الصفحة الرئيسية / التوحد: زائر خبيث "يتخفى" بعقول الاطفال.. والعراق "جاهل طبيًا" في تشخيصه

التوحد: زائر خبيث "يتخفى" بعقول الاطفال.. والعراق "جاهل طبيًا" في تشخيصه

بغداد اليوم - متابعة 

تأخُر مجتبى صالح، في النطق وهو يجتاز عامه الثالث، لم يكن كافياً لتوقع اصابته بأي مرض من قبل عائلته، فسائر اخوته الذين يكبرونه وعددهم خمسة، لم يتحدثوا الا بعد اقترابهم من سن الثالثة حسب رواية والدتهم، التي تقول بأنها “حالة وراثية في العائلة”.

لكن بلوغه الرابعة دون اكتسابه القدرة على التعبير الا بالبكاء والصراخ أدخل الشك الى قلب أمه، فضلاً عن شقيقته الكبرى سجى، التي تعمل بمجال التمريض، والتي خشيت بادئ الأمر من إصابة مجتبى بضمور في الدماغ، غير أن طبيب الجملة العصبية استبعد ذلك الاحتمال بعد سلسلة فحوصات، وكذلك أثبتت معاينة طبيب الأنف والأذن والحنجرة عدم مواجهته مشكلة في السمع.

لم يكن أمام عائلة مجتبى، التي تسكن مدينة الحلة مركز محافظة بابل 100 كم جنوب العاصمة بغداد، سوى مراجعة متخصص بالنطق والمخاطبة، وإخضاع الصغير لجلسات تدريب فردية ليكتسب مهارات التواصل، تقول الأم بنبرة حزن: “بدأ يفهم ما نقوله له لكنه لم يكن طفلاً طبيعياً، لم يتمكن من النطق ولم يتواصل معنا كما يتواصل أي طفل مع أفراد عائلته”.

وشهراً بعد آخر أيقنت العائلة بأنه يعاني من مشكلة أبعد من مسألة تأخر النطق، وتوجب الأمر مراجعة طبيب مختص بأمراض الجملة العصبية والعقلية. “تأخرنا في استشارته كثيراً إذ تبين بأن مجتبى مصاب بالتوحد”، تقول شقيقته بصوت مرتجف، وتضيف: “لم يخطر ببالنا هذا المرض اللعين أبداً”.

لا توجد أرقام رسمية في العراق بشأن أعداد المصابين بالتوحد، لكن تقديرات تظهر ان هناك عشرات آلاف منهم في كل محافظة، في حين تفتقد غالبية المحافظات الى مراكز تأهيل حكومية متخصصة، وهذا يعقد من فرص تأهيلهم خاصة في ظل غياب الوعي المجتمعي بكيفية التعامل معهم.

يبلغ عمر مجتبى الآن سبعة سنوات، ولخلو محافظة بابل من مركز حكومي لمعاجلة التوحد، اضطرت عائلته إلى زيارة مركزٍ لتأهيل أطفال التوحد تشرف عليه العتبة الحسينية في كربلاء (140 كم جنوب بغداد) وبعد جلسات مطولة بإشراف متخصصين في ذلك المركز، استطاع مجتبى أخيراً النطق ببضع كلمات عبر بها عن نفسه.

مشاق الطريق وتكاليفه، دفعت العائلة إلى تسجيل مجتبى في معهد أهلي بمدينة الحلة، لكنه “مركز توحد على اللافتة الخارجية فقط” حسب تعبير شقيقته سجى، التي تقول “فقد أخي المقدرة على النطق وعاد للبكاء بعد أقل من شهر على تسجيلنا له في المعهد الأهلي، لم أفهم السبب حتى رأيتُ بالصدفة مقطعاً مصوراً انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي للطريقة القاسية التي يتعاملون بها مع الأطفال، وأجزم أن من في المعهد لا يعرفون شيئاً عن التوحد، لهذا عدنا به مجدداً الى المركز العلاجي في كربلاء”.

 

غياب الإحصائيات

تعرف منظمة الصحة العالمية مرض التوحد الذي تم تصنيفه كمرض منفصل عن الفصام في 1980، على أنه “مجموعة من الاعتلالات المتنوعة التي تتصف ببعض الصعوبات في التفاعل الاجتماعي والتواصل، وصعوبة الانتقال من نشاط إلى آخر والاستغراق في التفاصيل وردود الفعل غير الاعتيادية”.

