كتب صلاح حسن بابان
بات إقليم كردستان العراق أمام خارطة سياسية أكثر تعقيداً وضبابية، تلقي ظلالاً ثقيلة على عملية تشكيل حكومته العاشرة بعد التغييرات السياسية والأمنية التي شهدتها سوريا نهاية العام الماضي بسقوط نظام الأسد، وسيطرة جماعات المعارضة وبمقدمتها “هيئة تحرير الشام” المدرجة على لوائح الإرهاب العالمية والدوَلية. بالإضافة إلى نتائج الانتخابات البرلمانية الكردية التي جرت في 20 تشرين الأول 2024، وأفرزت ثلاث قوائم رئيسية حازت على نسبة 82 بالمئة من عدد مقاعد البرلمان (الحزب الديمقراطي الكردستاني، الاتحاد الوطني الكردستاني، حراك الجيل الجديد)، والتي جعلت الجواب واضحاً وصريحاً جداً: استحالة تشكيل حكومة جديدة تكون فيها المعارضة قوية كما حصل في عام 2013، وعدم إمكانية تشكيل أيٍّ من الحزبين الحاكمَيْن (الاتحاد الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني) الحكومة بمعزل عن الآخر، وإكمال نصاب انتخاب رئاسة البرلمان، ورئيس للإقليم، ثم تكليف مرشح لتشكيل الحكومة، وذلك لعدم استطاعة أيّ من الحزبين الكبيرين أن يحقق نتيجة (النصف زائد واحد) وحده، كما كان الحظُ حليفاً للديمقراطي الكردستاني في مناسبات سابقة، ويعني ذلك واقعياً أن الطريق لن يكون مُريحاً أبداً أمام “البارتي”، ولن يكون بمقدوره تشكيل الحكومة الجديدة رغم امتلاكه أكثر عدد من المقاعد. وبالتالي، سيكون إقليم كردستان أمام تحالفات سياسية معقدة، ومن الممكن اعتماد فلسفة جديدة لإدارته وتوزيع المناصب خارج دائرة الحزبين الكبيرين بهدف ألّا تكون الحكومة الجديدة عاجزة كما حصل مع سابقتها، التي لم تُسجل في سجلاتها أيّ أنشطة سياسية تُحسب لها، ولم يحقق برلمانها نجاحات كالتشريعات الضرورية واستجواب المسؤولين أو استضافتهم داخل البرلمان.
ولادة قيصرية بالأرقام
أجريت انتخابات إقليم كردستان العراق الأخيرة بعد تأجيلها لعامين عن موعدها الأصلي، وكشفت حملاتها الانتخابية عمق الخلافات الكردية الكردية، سيّما بين الحزبين الحاكمين، فباتت علامة واضحة لحقيقة الانقسام الداخلي، حيث وصلت إلى رأس الهرم، إذ شنّ رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني بافل طالباني هجوماً عنيفاً ضدّ قيادات الحزب الديمقراطي و”اتهمها” بالفشل في إدارة الشؤون العامة في كردستان، محملاً الحزب مسؤولية تردي الأوضاع في الإقليم. ومنها، بالدرجة الأساس، ما يتعلق بالجوانب السياسية والأمنية والاقتصادية، لتردّ عليه قيادات في الحزب الديمقراطي عبر “اتهامه” بعدم المسؤولية، وبتهديد استقرار الإقليم وأمنه ودفعه إلى حافة الاحتراب الداخلي، ولم يكن كلُ ذلك خالياً من البُعد الإقليمي والدولي الذي بدا واضحاً جداً بتأثيره على نتائج الانتخابات وتوزيع المقاعد البرلمانية بين الأحزاب الكردية.
حصل الحزب الديمقراطي الكردستاني على 809,197 صوتاً في انتخابات 2024 مقارنة بحصوله على 688,070 صوتاً في انتخابات 2018، بزيادة تقدر بـ121,000 صوت، بينما تراجعت مقاعده من 45 إلى 39 مقعداً، (العلاقة عكسية بين زيادة الأصوات ونقصان المقاعد)، وذلك بسبب تقليل عدد مقاعد الكوتا إلى خمسة مقاعد بعد أن كانت 11 مقعداً، أغلبها متحالفة وقريبة من الحزب الديمقراطي، في حين حصل مؤخراً على ثلاثة مقاعد من أصل خمسة مقاعد في عموم برلمان الإقليم، ليصبح العدد الكلي لمقاعد “البارتي” 42 مقعداً مع حلفائه.
