بغداد اليوم - بغداد
تُعد ظاهرة المواد الغذائية الغير صالحة للاستخدام البشري، احدى الازمات المزمنة وغير المسيطر عليها بسبب ضعف الرقابة والسيطرة النوعية التي تحاصر المواطن العراقي، مع الاعتماد شبه الكلي على الاستيراد في القطاعين العام والخاص.
اشر هذا الملف الخطير واثار ضجة كبيرة على اثرها، نقيب الصيادلة مصطفى الهيتي، الذي ادلى بتصريحات صحفية "مخيفة" ادت الى استياء شعبي بل وحتى نيابي، حيث قال في تصريحات صحفية سابقة، ان " "كل المواد الغذائية التي تدخل إلى العراق لا تُفحص، بضمنها الأدوية، إذ إن عملية التهريب كبيرة في البلاد، ولا يُعلم ما يأتي من مواد غذائية".
وأضاف "منذ نحو شهرين حصل تعاون ما بين وزارة الصحة ونقابة الصيادلة والقوات الأمنية، وتمت السيطرة على دخول الأدوية ووضعها في الطريق الصحيح، لكن المشكلة الكبيرة حالياً هي في الأغذية".
وتغزو الأسواق العراقية مواد غذائية منتهية الصلاحية أو قريبة الانتهاء، وتسبب بيعها في المحال التجارية بتسجيل حالات تسمم كثيرة في عموم البلاد، ما دفع الأجهزة الرقابية والأمنية إلى تنفيذ حملات تفتيش لضبط تلك المواد وإتلافها.
واليوم الثلاثاء (26 ايلول 2023)، كشف مدير شعبة الرقابة الصحية في دائرة صحة كربلاء، د. غيث العواد، في حديث لـ"بغداد اليوم"، عن أكثر من (سبعة أطنان ونصف) من المواد الغذائية الصلبة و(3000) لتر من المواد السائلة، وجاء الإتلاف لإنتهاء صلاحيتها أو فشلها بالفحص المختبري أو تلفها نتيجة سوء التخزين، وتم ذلك اُصولياً وبحضور أصحاب العلاقة، مبيناً إن تم إغلاق (46) محلاً وفرض غلامات مالية على (73) آخرين مخالفاً للشروط الصحية في مناطق متفرقة من المدينة، وأنجزنا فحص نحو (3500) نقطة كلور في مختلف محطات تحلية المياه، وفحص (275) نموذج غذائي من المواد الداخلة للمحافظة".
وفي شهر ايار الماضي، كان جهاز الامن الوطني قد اعلن عن ضبط نحو 200 طن من المواد الغذائية غير الصالحة للإستهلاك البشري وأخرى ممنوعة التداول في الأسواق المحلية، كما وتم إلقاء القبض على 16 متهماً بممارسة الغش والتلاعب ومخالفة الشروط الصحية"، موضحاً أن "عمليات الضبط جرت في محافظات (كربلاء، والنجف، وواسط، والقادسية)".
وأوضح الهيتي، أنه "خلال السنوات الثلاثين الأخيرة، تعرّض المواطن العراقي لشتى أنواع المواد، ليس فقط المسرطنة، وإنما حتى المواد غير الصالحة للاستهلاك البشري".
وشدد نقيب الصيادلة، "لذلك هناك حاجة إلى تكثيف الجهود على الأغذية، وإنشاء الهيئة العليا للغذاء والدواء وترتبط بمجلس الوزراء مباشرة، كما في سائر دول العالم".
تعطيل "صنع في العراق"
الباحث الاقتصادي بسام رعد، في تصريحات سابقة، اشار إلى تدني الجهاز الإنتاجي وعدم مرونته للاستجابة للطلب المتزايد على السلع والمنتجات في السوق المحلية، مؤكداً أن الأسواق العراقية أصبحت مفتوحة تعج بأنواع السلع والمنتجات المستوردة من الخارج، التي لا يعرف عنها شيء سوى الأسماء التجارية لها، كما تدفقت كميات كبيرة من السلع الرديئة الصنع وتم تسجيل ارتفاع في حالات الغش الصناعي والتجاري من خلال تقليد العلامات التجارية أو تسويق سلع ذات مكونات تختلف عن المادة المثبت مكوناتها على العبوة أو الغلاف.
