بغداد اليوم - بغداد
نشر موقع "الميادين" الخميس، تقريرا مطولاً عن 4 جنود من البحرية السوفياتية، واجهوا الموت بعدما تقاذفتهم الأمواج من دون أي مؤونة وسط المحيط الهادئ، خلال شهر آذار 1960 ليضطروا إلى أكل جلود الأحزمة وحتى الأحذية.
وذكر التقرير، انه في ذروة الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وتحت وطأة سباق التسلح النووي المحموم واختراق الفضاء، وفي السابع من آذار 1960، أعلنت وكالات الأنباء الأميركية خبراً صادماً للسوفيات، مفاده أنّ العواصف والتيارات في وسط المحيط الهادئ، حملت معها بارجة سوفياتيّة وعلى متنها أربعة جنود على شفير الموت جوعاً وعطشاً.
بعدها بأيام قليلة، عرف العالم كلّه عن بطولة الجنود، الذين لنحو شهرين، تقاذفتهم الأمواج من دون أي مؤونة. كيف وصلت البارجة "ت - 34 ذاتية الدفع" إلى الأميركيين؟ وكيف قضى أربعة شبان 51 يوماً بين كانون الثاني وشباط 1960 على متنها من دون طعام أو وقود أو ماء؟ ولماذا أنقذهم الأميركيون من الموت؟ وكيف عادوا أبطالاً إلى موسكو ولم يتّهموا بالخيانة العظمى؟ ولماذا اختفت قصّتهم بسرعة؟
في 17 كانون الثاني 1960، نحو الساعة التاسعة صباحاً بالتوقيت المحلي في خليج جزيرة إيتوروب الروسية القريبة من اليابان، حملت الرياح العاتية معها البارجة السوفياتية ذاتية الدفع ت – 36. وكان على متن البارجة غير المعدّة للإبحار أربعة جنود سوفيات من وحدة البناء العسكري، وهم العريف أسعد زيغانتشين (21 عاماً)، والجنود فيليب بابلافسكي (20 عاماً)، أناتولي كروتشكوفسكي (21 عاماً)، وإيفان فيدوتوف (20 عاماً). صارع الجنود الإعصار لنحو عشر ساعات محاولين العودة نحو الشاطئ، ونحو الساعة السابعة مساء كان الوقود قد نفد، إذ لم تسفر المحاولات الثلاث في الوصول إلى الشاطئ عن نتيجة، بل الأسوأ من ذلك أن إحدى المحاولات أسفرت عن تضرر البارجة.
كان ارتفاع الأمواج قد وصل إلى 15 متراً، فعطلت محطة البث اللاسلكي في البارجة وحملتها نحو المحيط. كان صراع البارجة مع الأمواج معروفاً لدى القيادة على الشاطئ إلى أن توقف البث اللاسلكي. وبعدما هدأت الرياح نظمت حملة تفتيش وعثر على لوحة خزان مياه البارجة، فسرى اعتقاد أنّ البارجة غرقت، وما لبثت أعمال البحث أن توقفت في تلك المنطقة المحظورة جزئيّاً، خوفاً من إطلاق صواريخ أميركيّة عليها. في تلك الأثناء كانت التيارات المائية قد حملت البارجة إلى جنوب شرق جزر الكيريل إلى وسط المحيط الهادئ بسرعة وصلت إلى 78 ميلاً في اليوم.
صراع مع الجوع
في اليوم التالي أحصى الجنود الأربعة ما لديهم من غذاء: نحو 16 ملعقة من الحنطة، رغيف من الخبز، علبة لحم، وبعض حبات البطاطس التي أشبعتها العاصفة بالديزل (المازوت) في غرفة المحركات. كانت المياه العذبة موجودة في نظام التبريد. إلا أنّ هذه المؤونة سرعان ما نفدت، فجمع الجنود مياه الأمطار، والثلوج المتراكمة على السطح، وغدوا يأكلون جلود الأحزمة والأحذية العسكرية، الصابون، معجون الأسنان...، حتى أنّهم أكلوا جلود آلة الأوكارديو التي كان يعزف عليها بابلافسكي، وفق مذكرات زيغانتشين، "قطعنا جلد الحزام قطعاً صغيرة، وطبخنا منه حساء"، كذلك فعلوا مع حزام جهاز اللاسلكي، ثم عثروا على أزواج من الأحذية، لكنّ التهامها ليس سهلاً، قاموا بتقطيعها وغليها ثم ألقوها في الموقد، حيث تفحمت ثم تناولوها. في المحصّلة، فقد كلٌ منهم نحو ثلاثين كيلوغراماً من وزنه.