كان الحزب الديمقراطي يمتلك (النصف زائد واحد) في الانتخابات السابقة، لكنه فقدها في الانتخابات الأخيرة؛ ربما كنتيجة غير مباشرة لقرار المحكمة الاتحادية العليا القاضي بتقليص عدد مقاعد برلمان الاقليم إلى مئة مقعد بعد أن كان العدد 111 مقعداً طيلة الدورات السابقة، والذي تسبب بانسحاب البارتي قبل الانتخابات ومقاطعته لها.
جاء الاتحاد الوطني الكردستاني ثانياً بحصوله على 408,414 صوتاً في انتخابات 2024، مقارنة بحصوله على 319,912 صوتاً في انتخابات 2018، بزيادة تقدر بـ 89,000 صوت، بينما قفزت مقاعده من 21 مقعداً في الدورة السابقة إلى 23 مقعداً في الدورة الحالية (العلاقة هنا طردية بين زيادة الأصوات والمقاعد) أي بخلاف معادلة الحزب الديمقراطي الذي تراجعت مقاعده رغم زيادة عدد أصواته، كما حصل على مقعدَيْن من أصل خمسة مقاعد للكوتا في عموم برلمان الإقليم من المتحالفين معه ليصبح العدد الكلي 25 مقعداً.
بينما فرض حراك الجيل الجديد نفسه ثالثاً بعد الحزبين الكبيرين، وفاجأ الجميع من حيث عدد المقاعد والأصوات، بحصوله على 290,991 صوتاً في انتخابات 2024 مقارنة بحصوله على 127,115 صوتاً في انتخابات 2018، مُضاعفاً أصواته ومقاعده بنسبة مئة بالمئة ليضيف 136,000 صوتاً، أمّنت له 15 مقعداً بعدما كان يمتلك ثمانية مقاعد في الدورة السابقة، ما يؤهله للظفر بمنصب رئيس برلمان إقليم كردستان العراق. ويؤمّن له حضوراً مناسباً في حكومة الإقليم الائتلافية إذا ما قرر المشاركة مع باقي الأحزاب الكردية الفائزة.
كما حصل الاتحاد الإسلامي (المقرّب من تركيا) منفرداً على 116,981 صوتاً في انتخابات 2024، مقارنة بحصوله على 67,712 صوتاً في انتخابات 2018 رغم تحالفه سابقاً مع الحركة الإسلامية في تحالف من أجل الإصلاح، وبفارق لافت للنظر بلغ 49,000 صوت، وزادت مقاعده من خمسة إلى سبعة مقاعد، رغم تقليص عدد مقاعد البرلمان (العلاقة طردية بين زيادة الأصوات والمقاعد)، كما أعلن مقاطعته وعدم مشاركته في الحكومة الكردية الجديدة، واختار مسار المعارضة.
وحصلت جماعة العدل الإسلامية على 64,710 صوت في الانتخابات الأخيرة، بينما حصلت على 109,494 صوت في انتخابات 2018، وبتراجع حاد في عدد الأصوات بلغ 45,000 صوتاً، كما تقلصت مقاعدها من سبعة مقاعد إلى ثلاثة مقاعد فقط.
في المقابل تلقى حزب التغيير (كوران، أكبر وأقوى أحزاب المعارضة سابقاً) خسارةً كبيرة، إذ حصل على 11,621 صوتاً ومقعدٍ واحد في الانتخابات الأخيرة، مقارنة بحصوله على 186,903 أصوات و12 مقعداً في انتخابات عام 2018، مع ملاحظة أن “قائمة الموقف” بقيادة النائب علي حمه صالح، والتي انشقت عن حزب التغيير لاحقاً، استطاعت أن تحصل على 55,775 صوتاً وبواقع أربعة مقاعد؛ أي ما حصل عليه جمهور التغيير مجتمعاً (كوران والموقف)، بلغ 67,000 صوت بواقع خمسة مقاعد فقط في الانتخابات الأخيرة، وبخسارة كبيرة تقدر ب119,000 صوتاً وسبعة مقاعد، وقد حصلت قائمة جبهة الشعب المنشقة عن الاتحاد الوطني على 33,365 صوتاً ومقعدين فقط.