وبحسب أطباء متخصصين فأن هنالك عوامل عديدة لظهور التوحد، منها وراثية وبيئية تحدث تأثيرها في المراحل الأولى لنمو الدماغ. وأكدوا غياب أي احصائية دقيقة لأعداد المصابين بالتوحد في العراق على الرغم من تزايدها في العقدين الأخيرين بنحو ملحوظ.

هذا التزايد رصدته وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في 2021، مرجعة ذلك الى زواج الأقارب وأساليب التنشئة الاجتماعية الخاطئة التي تتبعها بعض الأسر، وسوء تشخيص المرض، وما يزيد من المشكلة هو قلة المراكز المخصصة لعلاج وتأهيل الاطفال المتوحدين.

ووفقاً لإحصاءات منظمة الصحة العالمية فإن 1% من الأطفال في العالم مصابون بالتوحد، وهو يصيب الذكور أربعة اضعاف ما يصاب به الاناث، وهنالك من يسقط هذه النسبة على أطفال العراق ليحصروا أعداد المصابين بالتوحد فيه بما يقرب من 200 ألف طفل بالاستناد الى توقعات وزارة التخطيط لسنة في 2022 والتي أكدت بأن نسبة السكان الذين تقل اعمارهم عن (١٥ سنة) بلغت (٤٠.٥٪؜) من مجموع السكان.

ذلك الرقم التخميني بشأن اعداد المصابين، هو ذاته الذي ذكره ممثل المرجعية الدينية في النجف الشيخ عبد المهدي الكربلائي، خلال افتتاحه مركز التوحد المنجز من قبل العتبة الحسينية قبل عام.

وبحسب موقع وايس فوتر يحتل العراق المرتبة الـ 193 عالمياً في الإصابة بالتوحد لدى الأطفال بمعدل 328.27 طفل مصاب لكل 100 ألف طفل، ويرصد الموقع أكثر من 125 ألف مصاب بالتوحد من مختلف الاعمار.

أما وزارة التخطيط فقد رصدت في إحصاءاتها أكثر من 350 ألف معاق بالفهم والادراك لكن لا شي في هذه الاحصائيات يشير الى التوحد بعينه. وفي تقريره عن سياسة الدولة في التعامل مع اضطراب التوحد أشار ديوان الرقابة المالية في تقريره لسنة 2015 وهو آخر تقرير صدر عنه، الى عدم وجود قاعدة بيانات موحدة تتضمن دمج اعداد المرضى المشخصين بالتوحد من قبل وزارة الصحة والمسجلين ضمن معاهد وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والمعاهد الاهلية.

غير أن تضارب الاحصائيات لا ينفي تفاقم المشكلة في ظل ضعف مستوى الخدمات الصحية والخدمية والتأهيلية لمرضى التوحد في العراق، فلغاية الآن لم يتم افتتاح سوى مركز حكومي واحد فقط لتأهيلهم في بغداد وسط انتشار واسع للمراكز الاهلية التي اثقلت كاهل العائلات التي بين أفرادها طفل مصابٌ بالتوحد، اذ تصل أجور كلفة تأهيل الطفل المتوحد فيها الى 500 ألف دينار شهرياً (350 دولار تقريباً).

 

أطباء بلا تدريب وتشخيص متأخر

يستطيع الآباء ملاحظة أعراض التوحد في السنتين الأولى من عمر ابنائهم، لكن الطبيب المختص بالأمراض النفسية والعقلية محمد عادل، يشير الى أن تأخر وصول الأطفال المصابين بالتوحد الى المختصين يشكل عائقاً أمام التشخيص المبكر للمرض.

ويقول “على الرغم من أن العراق يعتمد على نظام التشخيصDMS-5  لتشخيص التوحد إلا أن معظم العائلات تلجأ الى أطباء غير قادرين على تشخيص التوحد بسبب عدم تخصصهم، مما يسبب ضياع أطفال التوحد بين مختلف التخصصات الطبية”.