وبحسب رعد "شرع قانون حماية المستهلك رقم (1) لسنة 2010 بهدف حماية المستهلك العراقي من سلع ومنتجات قد تلحق به أضراراً صحية أو اقتصادية، والعمل على منع استيراد السلع والمنتجات الرديئة".
لكن على رغم ذلك، بحسب رعد فإن حماية المستهلكين من الآثار السلبية للغش الصناعي والتجاري تتطلب جهوداً جماعية، إضافة إلى الجهد الحكومي المتمثل في تشديد دور الأجهزة الرقابية التجارية والصحية والصناعية والجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية، والعمل كذلك على تطوير الوعي الاستهلاكي لدى المواطنين من خلال التوعية والتثقيف، والحد من دخول البضائع الرديئة والمقلدة وغير المطابقة للمواصفات إلى البلد.
أما المواد الحافظة التي تضاف إلى المواد الغذائية المعلبة في علب معدنية أو زجاجية أو بلاستيكية، فهي على ثلاثة أنواع رئيسة: مواد مضادة لنمو البكتيريا والفطريات، مواد مقاومة للتأكسد، مواد أنزيمات لإطالة عمر المنتج، وهي تدخل في قائمة المواصفات العالمية، بالتالي فإن الاختلاف بين هذه المواصفات وكميتها يعود إلى المختبرات البحثية لكل دولة مع مراعاة شروط البيئة المناخية ورأي السلطات الصحية.
لجنة الزراعة في مجلس النواب قالت في بيان سابق، إن "دخول العديد من المواد الغذائية والمنتجات الزراعية والحيوانية والنباتية من المنافذ الحدودية بدون إجازات استيراد وتداولها في الأسواق المحلية، أمر لايخدم تشجيع المنتج المحلي ويؤدي إلى كساده خاصة وأن بعضها تكون أقل سعراً وجودة نتيجة لعمليات التهريب بشكل خاص".
جشع التجار
وفي السياق، أوضح عضو غرفة تجارة بغداد، علي الجميلي، أن "هناك عمليات استيراد عشوائية تجري لتلك المواد، وأن كثيراً من التجار والمنتفعين يستوردون مواد غذائية تقرب صلاحيتها على الانتهاء، لتحقيق مكاسب كبيرة من خلالها، لأنها تكون أقل سعراً بالنسبة لهم".
في حين، انتقد "ضعف الإجراءات الرقابية وأجهزة التقييس والسيطرة النوعية التي يجب أن تخضع جميع المواد الداخلة إلى البلد للفحوصات".
كذلك انتقد "استناد حملات الرقابة والتفتيش إلى البلاغات في تنفيذ حملاتها، في وقت يجب أن تكون هناك حملات يومية ومفاجئة على الأسواق والمخازن الخاصة للتجار، وأن تكون المحاسبة شديدة على المخالفين".
اما نقابة الاطباء وعلى لسان العضو جابر العزي في تصريحات صحفية، فشددت على انه "يجب على الجهات الرقابية القيام بواجبها بدءاً من الحدود وانتهاء بتفتيش المخازن والأسواق وبشكل يومي، والتعامل مع الجميع بمسؤولية أخلاقية، بغض النظر عن الارتباطات الأخرى للتجار وأصحاب الأسواق"، لافتاً الى ان "إهمال الملف وعدم المحاسبة القانونية للمخالفين، هو مشاركة بتعرض حياة المواطنين للخطر".
مواد حافظة لا تخضع للضوابط
ذكر الخبير في السلامة الغذائية همام الشريفي، أن كل شركة منتجة للمواد الغذائية المحفوظة ملزمة بتسجيل مفصل للمواد الحافظة، على أن تكون مسجلة رقمياً على "بار كود"، ويتم متابعتها مقارنة مع الشروط العالمية، وفق ماقال في تصريحات صحفية سابقة.