مخارج قديمة
وبالعودة إلى سيناريوهات تشكيل الحكومة الكردية الجديدة، حيث فرضت التطورات السياسية الإقليمية والدولية، سواء ما يتعلق بسقوط نظام الأسد وزيادة التمدد التركي، أو تسلّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السلطة، توازناً داخلياً وخارجياً على اللاعبين المؤثرين في الساحة الكردية. فمن المرجح أن تدفع تلك المتغيرات قيادة كل من “البارتي واليكتي” (يمتلكان أكثر من 60 مقعداً) إلى سيناريو ليس جديداً لحسم اتفاقهما حول تقاسم السلطة في بغداد وإقليم كردستان بسلّة واحدة (رئاسة الإقليم مقابل رئاسة الجمهورية)، وهو سياق تاريخي ومتكرر بينهما على مدار العقدين الماضيين. بالإضافة إلى عدم تمكن أي طرف منهما من الحصول على الأغلبية المطلقة (النصف زائد واحد)، فضلاً عن امتلاك كل منهما مناطق نفوذ خاصة بهما أمنياً وسياسياً ومخابراتياً (الباراتي يسيطر على مناطق أربيل ودهوك، واليكتي يسيطر على مناطق السليمانية وحلبجة). وأيضا،ً عدم استعداد أيٍ منهما للتنازل عن المناصب والانضمام إلى المعارضة، يقابل ذلك حصول الأحزاب المعارضة على عدد قليل من المقاعد (لا تصل إلى النصف زائد واحد) ولا تؤهلها أبداً لتشكيل الحكومة وحدها، فضلاً عن التشتت الواضح بينها وعدم اتفاقها على رؤية وبرامج موحدة لإدارة الحكم في كردستان.
وتُحتم تلك المعطيات كلها وجود الحزبين الكبيرين في الحكومة الجديدة سويةً والتي ستكون كما كانت سابقاتها تشاركية وائتلافية، وهذا الأمر يدفعهما إلى التنازل عن بعض من مطالبهما وشروطهما من خلال توزيع المناصب سواء في أربيل أو بغداد.
وسط كل تلك المتغيرات، لم يغب الفاعل الدولي، أو الإقليمي عن أسباب تأجيل تشكيل الحكومة الكردية الجديدة أو المماطلة في تشكيلها حتى اليوم رغم مرور نحو خمسة أشهر على اجراء الانتخابات، ورغم أن مباحثات تشكيلها قطعت أشواطاً كبيرة ومهمة بين الحزبين الكبيرين.
فسقوط الأسد زاد من نفوذ تركيا في المنطقة، مقابل تراجع النفوذ الإيراني، في وقت يرتبط كل من الحزبين الكبيرين بمصالح سياسية وأمنية واقتصادية مع أنقرة وطهران على حدٍ سواء.
ظلال إقليمية ودولية
صبّت التغييرات الإقليمية السريعة في المنطقة في مصلحة تركيا أكثر من غيرها، فبالنسبة لها يُعدّ كردستان العراق بوابة سياسية وأمنية واقتصادية فاعلة ومهمة ومؤثرة استراتيجياً في المعادلات الإقليمية، لذلك تحرّكت أنقرة سريعاً لعقد سلسلة من الزيارات والاجتماعات مع مسؤولين وشخصيات سياسية كردية، سواء على أراضيها أو من خلال الزيارة التي أجراها وزير خارجيتها إلى العراق يوم 26 كانون الثاني الماضي، وهذا ما يعني، من حيث المبدأ، أن القرار بشأن تشكيل الحكومة الكردية الجديدة لم يعد محلياً، حيث تسعى تركيا إلى احتكار النفوذ في كردستان العراق بعد أن عززت وجودها في سوريا، فأنقرة سبقت الدول الأخرى مثل إيران وأمريكا لبسط نفوذها من خلال دمج أحزاب جديدة، مثل حزب شاسوار عبد الواحد (الجيل الجديد)، وأحزاب إسلامية أخرى تمتلك نفوذاً عليها، ضمن خططها. وتأتي التحركات التركية كلها سواء على أرض كردستان خصوصاً، أو العراق عموماً في إطار صراع إقليمي دولي تخوضه مقابل إيران، التي تدعم حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي يتمتع بعلاقات ممتازة مع الأحزاب الشيعية في بغداد وتتهمه أنقرة دائماً بأنه يدعم الجماعات الكردية المعارضة لها مثل حزب العمال الكردستاني والأحزاب الكردية الأخرى مثل قوات سوريا الديمقراطية في سوريا.
