آخر الأخبار
تضامنا مع فلسطين ولبنان.. مصلو الجمعة في الكوفة يتظاهرون للتنديد بمجازر إسرائيل (صور) الذهب يتجه لتسجيل أسوأ أداء أسبوعي في أكثر من 3 سنوات لجنة برلمانية: العراق يستخدم علاقاته الدولية لدفع مخاطر الحرب عن أراضيه - عاجل تركيا.. زلزال بقوة 4.9 درجات يضرب ملاطية ويشعر به سكان عدة ولايات قيمة الواردات غير النفطية لمحافظتي السليمانية وحلبجة خلال أسبوع

كيف تسهم موازنات العراق في استشراء الفساد؟

اقتصاد | 5-06-2022, 16:40 |

+A -A

بغداد اليوم – بغداد

تعاقبت ثماني حكومات على إدارة العراق منذ عام 2003 بعد الاحتلال، أربع منها جاءت إبان وجود القوات الأميركية حتى خروجها أواخر 2011، وتوقيع اتفاقية صوفا للتعاون لإبقاء "شعرة معاوية"، كما يصفها السياسيون في بغداد بين الساسة المحليين والأميركيين، التي تعرضت لمحاولات القطع مراراً، بقصف سفارة واشنطن والقوات العسكرية ومقتل عشرات الجنود والضباط، لتبدأ مرحلة توصف بأنها فيدرالية توافقية ديمقراطية، توزعت خلالها موازنات البلاد على الأطراف التي أسقطت النظام السابق، وكتبت الدستور الدائم بسيل لا ينقطع من الانتقادات من أطراف شريكة ومعارضة، لا سيما من المكون السني وكثير من الشيعة، ورضا كردي صاغ الدستور على هواه ومصالحه.

 

موازنات مالية غير مسبوقة

الموازنات المالية السنوية، التي حظيت بوفرة، تضاعفت مرات عدة بسبب زيادة إنتاج النفط وارتفاع أسعاره، التي وصلت إلى 120 دولاراً للبرميل، ومكّنت الحكومات من إطلاق يد التعيينات الحكومية، التي وصلت إلى تضخم وتراكم غير مسبوقين بلغا ما يقرب من ستة ملايين موظف، ينتزعون ما يزيد على 60-70 في المئة من ميزانية البلاد، التي توصف بالتشغيلية، والتي أفرزت ظاهرة "الموظفين الفضائيين"، وهو مصطلح شاع عن التوظيف الوهمي لأشخاص مقربين من أحزاب السلطة، وهم مجرد تسميات لمعينين في الدولة ولا وجود لها في الواقع، وآخرين عاطلين عن العمل، مسجلين في قوائم الرواتب من دون أداء دور أو سقف في الإنتاجية، يصنفون عراقياً بالبطالة المقنعة، التي تنزع من الميزانيات أموالاً هائلة، وكأن التوظيف الحكومي بدوافع كسب الأصوات الانتخابية، مارسته كل الطوائف المتحاصصة على توزيع الأدوار بالسلطات الثلاث.

 

وهناك الآلاف ممن يصنفون بمتعددي الرواتب، جراء التشريعات الانتقالية، التي سادت بعد عام 2003، التي رجحت كفة شريحة معينة من الأتباع والموالين والمريدين للسلطة، مما أفرز ظاهرة التباين الشديد في الدخول المالية، التي أغنت البعض وأفقرت الأغلبية.

 

من المسؤول؟

قبيل نهاية كل عام، تقدم الحكومة العراقية موازنة الإنفاق السنوي، التي يناقشها مجلس الوزراء بإسهاب لتحديد أولويات الصرف على فعاليات الدولة، وتطالب الحكومة من مجلس النواب إقرارها والمصادقة عليها لكي تخرج من عنق الزجاجة لإقرارها.

 

الكاتب حسين حامد قال، "لو تسأل أغلب النواب: ما اختصاصات المجلس سيأتي الجواب (التشريع والرقابة)، لكن الجواب الصادم الذي لا يعرفه هؤلاء الأعضاء، أن اختصاصي مجلس النواب هما المالي والتشريعي، أما الدور الرقابي فهو اختصاص تبعي، لأن الموازنة اختصاص مطلق للسلطة التشريعية، أما دور الحكومة فهو إعداد بيانات الموازنة فقط".