وأكمل، تقوم سلطات التقييس والسيطرة بأخذ عينات عشوائية من المنتجات في الأسواق، وفي حالة اكتشاف مخالفة بسيطة تقام دعوة قضائية على الشركة بشقين، الأول مدني وهو الذي تتكفل به شركات التأمين للتعويض النقدي، والثاني جنائي الذي يفضي إلى حبس واحتجاز المديرين التنفيذيين، وخصوصاً إذا ثبت تهمة "القتل غير العمد".
وتابع، هناك فقرات تجارية مهمة في الاقتصادات المتقدمة، وهي تتبع المنتجات من وقت خروجها من المعمل ثم دخولها منظومة النقل ومن ثم خزنها بشروط بيئية محددة، وبيعها على منصة بائع المفرد. هذه السلسلة من المراقبة غير موجودة في كثير من دول الاقتصادات النامية، بخاصة أن عملية المناقلة التجارية تجري بالنقد السائل وليس بالنقد الرقمي عبر المصارف.
وتابع "عوامل عدة تضاف إلى قلقنا من المواد الحافظة في العراق، منها ورود مواد معلبة من مناشئ غير منتظمة بمعايير صحية معروفة، كذلك ضعف سلطة التقييس والسيطرة وضعف الرقابة الداخلية لا سيما على المعلبات بأنواعها، وعدم إمكانية تتبع مسار المواد المعلبة من الحدود وحتى المستهلك.
كذلك تطرق إلى ضعف الشروط البيئية لمخازن المعلبات ومنها درجات الحرارة العالية ونسب الرطوبة وانتشار القوارض والحيوانات والتعرض لأشعة الشمس وطول فترة المناقلة على عجلات غير مصممة لهذا النوع من المواد الغذائية، كلها تفاقم القلق العام حول السلامة الغذائية.
منافذ غير مسيطر عليها
يؤكد مصدر حكومي رفيع طلب عدم الكشف عن اسمه بتصريحات لوسائل اعلام عربية، أن "منافذ إقليم كردستان لا تمتثل للتوجيهات الحكومية الخاصة بإغلاق المعابر مع إيران، أو تلك المتعلقة بمنع استيراد عناصر معينة، كما أنها تستقطع مبالغ أقل كتعرفة جمركية، مما يجعل عملنا بلا فائدة تقريبا بسبب إقبال التجار على إدخال بضائعهم عبر تلك المنافذ".
وبين المصدر أن "لجنة حكومية من العسكريين والموظفين المدنيين أوقفت نحو 500 شاحنة محملة بهذه المادة على مشارف العاصمة العراقية بغداد، على بعد أكثر من 200 كيلومتر من المعبر الذي تدخل منه هذه المواد، وهو معبر برويز خان الحدودي التابع لمحافظة السليمانية، ضمن إقليم كردستان العراق".
وبحسب المصدر، فإن نقاط السيطرة المنتشرة على الطريق تسمح بمرور المواد الزراعية المحظورة مقابل "مبالغ مالية" تدفع كرشاوى لمنتسبيها، مضيفا أن بغداد "بدأت تتعامل مع جميع الشحنات القادمة من كلار في محافظ السليمانية على أنها مهربة".
ويقول المصدر إن "تحقيقا حكوميا تجريه رئاسة الوزراء العراقية وهيئة النزاهة بشأن كيفية عبور كل هذه المواد لمسافات طويلة من دون أن توقفها نقاط السيطرة المنتشرة على الطريق قد كشف احتمال تورط مسؤولين أمنيين رفيعين بهذه التجاوزات بالإضافة إلى عناصر مقربة من فصائل مسلحة".
وبين هذه العوامل الكثيرة والابعاد الخطيرة التي تمس ارواح المواطنين، يثار التساؤل عن اثر الدولة في الحياة اليومية وامكانية فرض هيبتها وسيطرتها على الاخطار المحدقة التي تعيق عملية التنمية والرفاهية لمجتمع يعاني منذ الحصار الاقتصادي في العام 1991 حتى يومنا هذا من اهمال القطاع الصحي والغذائي والسيطرة النوعية.
المصدر: بغداد اليوم + وكالات