تريد تركيا، ومن خلال تحركاتها السريعة، وتحديداً بعد إعلان نتائج انتخابات برلمان الإقليم وتحقيق الحزب الديمقراطي الكردستاني المرتبة الأولى بعدد المقاعد، والذي تربطه علاقات استراتيجية وسياسية واقتصادية وأمنية مع أنقرة، ولا سيما فيما يتعلق بمحاربة حزب العمال الكردستاني، أن تضع أمريكا وإيران أمام أمر الواقع بمعادلات سياسية تشهدها المنطقة بالتزامن مع التطورات في المشهد السوري التي لم تنتهِ بالإطاحة بنظام الأسد فحسب، وإنما بظهور نفوذ تركي واضح من خلال دعم رئيس الإدارة المؤقتة الجديدة فيها، والمطلوب دولياً بتهم الإرهاب أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) سابقاً، من خلال طرح أوراق سياسية جديدة في المنطقة عبر أدواتها المحلية لملء الفراغات التي سببها تراجع النفوذ الإيراني. وبالتالي تشكيل حكومة جديدة في كردستان العراق يرأسها الحزب الديمقراطي الكردستاني؛ يعني أن أنقرة ستلعب في ساحة سياسية مريحة بالنسبة لها ولو على الأقل خلال السنوات الأربع المقبلة.
يوماً بعد آخر، تصعّد تركيا من حدة عملياتها العسكرية وتوغّلها داخل إقليم كردستان العراق، حتى بات مشهد خلوّ قرى بأكملها من سكانها أمراً طبيعياً في ظل صمت حكومتي أربيل وحتى بغداد.
وتواصل القوات التركية، منذ منتصف حزيران عام 2021، سلسلة من العمليات العسكرية الجوية والبرية في الشمال العراقي، ضمن نطاق نينوى وإقليم كردستان العراق، تتركز في سنجار، وقنديل، وسيدكان، وسوران، والزاب، وزاخو. وتضمنت العمليات الأخيرة قصفاً جوياً واغتيالات مستمرة تطال قيادات بارزة في حزب العمال الكردستاني، مع وصول التوسع التركي إلى “امتلاك نحو 40 قاعدة عسكرية غير قانونية داخل الأراضي العراقية، وعشرات المواقع دون الحصول على أيّ موافقة من الحكومة المركزية، بالإضافة إلى تمركزها في محافظتي دهوك وأربيل، مع وجود أقضية ونواحٍ كاملة تحت سيطرتها، بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي يشكل تهديداً خطيراً لأمن البلد وسيادته واستقراره وانتهاكاً صريحاً لجميع المواثيق والأعراف الدولية ومبادئ حسن الجوار”.
ساهمت التغييرات السريعة في سوريا بشكل كبير في زيادة التمدد التركي في المنطقة، وربما قد يكون ذلك بدعم من بعض الدول الخليجية مثل قطر والسعودية والإمارات وبضوء أمريكي “أخضر” بالضدّ من التمدد الإيراني، الذي هيمن على المربع السوري اللبناني العراقي اليمني خلال العقدين الماضيين على أقل تقدير. فقد شهد الإقليم الكردي سلسلة من الاجتماعات والمفاوضات الداخلية والخارجية للإسراع في تشكيل حكومة الكابينة العاشرة، حيث زار رئيس الحكومة الحالية- المنتهية ولايته مسرور بارزاني، أنقرةَ والتقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته هاكان فيدان بعد سقوط الأسد، بالتزامن مع زيارة غريبة أثارت الكثير من علامات الاستفهام أجراها رئيس حراك الجيل الجديد الكردي “المعارض” شاسوار عبد الواحد إلى الدولة ذاتها، واجتماعه في أنقرة مع نائب وزير الخارجية التركي نوح يلماز، والذي فتح التكهنات أمام سيناريوهات جديدة لتشكيل الحكومة الكردية الجديدة، ومواجهة الأذرع الإيرانية في الوقت نفسه.