DMS-5  وهي أداة التصنيف والتشخيص التي نشرتها الجمعية الأمريكية للطب النفسي في الولايات المتحدة، ويعتبر الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية وعلاجها. يتابع الطبيب “لا يتم تدريب الأطباء النفسيين العراقيين في مراكز متخصصة في دول أكثر خبرة بالتعامل مع التوحد وهذا ما يحد من وجود أطباء أكثر مهارة في تشخيص وعلاج المرض وتطبيق البرامج العالمية في التعامل مع مرضى التوحد”.

ويشدد على ضرورة تشخيص المرض في وقت مبكر لكي يتعلم المصاب مهارات التواصل وهو بسن صغيرة وينعكس ذلك على حالته بنحو إيجابي فضلاً عن محيطه.

ويلفت الطبيب محمد عادل، الى النظرة الاجتماعية إلى الطبيب النفسي واعتباره طبيباً “للمجانين فقط”. ويصف ذلك بالمعضلة، اذ أن تشخيص التوحد هو من اختصاص الطبيب النفسي، والوصمة الاجتماعية تحول دون التوجه له في ظل تزايد ملحوظ في اعداد الأطفال المتوحدين، ودعا إلى ضرورة القيام بإجراءات اجتماعية مصاحبة للرعاية التي تستهدف المصابين بالتوحد للحد من انتشاره.

توافقه المختصة بالأمراض النفسية والعقلية بتول العيسى، اذ تؤكد بأن السبب الأساسي في تأخر تشخيص المرض هو انعدام التثقيف به وجهل الكثير من العائلات بأعراضه، وتقول عن ذلك “يولد الطفل متوحداً، فالتوحد ليس مرضاً مكتسباً ويمكن تشخيصه في الأشهر الأولى من عمر الطفل، لكن الكثير من العائلات تجهل التوحد وأعراضه بسبب انعدام التثقيف به”.

مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها CDC حدد سبعة مناهج علاجية للتوحد، ستة منها تحاول التخفيف من مظاهر العجز والسلوكيات غير الطبيعية المرتبطة بالتوحد وتحسين نوعية الحياة.

أما السابع فهو الدوائي والذي تستخدم فيه أدوية تعالج الأعراض المصاحبة للتوحد والتي يمكن أن تساعد في إدارة مستويات الطاقة العالية أو عدم القدرة على التركيز أو سلوك إيذاء النفس، مثل ضرب الرأس أو عض اليد.

ويمكن أن تساعد الأدوية أيضاً في إدارة الحالات النفسية التي تحدث، مثل القلق أو الاكتئاب، بالإضافة إلى الحالات الطبية مثل النوبات أو مشاكل النوم أو مشاكل المعدة أو غيرها من مشاكل الجهاز الهضمي.

 

قلة الكوادر المتخصصة

ينبه تقريرُ لديوان الرقابة المالية، الى قلة الكوادر التعليمية المتخصصة بتعليم ورعاية الأطفال المتوحدين وضعف تدريبيهم، إضافة الى قلة أعداد الأطباء النفسيين المنتسبين الى وزارة الصحة، إذ يحتاج العراق الى 12 ضعف عدد الأطباء النفسيين الحاليين.

كما يشير التقرير الى افتقار مركز تشخيص العوق التابع لوزارة العمل والشؤون الاجتماعية الى بعض الاختصاصات الطبية المناسبة والمكلفة من وزارة الصحة، اضافة الى عدم مواكبة التطور في تشخيص التوحد والاعتماد على استمارات لا تغطي جميع المعلومات اللازمة للتشخيص ما يؤثر سلباً على الأطفال.

ووفق تقارير غير رسمية، هناك طبيب نفسي متخصص واحد فقط لكل مليون فرد عراقي، بمعنى أن البلاد ليست فيها أكثر من خمسين طبيب نفسي متخصص.

أم آدم (من ديالى 57 كم شمال بغداد) كانت لها تجربة تصفها بـ “المريرة” بسبب اختلاف التشخيص، فبعد أن بلغ ابنها “آدم” عمر السنتين دون أن ينطق وصار يتفاعل مع محيطه بعصبية، راود الشك شقيقتها التي تعمل في قطاع الصحة، بأنه مصاب باضطراب التوحد.

تقول الأم “لم أكن أعرف شيئاً عن التوحد قبل معرفتي أن ابني مصاب به، كنت استغرب من غضبه المفرط وضربه لرأسه، نبهتني اختي الى احتمالية أن يكون متوحداً وبالفعل هذا ما كان تشخيص الطبيب النفسي له”.

