ذكورها لا تتقاعد.. ما حكاية قرية اللقالق في العراق؟
منوعات | 24-06-2022, 09:05 |
بغداد اليوم - متابعة
على خلاف القرى المجاورة، أصبحت قرية كاني ماران، في قضاء رانية بمحافظة السليمانية بكردستان العراق، موطنا للقالق المهاجرة التي تعيش فيها لعدة أشهر على مدار العام، وتبني مستوطناتها على أعمدة خطوط كهرباء الضغط العالي والأشجار في أثناء اعتدال درجات الحرارة، لتستقر فيها دون الخوف من سكانها.
منذ ستينيات القرن الماضي، اعتاد طائر اللقلق على أن يبني عشه بشكل مثير للدهشة على مسافات قريبة من البشر، وعلى رؤوس أشجار البلوط تحديدا بالقرب من المياه والسواقي التي كانت تشتهر بها القرية، إلا أنه مع ارتفاع درجات الحرارة وانقراض الأشجار خلال السنوات القليلة الماضية، باتت اللقالق تعشش على أعمدة خطوط الكهرباء بشكل انفرادي، أو على شكل مجموعات أيضا.
الذكور قبل الإناث
وفي ظاهرة عامة ومتكررة، منذ نحو 5 عقود تأتي ذكور اللقالق قبل الإناث إلى القرية منتصف يناير/كانون الثاني من كل عام، لتستطلع الأمكنة والأجواء، ومن ثم ترسل أشبه ما تكون بـ"إشارة" إلى الإناث للقدوم إليها على شكر سرب أو أفواج دفعة واحدة، لتبني بعد ذلك أعشاشها المصنوعة من الأغصان والعشب والقش والورق والصوف وغيرها، وفقا لملا عبد الله مراد أحمد (54 عاما) وهو أحد أشد المتابعين لحياة اللقالق وتاريخها في قريته منذ 4 عقود تقريبا.
تضع الإناث بيوضها في فبراير/شباط، وعادة ما تكون من 4 إلى 6 بيضات، ثم تبدأ بالتفقيس الذي يكون غالبا في شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار، وبعدها تبقى الإناث في أعشاشها بعد التفقيس إلى حين أن تكبر الفراخ وتصبح قادرة على الطيران، على أن تتولى الذكور عملية تأمين الغذاء للأم وفراخها ولا تتقاعد أبدا عن العمل، حسب وصف أحمد.
وردا على سؤال عن أسباب اختيار اللقالق قرية كاني ماران لتكون موطنا لها، يجيب ملا عبد الله -للجزيرة نت- بإشارته إلى أن قريتهم تمتاز بكثرة الضفادع والأفاعي والأسماك الصغيرة التي تعد أكل اللقالق الرئيسي، والتي تكثر في الأنهر والسواقي الصغيرة في القرية.
وخلال السنوات الماضية، كانت اللقالق تهجر أعشاشها وتسافر نحو إيران نهاية نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام، إلا أنها -بسبب ارتفاع درجات الحرارة- باتت تهاجر منتصف أغسطس/آب بعد عام 2016.
رقم كبير
وفي إحصائية شبه رسمية، وصلت أعداد اللقالق في القرية المذكورة عام 2017 إلى نحو 510 لقالق من مختلف الأحجام والأعمار، لكنها بدأت تتناقص تدريجيا بعد عام 2016 بسبب ارتفاع درجات الحرارة وانقراض أشجار البلوط أيضا، يؤكد ملا عبد الله.
من ناحية أخرى، لطف سكان القرية مع اللقالق دفع هذه الطيور إلى تكوين نوع من الصداقة والود مع أهل القرية، حتى باتت تعشش على أسطح المنازل والمحال التجارية أحيانا، ولم تسجل أي حالة عنف ضدها خلال العقود الخمسة الأخيرة، باستثناء حالة واحدة يستذكرها ملا عبد الله بحسرة؛ إذ وقعت أمامه عندما قام أحد شباب القرية في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بإطلاق الرصاص من بندقيته على لقلق كان واقفا على شجرة على مسافة قريبة منه وأرداه قتيلا أمامه.
قصص حزينة وطريفة
يستذكر ملا عبد الله العديد من القصص المحزنة والطريفة مع اللقالق، لكن أشدها حزنا بالنسبة له تلك التي وقعت وبشكل متكرر خلال أعوام 2014 و2015 و2016 عندما دفعها ارتفاع دراجة الحرارة نهارا إلى الهجرة إلى مناطق أخرى والعودة ليلا إلى أعشاشها، وصادفه موت العديد منها على أعمدة خطوط الكهرباء من شدة سخونتها، ووقوعها على الأرض أمام عينه.
مثل القصص المحزنة، لا يزال ملا عبد الله يذكر واحدة من أكثر القصص طرافة، عندما وقع فرخ لقلق صغير من عشه خلف محله الخاص ببيع الدواجن عام 2016، ليربيه لأكثر من شهر بعد ذلك، وفي أحد الأيام شعر بمجيئه خلفه وبخطوات متثاقلة عند ذهابه إلى المسجد، ليعامله بلطف على بعد عدة أمتار ويمزح معه بإشارة اليد.
لكن -على غفلة منه- نزل شبان من سيارتهم وأخذوا اللقلق الصغير وفروا على عجالة، ولحقهم كأب يريد إنقاذ ابنه المخطوف، لكن كبر العمر لم يسعفه، واصفا ذلك بحالة الوفاء العميقة التي يتمتع بها الطائر.
ومع ذلك، يروي ملا عبد الله حالة غريبة جدا عن اللقالق لم يرها في الأنواع الأخرى من الطيور، وهي عدم تسامحها وقسوتها عند وقوع الخيانة، ويستذكر كيف أراد صديق له أن يختبر ذلك بوضعه بيضتين من بيوض الديك الرومي في عش إحدى إناث اللقالق الذي كان فيه 4 بيوض، لكن بعد عودة ذكرها ومعرفته بخيانة أنثاه، قام بضربها بقسوة على جسدها حتى أرداها قتيلة، ليتحول على إثر ذلك الصراع مع لقالق أخرى أشبه ما يكون بنزاع عشائري بين عشيرتين استمرت حتى صباح اليوم التالي، لتكون النتيجة وقوع العديد من القتلى والجرحى من الطرفين، حسب وصف ملا عبد الله.
مملكة اللقالق
من جانبه، يقول المصور الصحفي آري مصطفى إن اللقالق توجد في قضاء رانية منذ عدة عقود أكثر من المناطق الأخرى سواء كان ذلك على مستوى الإقليم أو العراق عموما، وهذا ما جعله يسمى محليا "مملكة اللقالق".
وأدى هذا الأمر إلى ازدياد أعداد السائحين والباحثين في المناطق المائية التي توجد فيها اللقالق في القضاء، حسب مصطفى الذي أكد -في حديثه للجزيرة نت- أن نهر رانية يكون عليه في أثناء اعتدال درجات الحرارة الآلاف من اللقالق التي تؤمن غذائها من الأسماك التي تطفو على سطح الماء بسبب ارتفاع درجات الحرارة، مما يجعلها صيدا سهلا لهذه الطيور.
ويطالب المصور الصحفي الجهات المعنية بإجراء دراسات وبحوث على طبيعة الأجواء والبيئة لقضاء رانية ومقارنتها مع المناطق الأخرى، لكشف ومعرفة الأسباب العلمية والعملية لاختيار طائر اللقلق هذا المكان بشكل رئيسي متكرر أكثر من المناطق الأخرى.