المعروف عن شاسوار عبد الواحد أنه رجل أعمال في مدينة السليمانية، وأسس حزباً سياسياً معارضاً بعد رحيل المنسق العام الأسبق لحركة التغيير نوشيروان مصطفى عام 2017 والذي كان زعيم أكبر حزب كردي معارض ظهر في الإقليم بعد تمتعه بالحكم الذاتي في عام 1991. وفتح رحيل مصطفى باباً واسعاً ومريحاً أمام عبد الواحد ليدخل معترك “السياسة المعارضة للحزبين الكبيرين” وليكون البديل السياسي عنهما في كردستان، لكن ظهور شاسوار اختلف كثيراً عن نوشيروان كونه يواجه باستمرار اتهامات تصفه بـ”ظل” الأحزاب الحاكمة، من حيث أنه يظهر معارضاً لهم باستمرار في ماكناته الإعلامية دون أن يصطدم بهما حتى الآن.
ويمتلك شاسوار العشرات من المشاريع التجارية، ويُتّهم باختلاس مليارات الدنانير من أموال مواطنين اشتركوا في أحد مشاريعه التجارية في مدينة السليمانية ولم يعد إليهم بحصصهم من الأرباح، دون أن يتعرّض إلى أية مساءلة قانونية حتى اليوم. بالإضافة إلى امتناعه عن تسديد عشرات الملايين من الضرائب الحكومية المترتبة عليه، مثل أموال جباية الكهرباء والماء وغيرهما، ما يعني أنه يمتلك غطاءً سياسياً مُبطناً حسب ما تواظب وسائل إعلام كردية من خلال نواب وسياسيين أبرزهم النائب علي حمه صالح، على الإشارة إليه.
لعبة كراسي
لم يكن اعتباطياً أو هامشياً استقبال أنقرة لرئيس حراك الجيل الجديد شاسوار عبد الواحد -الذي تُعدّ محافظة السليمانية الخاضعة لسيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني أوسع وأكبر مناطق نفوذه ومقرّاً لنشاطاته الإعلامية- فزيارته واستقباله في هذا التوقيت تشي باحتمالية أن يُستخدم، من قبل أنقرة، كورقة ضغط ضد غريمه التقليدي؛ الاتحاد الوطني الكردستاني المحسوب على جبهة طهران و”المتهم” من تركيا بتقديم الدعم للأحزاب والجبهات المقربة أو التابعة لحزب العمال الكردستاني. يأتي هذا كله في إطار الاستثمار التركي في الخواصر الهشّة للنفوذ الإيراني، وفي الإقليم الكردي العراقي تحديداً، ما يعني أن الاستثمار في عبد الواحد وجيله الجديد سيكون بمثابة ضربة “خلف خطوط العدو” ستترك أثرها في مشهد تشكيل حكومة الإقليم بما في مصلحة أصدقاء أنقرة، بلغة أخرى: قد تجبر الاتحاد الوطني على تقديم بعض التنازلات لصالح الديمقراطي الكردستاني للخروج من زاويته.
وبالعودة إلى الوراء قليلاً، وتحديداً إلى مرحلة ما قبل سقوط الأسد، كان الاتحاد الوطني الكردستاني يتحدث كثيراً عن نيته استلام إحدى الرئاستين في كردستان، إما رئاسة الإقليم، أو الحكومة. رافضاً بشكل قاطع طريقة إدارة الحكم السابقة من قبل غريمه التقليدي الديمقراطي الكردستاني، ومتّهماً إياه بفرض حصار على السليمانية، بينما يتّهم الديمقراطيُ الاتحادَ بالاستيلاء على إيرادات المحافظة وعدم إعادتها إلى الخزينة العامة. ولكن يبدو أن الواقع تغير وسط أنباء عن شبه اتفاق بين الحزبين الكرديين الكبيرين حول ملامح الحكومة الجديدة، وتوزيع المناصب بينهما بالشكل الذي يعني تسلم الديمقراطي الكردستاني رئاسة الإقليم ورئاسة الحكومة، ووزارات “الثروات الطبيعية، والصحة، والتربية”، بينما ستكون من حصة الاتحاد الوطني مناصب رئاسة البرلمان، ونائب رئيس الإقليم، ونائب رئيس الحكومة بصلاحيات أوسع، ووزارات “الداخلية، التعليم العالي، التخطيط…”، ووكلاء وزارات، ومدراء عامون، ومناصب أمنية رفيعة، ومناصب أخرى.