وصف الطبيب ادوية عديدة لآدم، اثرت في نشاطه وبات واضحاً تأثيرها عليه، وفقاً لما تقول الأم، التي بحثت في الأنترنيت لتعرف ماهية تلك الأدوية فاكتشفت بأنها مجرد مهدئات، فلجأت إلى طبيب آخر، شخص حالة آدم بأنه “اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه”.

“الطبيب الجديد غير الأدوية، لكن الحال بقي على ما هو عليه، فطفلي اما نائم أو لا يتحرك فما كان مني الا أن اتخلص من الأدوية وافتش عن طبيب آخر” تقول الأم وهي تسرد تفاصيل رحلة آدم العلاجية التي تصفها برحلة” الألف طبيب”!.

والتي انتهت بتشخيص ثلاثة أمراض دون علاج مؤثر مع حمية غذائية قاسية، حسبما تقول الأم، وتتابع “آخر طبيب أخبرني بأن آدم لديه كهرباء زائدة في دماغه ومصاب بالتوحد واضطراب الحركة المفرطة وتشتت الانتباه”.

يبلغ آدم الآن ست سنوات، وعائلته في حيرة من أمرها لعدم تمكنها من العثور على علاج يمنع تدهوره الصحي، وهي تشكو من عدم وجود رعاية حكومية لمثل حالته في محافظة ديالى

المصاب بالتوحد تبرز لدية صفات، منها: عدم استجابة الطفل عند مناداته باسمه أو يبدو كأنه لا يسمعك في بعض الأوقات، يرفض العناق والإمساك به، يفضل اللعب بمفرده؛ ضعف في التواصل البصري، وغياب تعبيرات الوجه، تأخر ا في الكلام، عدم القدرة على بدء محادثة أو الاستمرار فيها، التكلم بنبرة غير طبيعية، يكرر الكلمات أو العبارات الحرفية، يبدو ألا يفهم الأسئلة أو التوجيهات البسيطة،  لا يعبر عن عواطفه أو مشاعره، لا يشير إلى الأشياء أو يجلبها لمشاركة اهتماماته،   يتفاعل اجتماعيًا على نحو غير ملائم بأن يكون متبلدًا أو عدائيًا أو مخرّباً،   لديه صعوبة في التعرف على الإشارات غير اللفظية، مثل تفسير تعبيرات الوجه الأخرى للأشخاص أو وضع الجسم أو لهجة الصوت.

شيماء الهاشمي، وهي سيدة من محافظة بغداد، فقد تعاملت مع التوحد بطريقة مختلفة الهمت الكثيرين، وتعج مواقع التواصل الاجتماعي بمقاطع فيديو لطفليها المصابين بالتوحد ويتابعهما ما يقارب المئة ألف على منصة انستغرام.

بدأت رحلة شيماء مع التوحد قبل 12 عاما، حين بلغت ابنتها الكبرى آية سن الخامسة اذ كانت ترجع سبب غرابة تصرفاتها الى عدم قدرتها على الرؤية فقد ولدت مكفوفة، لكن التشخيص الطبي لاحقا من قبل معالج مختص في أحد المراكز الاهلية ببغداد، أكد اصابتها بالتوحد.

تقول “لم يكن لدي أي معلومات عن التوحد لكن تشخيص آية، دفعني الى القراءة عنه وتعلم أساليب تأهيل ورعاية الأطفال المتوحدين”.

بعد تشخيص حالة آية بعام واحد ولد شقيها محمد، الذي يبلغ اليوم 11 سنة، تم تشخيص إصابته بالتوحد في اسابيعه الأولى “ولد مكفوفاً أيضاً وحركاته تشبه حركات آية منذ يومه الأول، لم أستبعد ابداً اصابته بالتوحد وبدأتُ بالتعامل معه كطفل متوحد قبل بلوغه الشهر الأول من عمره” تقول شيماء.

وترى السيدة، أن دراسة التوحد والتعامل مع طفلين متوحدين مكفوفين دفعت ثمنه تركها لوظيفتها في وزارة التجارة والتفرغ لتأهيل طفليها والعناية بهما.