في 7 آذار كانت التيارات المائية سحبت البارجة نحو 1600 كيلومتراً، حين لاحظ فريق مروحية أميركيّة تابعة لحاملة الطائرات "كيرزرج" البارجة، قرب جزيرة ويك (آتول، بين هاواي وغويام). كان الجنود الأربعة مستلقين على متنها بين الحياة والموت. وصلتهم عبر مكبّرات الصوت باللغة الروسية "المساعدة لكم.. المساعدة لكم". اتفق أسعد زيغانشين مع رفاقه أنّ عليهم ألا يستسلموا للأعداء، واستجمع قواه وقال للأميركيين إنه ورفاقه لا يحتاجون إلا إلى الوقود والغذاء، وهم بأنفسهم سيعودون إلى بلادهم. لكنّ ذلك لم يكن منطقياً، فالجنود كانوا على شفير الموت فعلاً. دهش الأميركيون من أنّ الجنود السوفيات لم يقتلوا بعضهم البعض بل حافظوا على انضباطهم. وعندما عرضوا عليهم الطعام كذلك لم ينقضّوا عليه، بل نقّلوا الطبق بهدوء فيما بينهم، وقد أنقذهم ذلك أيضاً من الموت، إذ كان من الممكن أن يتحول يوم إنقاذهم إلى التاريخ الذي كان ليحفر على ألواح قبورهم لو كانوا التهموا الطعام بسرعة بعد الجوع الطويل.
نظم مؤتمر صحافي للجنود الأربعة على متن حاملة الطائرات، ولم يسمح للصحافيين السوفيات بحضوره، أعلن فيه زيغانشين أنّه لا يخشى العودة إلى الوطن. سلّمتهم حاملة الطائرات إلى سان فرانسيسكو، حيث كانوا حديث الصحافة والتلفزة، وعقد لهم مؤتمر صحافي أجابوا الجنود على أسئلة الصحافيين وهم بملابس مدنية. تمحورت أسئلة الصحافيين حول كيف أنّهم لم يقتلوا بعضهم البعض، ولم يرموا أحداً في المياه، كيف أنّهم لم يأكل أحدهم الآخر. وكان جواب هادئ من أناتولي كروتشكوفسكي: نحن مواطنون سوفيات، والإنسان لدينا رفيق أو صديق.
تسلّم زيغانشين من محافظ سان فرانسيسكو مفتاحاً تذكارياً للمدينة، إلا أنّه رفض عرضاً بتقديم الحكومة الأميركية له ولرفاقه اللجوء السياسي وذلك ما كانت تنتظره موسكو، فالتقى القنصل السوفياتي العام كارداشوف بالجنود، حيث التقطت له معهم صورة تذكارية رسمية له عمّمت في موسكو وباقي المدن السوفياتية.
بعد جولات لهم في سان فرانسيسكو، أرسل الجنود إلى الممثلية السوفياتية في نيويورك حيث ظهروا بالزي العسكري السوفياتي، ثم أبحروا إلى أوروبا على متن السفينة "كورين ماري"، وبعدها نقلوا إلى موسكو بالطائرة حيث استقبلوا استقبال الأبطال.
كان يمكن ألا يُنقذوا
كان يمكن أن يتخلص الأميركيون من البارجة ببساطة عند اقترابها من جزيرة ويك عبر تدميرها بصاروخ، وربما لعبت إمكانية الاستيلاء على قطعة حربية سوفياتية دوراً في إرسال مروحيّة إليها، ثم اقتراب حاملة الطائرات "كيرزرج" إلى محاذاتها. وهكذا حصل الأميركيون على البارجة، فما الذي سيفعلونه بالجنود؟ ترجّح المصادر أنّ الحس الإنساني لعب دوراً في إنقاذهم، فهم ما إن تناولوا قليلاً من الطعام حتى تهاووا وفقدوا وعيهم، ولم يستيقظ زيغانشين إلا بعد إنقاذه بثلاثة أيام. يقول زيغانشين إنّه، وهو على متن حاملة الطائرات الأميركية، كان يشعر بالرعب أكثر مما كان عليه أثناء صراعه مع الموت، وقد لازمه هذا الشعور، ارتعب من فكرة أنّه غدا "عدوّ الشعب".