وفي ظلّ التغيرات الإقليمية التاريخية، قد لا يقف النفوذ التركي عند التضييق على الاتحاد الوطني الكردستاني فحسب، بل من الممكن أن يمتدّ إلى منح أحد المناصب المهمة والقوية للتركمان في الحكومة الكردية الجديدة، على غرار حكومة الكابينة التاسعة (2019-2024) حين حصلوا على منصب سكرتير برلمان الإقليم.
رجّحت مصادر صحفية كردية أن يكون هناك طرف ثالث لعب دور الوساطة لعقد اللقائين اللذين جمعا مسرور بارزاني مع أردوغان وشاسوار عبد الواحد مع مساعد وزير الخارجية التركية نوح يلماز، وليس هذا الطرف الثالث سوى رئيس الجمهورية العراقي السابق و”المُبعد” من الاتحاد الوطني الكردستاني برهم صالح؛ ضرباً لولديّ طالباني بافل، وقوباد بسبب عدم دعمهما إياه لدورة ثانية في منصب رئاسة الجمهورية بعد الانتخابات البرلمانية العراقية الخامسة عام 2021.
لتركيا شروط بديهية، لن يكون غريباً إذا ما طرحتها في وجه عبد الواحد بكل ما تحمله من خشونة، وهي بكل بساطة: الابتعاد عن محور المقاومة المحسوب على طهران، ودعم الديمقراطي الكردستاني، وتقديم المعلومات المتوفرة عن دعم الاتحاد الوطني للعمال الكردستاني، وحظر جميع نشاطات العمال الكردستاني في قنواته الإعلامية، بالإضافة إلى تقديم الدعم أو المشاركة في حكومة الإقليم الجديدة.
لم يتأخر ردّ الفعل، فمع العلم بالمواقف التركية الثابتة من هذه الملفات، تعرّض شاسوار عبد الواحد لانتقادات حادة، بل ونظّم العشرات من معارضي تركيا، ومن الأحزاب المقربة لحزب العمال الكردستاني وقفة احتجاجية أمام مجمع القرية الألمانية في شارع الملك محمود بالسليمانية، وهو المجمع الذي يحتضن مبنى الجيل الجديد، ومنزلَ شاسوار عبد الواحد، حيث رفع المتظاهرون شعارات ضد زعيم الجيل الجديد، واتهموه ببيع القضية الكردية، احتجاجاً على زيارته أنقرة بهذا التوقيت، في ظل تصاعد الهجمات التركية على مناطق شمال سوريا ذات الغالبية الكردية.
يأتي ذلك مع تزايد الأنباء عن طلب أنقرة من مسرور بارزاني “استيعاب” حزب شاسوار عبد الواحد، باعتباره جزءاً من خارطة النفوذ التركي.
وتقول إن تركيا قدمت وعوداً لشاسوار بدعم مالي وسياسي، بما في ذلك تسهيل المعاملات المالية عبر المصارف التركية، وحمايته من أي تهديدات قد تصدر من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني أو من حلفاء إيران، وبمساعدة شقيقته النائبة سروة عبد الواحد، وهي شخصية برلمانية في بغداد.
التظاهرات/ الرواتب.. ميدان آخر للصراع
منذ أكثر من عقد من الزمن، يعاني الموظفون في إقليم كردستان من تأخُّر صرف رواتبهم، حيث تتراكم مستحقات العديد منهم، ما يسبب معاناة يومية للأسر.
بسبب هذا التراكم، تعيش مناطق كردستان عموماً، والسليمانية خصوصاً، حالةً من الاحتقان تنفجر أحياناً على هيئة مظاهرات غاضبة كان آخرها احتجاجات وإضرابات عن الطعام والشراب والتوقف عن تلقي الرعاية الطبية، في خطوة تصعيدية لما أُطلِق عليه “خيم الكرامة” أمام مقر الأمم المتحدة في السليمانية.