تقول عن ذلك “أطفال التوحد والأطفال ذوو الاحتياجات الخاصة جميعهم غير مدعومين من الدولة هذا ما يؤثر سلباً على ذويهم اذ لا توجد مراكز أو مدارس خاصة بهم وليس لديهم أية حقوق. هذا جعلني أواجه التوحد والمجتمع غير الواعي به بنفسي وكان للتنمر حصة خاصة في رحلة المواجهة”.

استطاعت شيماء، بعد العمل على تأهيل طفليها لمدة تقارب الـ 12 عاماً من تنمية مهاراتهما الحياتية، وكذلك التثقيف بشأن المرض عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فآية تمتاز بسرعة حفظ ومحمد يعزف على البيانو ويؤدي مختلف الأغاني التراثية ويحظيان كليهما بتقبل وتشجيع من قبل المجتمع عامةً والمشاهير خاصة.

هي تشدد على ضرورة أخذ الحكومة ذوي الاحتياجات الخاصة بعين الاعتبار كونهم “جزء من المجتمع” وتضيف “رسالتي لكل أم لطفل متوحد، تذكري أن الله اختاركِ لتكوني أماً مميزة لأطفال مميزين وأنتِ قادرة على صنع المستحيل”.

 

صفوف التربية الخاصة مهملة

حالة آدم، تشابه الى حد كبير حالة علي نوار 9 سنوات، من محافظة كربلاء، أو علاوي كما يلقبه ذووه، كان انطوائياً بطبعه منذ سنوات طفولته الأولى ولا يتفاعل مع محيطه، يقول والده: “كنت أعتقد أنه خجول فقط، فلم أكن قد سمعت عن التوحد من قبل، لكن دورانه حول نفسه وتكراره لذات الحديثي عدة مرات وهو في سن الخامسة أدخل القلق الى منزلنا”.

جهل والد علي بمرض التوحد، وتردي وضعه الاقتصادي أجبراه على اللجوء إلى الطب البديل أو الشعبي “أعمل كعامل بناء وأنا وأمه لم نتجاوز التعليم الابتدائي، فاتجهت الى العطارين والمشايخ لعلّي أحصل على علاج لطفلي لكن دون جدوى”.

بعد محاولات فاشلة عديدة مع الطب البديل والعلاج بالأعشاب، راجعت العائلة طبيب أطفال شخص حالة علي بالتوحد البسيط من الدرجة الأولى، ومع وصوله الى سن المدرسة(ست سنوات) سجله والده في احدى المدارس الحكومية التي تحتوي صفاً لذوي الاحتياجات الخاصة باعتباره من فئة بطيئي التعلم، لكنه لم يستطع التأقلم مع أقرانه هناك، إذ وكما يقول والده “علي يكره أن يحاط بعدد كبير من الناس ما اضطرني لسحب ملفه من تلك المدرسة”.

معلمة التربية الخاصة شهد أزهر، ترى أن صفوف التربية الخاصة في المدارس الحكومية المزدحمة بالطلاب ووسط الضوضاء غير مناسبة لذوي الاحتياجات الخاصة عامة والمصابون بالتوحد خاصة، وتوضح ” ولا توجد مناهج خاصة بالأطفال ذوي الإعاقة وهذا ما يحول دون تأهيلهم، كما أن وضع الصفوف الخاصة بهم هو كحال باقي الصفوف، مهملة ومهمشة، مع أنهم يحتاجون الى رعاية أكبر”.

وتشدد أزهر على ضرورة تدريب معلمي التربية الخاصة لمواكبة التطور في برامج تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة واحراز تقدم في هذا المجال.

بينما يؤكد المتحدث باسم وزارة التربية كريم السيد أن وزارة التربية تتعامل مع فئات محددة مثل ضعيفي البصر والسمع أما باقي فئات ذوي الاحتياجات الخاصة فتتعامل معها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.

 

التوحد في كردستان

يختلف الوضع في محافظات إقليم كردستان شمالي العراق نسبيا، فيما يخص مرض التوحد وطريقة التعامل معه، فالإحصائيات تشير الى وجود 3300 طفلاً مصاباً بالتوحد فيها، كما أن محافظات (أربيل، دهوك، السليمانية) تحتوي على مراكز حكومية مجهزة بوسائل حديثة للتعامل مع الأطفال المتوحدين.

