كتب.. عدالت عبدالله
على كل من يعتبر نفسه عراقي الهوية ومنتمياً الى بلدٍ بحجم وتاريخ العراق وحضارته، أن يعي أن هناك منظومة إصطلاحية خاصة ومتميزة يمكن العودة اليها- إذا ما أردنا ذلك!- لتعبير عصري وعقلاني عن كل القضايا العراقية وشؤون البلد وشجونه. وأن هذه المنظومة تختلف كلياً عن الجهاز المفاهيمي الأيديولوجي أو العرقي أو الطائفي الكلاسيكي السائد حالياً في العراق والمعمول به عادةً لتسمية أحداث البلاد أو أزماتها ومآزقها، ومقاربة أحوال العباد أو مشاكلها وصراعاتها.
كما علينا أن نفهم أيضاً أن هذه المنظومة الإصطلاحية لايُفقِهها أحد بسهولة أو قادر على ترجمتها عملياً وبدون وجع الرٲس! إلا اولئك الذين تحرووا نوعاً ما من قيود التحزب الأعمى، أو الذين يتمتعون بتفكير نقدي تجاه المسلمات والوقائع، أو الأحداث والفضائح، ولا ينخدعون بما تغرسها الثقافة السياسية الإستهلاكية اليومية في بواطن عقولنا، الفاقدة منذ زمن لأي مناعة معرفية بفعل طغيان آيديولوجيات الأكراه وعقليات الشيطنة والإقصاء.
ومن هذا المنطلق برأيي يمكن أن ينطلق التفكير أيضاً في عبارة (الخلافات) بين بغداد وأربيل ومقاربتها نقدياً، فما بالك إذا ما وصل الأمر معنا الى ملاحظة ظاهرة ترديد عبارة (الخلافات) كشيء عادي ومُسَلَّم به! في حين أن بمجرد القبول بها أو ترسيخها في قاموس السياسة في هذا البلد والإعلام العراقي كما هو الحال، فأن ذلك بمثابة تخدير العقل وتعطيله تماماً، بل تسطيح الرؤية والعبارة معاً الى أدنى مستوياتهما اليومية، المتأثرة بمشاهد كيدية ووقائع مفروضة، أو مفاهيم وقواميس ملغومة لاتجدها إلا في جعبة الأحزاب والقوى، التي تتحكم بعقولنا وسلوكنا السياسية وبواقعنا المتأزم عبر فضائيات الفتنة وخطابات التجنيد ضد بعضنا البعض.
نعم أن التسليم بعبارة الخلافات بين بغداد وأربيل وبكل هذه السهولة، لا يعني في مدلوله العميق شيئاً سوى تعرية إنعدام قدرتنا في تجاوز الفتن، وتعذر التعبير عما تمليه المنظومة الإصطلاحية الوطنية الوئامية على نظام تسمياتنا التقليدية لعالم الأشياء والوقائع وإخفاقنا الفكري في تقديم بدائل تعبيرية تحث الأطراف السياسية ومؤسسات الدولة ومرافقها على بناء إرادة المشتركات وتوسيع قاعدة التفاهمات بين أبناء البلد الواحد وممثليهم السياسيين. أنه بأوضح العبارات، بمثابة الهروب من مسؤوليات معنوية تفرزها روح الوطنية وتُحوَلِها تدريجياً الى عادات لغوية ومباديء تعبيرية منفتحة بوجه سُبل التفاهم ومُجهضة في الوقت ذاته لإمكانية توليد الفتن على مستوى الخطاب وتفشيها في عقول أصحاب القرار والمتنفذين في البلد وفي توجهات الناس عموماً.
بتعبير آخر، علينا أن نفهم مجدداً بإن بغداد وأربيل ليستا عاصمتين لبلدين مختلفين، الأولى هي مفخرة حضارية وتاريخية لجميع العراقيين، والثانية عاصمة الإعمار والإزدهار ورمز من رموز اقليم كردستان العراق الذي نلجأ اليه جميعاً في السراء والضراء!، وهو الواقع في شمال الوطن لا في أي بقعة أخرى، فضلاً عن أن أربيل كترميز معنوي للتعبير عن عموم الإقيم هو رمز مُعبر عن العراق الجديد، وممثل إداري ورسمي لموطن دستوري ضمن نظام سياسي إتحادي تم اقراره بأستفتاء شعبي وبتصويت ديمقراطي لدستور العراق الدائم.
وبهذا المعنى، يمكن القول وبإختصار شديد، نحن دوماً أمام شأن وطني داخلي واستحقاق سياسي بإمتياز، يتعذر اليوم تسويته إلا عبر هذه الثقافة الوطنية الراقية في التعاطي مع شؤوننا الداخلية، لاسيما أن الأمر أساساً ليس مرتبطاً بوجود طرف أجنبي لا بالنسبة لبغداد ولا لأربيل، وأنما الشأن متعلق حصراً بـ(أنا) فقط لا بـ(الآخر)، وكل من يتجاهل هذه الحقيقة الدامغة فهو غير عراقي ولايمكن الوثوق بإدعاءآته أو شعاراته الوحدوية.
وبناءً على هذه المسلمة في تخيل الهوية والماهية، يستوجب علينا دون ادنى ريب إعادة النظر في عبارة الخلافات بين أربيل وبغداد حتى وإن بات هذا التعبير متداولاً على الصعيد الإعلامي ومتعارف عليها سياسياً بفعل القبول غير النقدي بها، وإعتبار هذا الموضوع قطعاً، على أنه مسألة تتعلق بوجود وجهات نظر مختلفة لاتزال بحاجة الى المزيد من النقاش والتباحث بين أبناء البلد الواحد الى أن يتوصل الجميع في نهاية الأمر الى توحيد تام ومُرض للمواقف والآراء حول كافة الملفات العالقة بين الطرفين بل تصفير المشاكل نهائياً.