وبعد نحو أسبوعين من الاحتجاج، توجّه ممثلون عنهم إلى أربيل، وسط تشديدات أمنية وظروف جوية صعبة، لغرض الاعتصام أمام مقر الأمم المتحدة، في خطوة تصعيدية لحل أزمة الرواتب بشكل جذري، لكنّ المتظاهرين جوبِهوا بحملة من الإجراءات الأمنية المشددة، حيث أغلقت قوات الآسايش الكردية التابعة للحزب الديمقراطي “ديكله”، مدخل مدينة أربيل، لمنعهم من دخول المدينة، واستخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريق المتظاهرين، الذين استطاعوا عبور الحواجز الأمنية، لكن الإجراءات المشددة وحالة الاستنفار التي تبنّتها قوات الأمن في أربيل، صدّتهم عن دخول المدينة.
سلطت تلك التطوّرات الضوء على “القمع” الذي مارسه الحزب الديمقراطي الكردستاني ضد شعبه، عبر منعه دخول المعتصمين والمتظاهرين لعاصمة الإقليم. وبرّر الحزب الحاكم في أربيل ذلك بأن التظاهرات “مدفوعة سياسياً” من جهات سياسية داخل الإقليم وخارجه، لدرجة أن محافظ أربيل أوميد خوشناو صرّح بإنهم “لن يستضيفوا ولن يستقبلوا العرب ذوي (الوجوه الكالحة)”.
كما وصف القيادي في “البارتي” ووزير الخارجية العراقي الأسبق هوشيار زيباري احتجاجات السليمانية بأنها “مسيسة بامتياز”، داعياً المعتصمين إلى تحويل خيمهم واعتصاماتهم وإضرابهم عن الطعام إلى ساحة التحرير أو شارع الإمام القاسم أمام وزارة المالية في بغداد للمطالبة بدفع استحقاقاتهم المالية بشكل منتظم.
اتهام احتجاجات السليمانية من قبل قادة الديمقراطي/ البارتي بأنها “مسيسة” يأتي بعد أن “زار عدد من أعضاء مجلس النواب العراقي من الكتل السياسية المختلفة، والشيعية تحديداً، خيم اعتصامات واحتجاجات السليمانية للتضامن مع المعتصمين هناك، وإيصال رسالة وحدة شعبية وطنية عراقية، بالإضافة إلى نقل معاناتهم ومطالبهم إلى البرلمان الاتحادي”، حسب إعلانهم.
يأتي ذلك في وقتٍ تزدهر فيه علاقات الاتحاد الوطني الكردستاني بأحزاب بغداد، على عكس الديمقراطي الكردستاني الذي يخوض تشنجات دائمة معها، بينما تستمر اعتصامات السليمانية وتُنقَل معاناتهم إلى المنظمات الدولية وكذلك الحكومة الاتحادية كنقطة في صالح “اليكتي” أكثر من “البارتي”.
وسط كل ذلك تعرّض “حراك الجيل الجديد” لانتقادات حادّة بسبب عدم دعمه الاحتجاجات الأخيرة في السليمانية، كما اعتاد رئيسه شاسوار أن يروّج لها، فحاول وفد من الحراك ضمّ عدداً من أعضاء البرلمان الكردي من كتلته، زيارةَ “خيم الكرامة” لكنهم جوبهوا بموقف صارم وطُرِدوا أثناء محاولتهم إلقاء كلمة.
لم يحضر شاسوار بنفسه ولو لمرة واحدة إلى تلك الخيم، ربما بسبب قناعته التامة بأنه غير مرحب به بسبب مواقفه المتقلّبة إزاء القضايا المصيرية الكردية، ومنها ما يتعلّق بالهجمات التركية على المناطق والقرى الكردية في سوريا. بالإضافة إلى سعيه لبناء جسور تواصل “سرّية” مع “البارتي” للحصول على مغانم سياسية ومالية، بمقابل توجيه انتقاداته إلى السليمانية، أو الاتحاد الذي يحكمها، كما كشف رئيس كتلته في الدورة السابقة ببرلمان كردستان الدكتور كاظم فاروق، الذي نجا بـ”أعجوبة” من “محاولة الاغتيال” عن طريق “تسميمه”، فوجّه أصابع الاتهام بمقطع فيديو إلى شاسوار عبد الواحد.