 

لكن هذا الأمر لا يتم بالصورة التي ذكرها واقعاً، لأن الموازنة تجري بصورة معكوسة، حين عمدت الحكومات بالاستحواذ على قرار إعداد الموازنة وعرضها على المجلس لإقرارها، مما ولّد فُسحة هائلة للسلطة التنفيذية للسيطرة على المال العام، وتوجيهه وفق مصالحها وحاجاتها من دون الحاجة إلى سيطرة المشرع في نظام اعتمد الأسلوب البرلماني، وليس الرئاسي، وفقاً للدستور النافذ الذي أقر عام 2005.

 

تدخل السياسيين

مستشار رئيس الوزراء العراقي مظهر محمد صالح يفسر ظاهرة تدخل السياسيين وتحكمهم المتحيز في وضع الموازنة العامة وسرقة الدور من المتخصصين الاقتصاديين بقوله: "يميل غالبية السياسيين إلى الوظائف والأعمال التي تُدرّ عليهم الواردات العالية، وتؤدي إلى تحسين رفاهيتهم الشخصية، كما يقول (بوكانان) العالم الاقتصادي، على حساب الموازنة العامة بحكم سلطاتهم التشريعية، وهذا ما يؤدي بمرور الوقت إلى اتساع نطاق الموازنة العامة طالما هم بحاجة مستمرة إلى إعادة انتخابهم، بل يذهب أولئك السياسيون إلى توفير وظائف حكومية إلى مناصريهم، وتوسيع نطاق وتعدد الأشغال الحكومية لتوفير فرص عمل إليهم في محاولة لكسب أصواتهم الانتخابية خلال الدورات اللاحقة، والمحافظة على ثقلهم السياسي".

 

وقال صالح، "بهذا ينحاز النظام المالي الحكومي إلى مبدأ (الموازنة الكبيرة) في التخصيصات وتداول النشاطات، ما يضع الحكومات أمام مصاعب معقدة في اتخاذ القرارات المالية، ما يتطلب مزيداً من الخبراء للخوض في مشكلات المالية العامة المستعصية. وهكذا كما وسم (بوكانان) علم الاقتصاد الكنزي مسمياً إياه (بالمرض disease)، أو بالأحرى (المرض الكنزي)، الذي يؤدي إلى نهايات تتطلب بلا شك تقييد نطاق التصرفات اللا مسؤولة للسياسيين، وتقيدهم كي يتصرفوا بطريقة ذات مسؤولية مالية منضبطة)".

 

وأضاف أن "المدرسة الكنزية هي من جعلت السياسيين بعيدين عن مبدأ توازن الموازنة العامة، ومنغمسين في العجز المالي. كما ينصرف (بوكانان) بفكرته هذه في معاداة الأبعاد السياسية للمدرسة (ما بعد الكنزية)". ويرى صالح أن "الأجيال المقبلة في العراق ستتحمل عجز الموازنة، ما يتطلب دفعهم لمزيد من الضرائب وتحملهم العديد من الأعباء الضريبية على نحو لا تعوضها عوائد الفائدة الممنوحة عن السندات الحكومية، التي أقرضوا الحكومات بموجبها، وهو ما يطلق عليه تكافؤ ريكاردو. كما أرى ويرى (بوكانان) أن ترك الحكومات من دون قيود دستورية ستفرط في التصرفات المالية، وتصبح متعدية على المال العام، وتأتي في مقدمة تلك المطالب القيود الدستورية باعتماد مبدأ الموازنة المتوازنة balanced budget، التي على أساسها تستعيد المالية العامة صحتها ونقاوتها ونزاهتها".

 

ويؤكد مظهر أن "المشكلة في العراق تكمن أيضاً في البيانات الختامية، التي لم تصدر حتى الآن، وهي المصدر الحقيقي لمعلوماتنا عن مدى التمسك بالميزانية من عدمه".

 

عجز الموازنات عن تنفيذ أهدافها

عن هذه الفقرة في جدوى الميزانيات وإذا  ما تطابقت مع أهداف تخصيصها في الإنفاق الاستثماري، قال مستشار الرئاسة العراقية لـ"اندبندنت"، "للأسف، لم تستطع الموازنات الاستثمارية على مدار عقدين من تنفيذ أهدافها المادية والمالية بأكثر من 28 في المئة سنوياً، لأفضل القطاعات المنتجة وقطاعات البنية التحتية، باستثناء قطاع الاستخراج النفطي، الذي ارتبط بجوالات التراخيص وعقود الخدمة التي تسدد أثمانها بالنفط الخام مباشرة.

