذا الحب وهذه العناية، فلن تجد شيئاً تنبئني به إلا أنك خَجِلٌ مثلي لهذه الجهود المُضَيَّعَةِ في غيرِ نفعٍ ولا غَناءٍ.
ألم تكن بلادنا العربية بلاد العلماء مثل ابن النفيس والكندي والقلقشندي، والأدباء مثل جبران خليل جبران وبدوي الجبل، وأمين الريحاني وغسان كنفاني ومحمد مهدي الجواهري ونازك الملائكة؟ ألم نكن من رواد المدارس والمراكز العلمية التي ازدهرت في عصور مختلفة. حيث كان علماؤنا وأدباؤنا الكورد على مر العصور جزءاً من الحراك العلمي والثقافي في المنطقة. أسماء مثل المؤرخ الكبير ابن خلكان والشاعر والفيلسوف الكبير أحمد خاني الذي ألّف "مم وزين"، أحد أعمدة الأدب الكوردي، والعالم ابن صلاح الشهرزوري، هؤلاء وغيرهم الذين يجسدون تراثاً ثقافياً لا تزال شعلة إبداعهم متقدة رغم المآسي التي عصفت بمنطقتنا..
نحن بلاد الاستثمار في التعليم، وتشجيع الابتكار والبحث العلمي، وتعزيز البنية التحتية التعليمية، نحن بلاد الاحتفاء باللغة والثقافة.. دورنا في دعم العلم ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لمسيرة طويلة من التمسك بالمعرفة كسلاح لمواجهة الصعاب. من خلال الموازنة بين الحفاظ على الهوية الثقافية والانفتاح على العالم.
أبتسم ابتساماً فيه شيء من الحزن وفيه شيء من الأمل أيضاً حين أسمع كلمات مثل "الاستقلال","الحرية" "الدستور". أبتسم ابتسامة حزن لظلم الجيل الذي نحن فيه، وأمل في إنصاف الأجيال القادمة. في تلك البلاد، قد تكون السياسة قد أثقلت كاهلنا، لكن التمسك بالعلم والمعرفة ما زال ينتظرنا؛ ليكون منارة تقودنا نحو مستقبل أكثر إشراقاً.
في تلك البلاد، حيث الطموحات تصارع الإحباطات، يبقى الأمل في عودة زمن يُقدَّر فيه الفكر وتُصان فيه الكلمة. إنها مسؤوليتنا جميعاً أن نعيد اهتمامنا للعلم والمعرفة والثقافة، وأن نزرع في الأجيال القادمة حب التعلم والتفكير النقدي. فالتقدم الحقيقي يبدأ من العقل، والعقل يحتاج إلى غذاء دائم من المعرفة والثقافة.