ثابت ومتغيرات
بالرغم من أن الإقليم الكردي يتمتع بحكم شبه مستقل ضمن الدولة الاتحادية العراقية منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلّا أن الخلافات الداخلية بالإضافة إلى أزماته السياسية والاقتصادية، جعلته منقسماً على أرض الواقع إلى إدارتين وهما؛ إدارة أربيل ودهوك تحت سلطة الحزب الديمقراطي الكردستاني، تُقابلها إدارة السليمانية وحلبجة الخاضعة لنفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني، ويمكن القول إن الثابت الوحيد الذي لن تغيره الانتخابات ونتائجها في كردستان العراق، هو هذه السيطرة والنفوذ على الأرض، بينما تستمر التجاذبات والانقسامات السياسية بينهما، والعجز طيلة السنوات الماضية عن توحيد قوات البيشمركة والصنوف الأمنية والعسكرية الأخرى التي تستخدم وفق المصالح والتوجهات الحزبية وليست تحت مظلة حكومية واحدة رغم التهديدات الأمريكية المستمرة بإيقاف المساعدات المالية الشهرية المقدمة لقوات البيشمركة الكردية ما لم يتم توحيدها. وبالفعل، انتهت تلك التهديدات بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب القاضي بإيقاف جميع المساعدات الأمريكية الخارجية عدا تلك المخصصة لإسرائيل ومصر، ما يعني أن مستقبل التعايش بين قُطبي كردستان العراق، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، معرض لخطر الانزلاق إلى التصادم في أيّة لحظة، ويعدّ كل ذلك بمثابة هدية ثمينة لإيران وتركيا تسمح باستمرار نفوذهما في كردستان.
ووسط الضبابية المسيطرة على مشهد تشكيل الحكومة الجديدة في كردستان، وزيادة حدّة الصراعات السياسية بين القوى العراقية بالتزامن مع الحديث عن احتمالية إجراء انتخابات الدورة السادسة للبرلمان العراقي نهاية العام الجاري، يبقى الحديث عن الدور الأمريكي فيما يتعلق بكردستان وتشكيل حكومتها ضبابياًً حتى اليوم مع تسلّم الرئيس الجديد للولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب السلطة. ولكنّ المعطيات توحي بأن اللاعب التركي سيكون أقوى مقارنة بالأمريكي والإيراني على المدى القصير، خصوصاً بعد التغيير في دمشق وتراجع النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان، والخسارات التي تلقتها طهران بعد اغتيال قيادات الصف الأول في حزب الله اللبناني وخسارة حركة حماس لأغلب قادتها وقوتها.
ترك هذا التراجع كلّه فراغاً انقضّت عليه تركيا في سوريا ولن تتوانى عن محاولة ملئه في شمالي العراق، خصوصاً مع تغاضي أمريكا وإسرائيل عن ذلك لضمان خنق خصمهما الأول في المنطقة: إيران.
ومن خلال استعراض المواقف السابقة لترامب بشكل خاص والولايات المتحدة بشكل عام، يمكن القول إن واشنطن ستصب جهودها بنسبة أكبر في صياغة سياسة جديدة في العراق أكثر من الخوض في التفاصيل الصغيرة التي تتعلق بكردستان، إذ أن مكافحة الإرهاب والتعاون والتعامل العسكري مع العراق بالنسبة لواشنطن تمثل أهمية استراتيجية بعيدة المدى أكثر وأهم من الغوص في تفاصيل تشكيل حكومة الإقليم الجديدة، على اعتبار أن استمرار الوجود الأمريكي في العراق من خلال بوابة التحالف الدولي، سيساهم في ضمان منع تنظيم داعش من العودة. وربما يتحول في لحظة ما، لصدّ تنامي النفوذ الإيراني في العراق والعمل على تقلصيه أكثر سواء فيما يتعلق بالجماعات والفصائل المسلحة، أو الأحزاب السياسية من خلال فرض عقوبات اقتصادية وسياسية أكثر وأكبر على طهران مع الاستفادة من الأطراف السنية والكردية القريبة منه لتنفيذ تلك الأهداف، والحفاظ على المصالح الأمريكية وحلفاء واشنطن في العراق سياسياً واقتصادياً وأمنياً.
المصدر: نيريج