سروا كاظم، الباحثة الاجتماعية في مركز التوحد الحكومي في السليمانية تصف المراكز الحكومية الخاصة بالتوحد في إقليم كردستان بـ “بارقة امل” للعائلات التي فيها طفلٌ يعاني من التوحد “تصل الطاقة الاستيعابية لمركزنا الى 120 طفلاً وهذه فرصة ممتازة لـ 120 عائلة من أجل أن تتمكن من تأهيل أطفالها المرضى دون مقابل”، تقول سروا وتستدرك “نوفر وسائل كافية لتأهيل الأطفال المصابين بالتوحد خصوصاً وأن جميع الموظفين في المركز مختصين بعلم النفس والتربية الخاصة”.

مجيد يحيى (44 سنة) من محافظة دهوك ويقيم حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية، ذكر بأنه أكتشف متأخراً إصابة ولده البكر أحمد، بمرض التوحد “بعد بلوغه عامه الخامس وكان ذلك سنة 2007 وكانت القدرات الطبية في الإقليم وقت ذاك ولا سيما في مجال التوحد محدودة جداً”.

راجع أطباء في أربيل والموصل وبغداد، قبل أن ينقله إلى عمان في الأردن، ليكتشف هناك بأن جميع العلاجات التي كانت تعطى لأحمد غير نافعة، واضطر للبدء من جديد.

يقول بشيء من الحرقة: “خلال وجودنا في العراق، كان البعض من أقربائي يسألونني إن كان أحمد مجنوناً، وكانوا يتعاملون معه وفقاً لذلك، وكان هذا أمراً موجعا كثيراً بالنسبة لي ولأمه، ولهذا وفضلاً عن محاولتنا إيجاد علاج وبيئة أفضل لأبننا قررنا مغادرة البلاد”.

مكثت عائلة مجيد، في الأردن ثلاث سنوات قبل أن تجد فرصة للهجرة الى الولايات المتحدة الأمريكية، ووفقاً لما يقول بأنه عثر هناك على البيئة المثلى ليعيش فيها ابنه دون الانتقاص منه كانسان، وأنه تلقى رعاية طبية على أفضل ما يكون، وسمح له بالدراسة والاختلاط بالتلاميذ والطلاب الأصحاء، وهو ما أثر بنحو إيجابي على حالته.

ويعتقد مجيد أن مرضى التوحد في العراق يمكن أن يتلقوا الرعاية الطبية الجيدة، لكن المشكلة وفقاً لما يراه، تكمن في البيئة المجتمعية غير المؤهلة للتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة ومن بينهم المتوحدين “بنحو انساني”.

شاكر محمود شنكالي، كان عمر أبنه ثلاثة سنوات في 2014 عندما اكتشف أصابته بالتوحد، وأضطر بعد خوض تجربة البحث عن علاجه في محافظات الأقليم وتركيا، أن يؤسس في 2016 مركز زاخو للتوحد(في مدينة زاخو أقصى شمالي أقليم كردستان)، بغية تقديم العلاجات والمساعدة الممكنة للمرضى في المدينة التي كانت تفتقر إلى مركز مشابه.

ينفي أن يكون وضع مرضى التوحد في الأقليم ومعاناة ذويهم، أفضل من باقي مناطق العراق، بل يؤكد بأنه أسوء في بعض النواحي ولاسيما ندرة المراكز، ويقول: المراكز الحكومية تتواجد فقط في محافظات الأقليم الثلاث الكبرى أربيل والسليمانية ودهوك، وطاقتها الاستيعابية لا تتعدى 10% من الأعداد المسجلة في الأقليم وهي تقريبا 3300 حالة”.

ويلفت إلى أن أعداد المصابين بالتوحد بأقليم كردستان أكبر مما هو معلن، إذ أن هنالك عائلات ترفض تسجيل أبنائها المصابين بالمرض بسبب قلة الوعي أو الخجل من المجتمع أو سوء تشخيص الأطباء لحالة المريض. ويتساءل شاكر:”ماذا سيكون مصير هؤلاء فضلاً عن الذين لا يجدون مراكز لمعالجتهم؟ “.

 

المصدر .. شبكة نيريج للتحقيقات الأستقصائية


16-08-2023, 17:04
العودة للخلف