لم يقتلهم قادة البحرية الأميركية ولم يتركوهم لمواجهة الموت وحدهم. ولو فعلوا ذلك لكان "أمراً مفهوماً" في عرف الحرب الباردة، فهم أعداء، على الرغم من بعدنا أربعة عقود عن الحادثة. وقد كان مكسباً كبيراً للسياسة الأميركية لو أعلن الجنود عن قبولهم اللجوء السياسي، ولكانوا تحوّلوا حينذاك إلى أهداف مشروعة للمخابرات السوفياتية في ذروة الحرب الجاسوسية والتصفيات، إلا أنّ ذلك لم يحصل.
أعلن الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون أنّ الدفء في العلاقة بين القطبين قد حصل على نبض جديد، وبينما كان الشبان الأربعة يملأون الصحف والشاشات الأميركية، لم تنبس الصحافة السوفياتية ببنت شفة.
تمهّلت الإدارة السوفياتيّة في إظهار أي موقف حتى تأكدت من النيّات: هل هم خونة، أم "مواطنون أوفياء"؟ فبرقيّة السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفياتي نيكيتا خريشوف إليهم، والتي تتضمن صكّ البراءة، صدرت في 16 آذار، وفيها: الرفاق الأعزاء، نفخر بكم وبعملكم المجيد، وبقوة روح وشجاعة المواطنين السوفيات وثباتهم في مواجهة المحن. وتعد بطولتكم وصلابتكم وقدرتكم على التحمل أمثلة على أداء الواجب العسكري الذي لا تشوبه شائبة، لقد ضاعفتم مجد بلادنا بإنجازكم وشجاعتكم التي لا تضاهى، والشعب السوفياتي يفخر حقاً بأبنائه البواسل الأوفياء. أتمنى لكم يا مواطنيّ الأعزاء الصحة الطيبة والعودة السريعة إلى ربوع الوطن".
العودة
في موسكو على أرض المطار وخارجه، انتظر عشرات الآلاف وصول الجنود الأربعة، الذين خرجوا من الطائرة بزيهم العسكري، كما انتظرتهم أسئلة الصحافيين السوفيات، والتي كان أكثرها ثقلاً لدى زيغانشين "لماذا تركتَ البارجة السوفياتيّة وانتقلت على حاملة الطائرات العدوّة؟"، إلا أن القيادة كانت قد حسمت أمرها واعتبرت الشبان الأربعة أبطالاً، فانتظرتهم الأوسمة والاحتفالات الرسمية والشعبية والتنويهات، بالإضافة إلى جولات قاموا بها على المعامل والمصانع والتعاونيات الزراعيّة، بالتزامن مع تأليف أغنيات عن الموضوع، أهمها أغنية الفنان الشهير فلاديمير فيسوتسكي "49 يوماً".
(وذلك لأنّ الخطأ في احتساب المدة التي قضاها الشبان الأربعة على متن البارجة تبنّاه نيكيتا خريشوف في أحد خطاباته، ولم يصحّحه)، وأغنية "عن الجنود الأربعة" من كلمات سيرغي غريبينكوف ونيقولاي بورونرافوف، ألحان ألكسندرا باخماتوفا، والفيلم الوثائقي الذي أخرجه غينريخ غاباي بعنوان "49 يوماً" وتضمّن الرواية السوفياتية الرسمية للأحداث.
إلا أنّ الأغنية الأكثر شهرة وانتشاراً بقيت مجهولة المؤلف، وقد استُلهم لحنها من أغنية ماكس فريدمان وجايمس ماير الأميركيّة الشهيرة "روك طوال الوقت" (1952)، والتي غدت أغنية الشباب في موسكو في الستينيات بعنوان "زيغانشين روك، زيغانشين بوغي"، ولها نماذج مختلفة. ومما تقوله الأغنية: "كيف في المحيط الهادئ/ غرقت بارجة بالشبان/ وهم لم يفقدوا بأسهم/ كانوا كالصخرة فوق البارجة... زيغانشين التهم حذاءً آخر. بينما كان يغني الروك/ كان فيدوتوف يلتهم الأوكارديون/ وبينما بابلوفسكي كان يودّع أسنانه/ كان زيغانشين يلتهم صندله".
واستمرت الصحافة في التفاعل مع بطولة الجنود الأربعة، إلا أنّ ذلك لم يستمر طويلاً، ففي 12 نيسان 1961، فاجأ الاتحاد السوفياتي العالم بقصة جديدة في سياق التفوق على الأميركيين، وهي أنّه استطاع إرسال أول إنسان إلى الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض على متن مركبة الفضاء "فوستوك – 1"، وهو يوري ألكسييفيتش غاغارين، الذي سيستمر ذكره طويلاً.