 

وبناءً على ما تقدم استحوذت الموازنات التشغيلية على حصة الموازنة الاستثمارية من خلال التوسع السنوي في الإنفاق التشغيلي، بهدف تسيير الوظائف الحكومية، وهي ذات طبيعة خدمية استهلاكية فحسب، وحلت "الموازنة التعويضية" لمصلحة التوسع بأعداد المشتغلين في الوظائف الرسمية، إذ بات الأجر الحكومي المرتفع نسبياً متاحاً أو مخصصاً في جانب منه لسد تكلفة النقص في خدمات البنية التحتية، التي كان يولدها الإنفاق استثماري، والذي لم يتحقق بشكل كافٍ ومخطط، ذلك بإتاحة الفرصة لموظفي الدولة أن يعوضوا من مرتباتهم ذلك النقص الحاصل في الخدمات الاجتماعية وعموم السلع العامة، كالمدارس والمستشفيات والنظافة والكهرباء والماء وغيرها.

 

الاستلاف وتراكماته

الأزمة الحالية في العراق تكمن في غياب السلطة الحكومية المخولة بتقديم الميزانية للبرلمان للمصادقة عليها، فالحكومة في حال تصريف الأعمال، أو تسيير الأمور اليومية، وهذا الوضع منذ الأول من ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فهي غير مخولة دستورياً بتقديم الموازنة السنوية، مما قيد الصرف والإنفاق الحكومي جراء الانسداد السياسي الحالي، فلا صلاحية للحكومة في تقديم موازنة، وليس لها الحق في أخذ السلف من الفائضات المالية، جراء ارتفاع العائدات النفطية، وبعد التعديل الدستوري لقانون الإدارة المالية.

 

ويعلق المستشار الاقتصادي لرئيس الوزراء على ذلك بأنه "لا يمكن للحكومة الاستلاف أو أخذ سلف خارج قيد تاريخ الأول من ديسمبر، ولو كان ذلك ممكناً لحلت المشكلة أساساً من دون اللجوء إلى القانون الطارئ أو حتى وجود موازنة بالأساس، فالسلف المسحوبة من غير مستندات، التي تتم تسويتها لاحقاً، تقتضي وجود قانون موازنة، فهذه تفسيرات خاطئة أخذت من إحدى فقرات قانون الإدارة المالية رقم 6 لسنة 2019، المعدل في شأن التعاطي مع السلف، وإذا  كانت الأمور بهذه السهولة، التي يتصورها البعض، لماذا إذن الذهاب إلى قانون الطوارئ، بل من الممكن إجراء تخصيصات اعتباطية ودفعها بشيك سلف والتصرف المباشر، بالاحتياطات الفائضة المتراكمة عند الحكومة حالياً بشكل سلف".

 

سوء في المستندات

يؤكد صالح حقيقة أن هناك سلفاً متراكمة لم تتم تسويتها من ميزانيات سابقة تؤشر للعجز الحكومي عن تصفية متعلقات مالية ضخمة. وقال إن "السلف المتراكمة التي لم تتم تسويتها من موازنات سابقة بلغت قرابة 140 تريليون دينار عراقي (نحو 96 مليار دولار)، 70 في المئة منها مسحوبة من وحدات الصرف ولا تتوفر فيها مستندات أصولية، وهذه واحدة من أسباب تعثر الحسابات الختامية للدولة منذ عام 2021 بسبب سحب السلف بموجب قانون الإدارة المالية السابق قبل تعديله في عام 2019".

 

بعد آخر للأزمة

يرى الوزير السابق للنفط جبار اللعيبي الذي التقته "اندبندنت عربية"، أن المشكلة في الموازنات المالية العراقية تكمن في بعد آخر، وهو دراسة جدوى وعائدات التخصيصات التي وضعت للوزارات والدوائر وأقرت للقطاعات الحكومية، وأين أنفقت وكيف؟ لا سيما في النواحي الاستثمارية وليس التشغيلية المتمثلة بالرواتب، وما النتائج التي حققتها، بعد نهاية العام، أي إن مانح التخصيصات لا يلاحق جدوى تنفيذها وماذا حققت من أهداف تخصيصها.

 

الحقيقة المرة التي يدركها المتخصصون الاقتصاديون أن العراق يحتاج إلى عقود للتحقق من منافذ صرف ميزانياته وملاحقة الفاسدين من السياسيين وأتباعهم الذين ضيعوا فرص النمو في ظل الطفرة المالية النفطية والميزانيات المليارية.