بغداد اليوم - متابعة
يربّت مصطفى أحمد بيد حانية على جسد جاموس الماء قبل أن يربط كيس العلف حول رقبته، وهو يرعى القطيع الذي يملكه والده بمحافظة النجف في جنوب العراق، وهو نشاط توارثته العائلة على مدى أجيال، قبل أن يصبح شُحّ المياه سيفا مصلتا يهدد بقطع الأرزاق وتغيير نمط الحياة بالكامل.
يشكل العراق جزءا مما يعرف بمنطقة "الهلال الخصيب"، وهي الأرض الممتدة من ساحل البحر المتوسط إلى الخليج ويعيش أهلها على الزراعة منذ آلاف السنين.
لكن الأوضاع تغيرت والأحوال تبدلت وأصبح كل شيء مهددا بالدمار لعدة عوامل ومجموعة أسباب من بينها بناء السدود على منابع نهري دجلة والفرات، وتراجع هطول الأمطار وعقود من الصراعات.
قال أحمد عبد الحسين، والد مصطفى، إن النقص الحاد في المياه بحي المشخاب الذي يعيشون فيه أصبح يفرض عليه بيع أفراد القطيع واحدا تلو الآخر، وهو شيء يترتب عليه إحساس بالألم وشعور بالمرارة خاصة لدى الابن.
فقد القطيع مؤخرا عجلا صغيرا يبلغ من العمر شهرين. وقال مصطفى البالغ من العمر 13 عاما "أشعر بالأسى لفقده... لأنني أحبهم فعلا.. الآن أصبح لدينا تسعة فقط".
وكان عدد أفراد القطيع في العام الماضي 20.
وتحدثت رويترز إلى ست من عائلات الرعاة والمربين في محافظة النجف، قالوا جميعا إنهم لم يكن أمامهم خيار ثالث خلال الأشهر الماضية، فإما بيع ماشية أو تركها تنفق أمام أعينهم.
وقال مسؤول محلي إن عدد جاموس الماء في منطقة أم خشم المجاورة انخفض من 15 ألفا قبل خمس سنوات إلى 9000.
وقال خالد شمال المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية إن محافظة النجف لم يصل إليها سوى حوالي 40 بالمئة من حصتها المعتادة من المياه في السنة الحالية.
وفي الأهوار بجنوب العراق يزداد الوضع سوءا في منطقة تعيش بالفعل حالة هشاشة بيئية. وتتعرض الأهوار الآن لأشد موجة حر خلال 40 عاما، وتقول منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إن ما يقرب من 70 بالمئة من الأهوار أصبحت أرضا جرداء محرومة من المياه.
وأضاف المتحدث باسم وزارة الموارد المائية أن كميات المياه المتدفقة في نهري دجلة والفرات أصبحت أقل بنحو 70 بالمئة هذا العام، مقارنة بالعقود السابقة.
ويشير المسؤولون والخبراء إلى بناء السدود على المنابع في تركيا وإيران، وتغير المناخ، وتقنيات الري التي عفا عليها الزمن، وغياب خطط الإدارة طويلة الأجل كأسباب جذرية لأزمة المياه التي تدفع الآلاف إلى النزوح من الريف.
وفي المشخاب، تحولت الأراضي على مد البصر إلى مساحات جرداء، وأصبح على حيوانات عبد الحسين تحمل هبات الغبار القادمة من أراض كانت تزرع في السابق، فيما لم يبق لقطيع الجاموس سوى القليل من المياه للحفاظ على برودة أجسادها.
قال عبد الحسين وهو يتطلع إلى ماشيته الواقفة في المياه الراكدة "هذه مياه قديمة"، مضيفا "أنها تعاني بسبب العطش".
وتؤثر نوعية المياه على صحة الحيوانات، ذلك لأن المياه الملوثة تضعف جهازها المناعي.
قال نذير الأنصاري، الأستاذ في جامعة لوليا السويدية للتكنولوجيا، إن النجف من أفقر مناطق العراق من حيث جودة المياه. وأضاف أن المياه الفاقدة غير المعالجة والأسمدة الكيماوية التي تعرف طريقها لمجاري الأنهار تجعل المياه غير صالحة للاستهلاك كلما تحرك التيار وتدفقت المياه باتجاه المصبات في الجنوب.
وأوضح أنه كلما انخفض منسوب المياه، تزداد نسبة الملوحة لتتخطى الحدود الموصى بها للاستهلاك الآدمي.
* دمار الزراعة
بالإضافة إلى نقص المياه، تتضافر مجموعة من العوامل والأسباب لزيادة معاناة المزارعين في محاولات تغذية حيواناتهم من بينها الانخفاض الحاد في إنتاج المحاصيل وارتفاع أسعار العلف.
تقول منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة إن الأراضي المستخدمة في أنشطة الزراعة بجميع أنحاء العراق، انخفضت لحوالي نصف المساحة التي كانت مزروعة في عام 2020.
وفي محافظة النجف، تزداد الأوضاع سوءا بشكل لا مثيل له حيث تتدنى نسبة الأرض المُستَغلة إلى خمسة بالمائة فقط من نظيرتها عام 2020 بعد أن توقفت زراعة الأرز بشكل تام تقريبا بسبب شح المياه.
وكان الرعاة والمربون على غرار عبد الحسين يزرعون أراضيهم بأنفسهم، أو يتحصلون على العلف الرخيص من مزارعي الأرز.
يقول عبد الحسين "عندما لا يأكل الجاموس ... لا يدر الحليب"، مضيفا أن دخله تضاءل بشدة بعد أن فقط مصدر ربحه الرئيسي، وأنه يجد صعوبات في توفير العلف الذي أصبح في الغالب مستوردا وأغلى ثمنا.
وأضاف بينما كان قرص الشمس يميل نحو الغروب على المشخاب "بعد أشهر قليلة ربما ينتهي كل شيء". وأشار إلى أن البديل الوحيد هو الانتقال إلى ضواحي النجف، حيث يعيش باقي أفراد أسرته، لكي يتمكن من الحصول على مياه الشرب.
تقول المنظمة الدولية للهجرة إن 62 ألف شخص نزحوا في جميع أنحاء العراق بسبب الجفاف حتى العام الماضي. وانتقل الكثيرون من الريف إلى المدن التي تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وضعف الخدمات.
قال علي رضا قريشي، الممثل المحلي لبرنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة، إن العراق بحاجة إلى وضع الخطط وتطبيق الاستراتيجيات للتكيف مع الأوضاع. وأضاف أن بغداد تستخدم الآن عائدات النفط لتجنب أزمة جوع لكن "شبكات الأمان هذه" لن تكون كافية لتعويض فقدان سبل الرزق ومصادر العيش.
وفي غرفة جلوس قليلة الأثاث قال عبد الحسين إنه أخرج أبنائه من المدارس منذ سنوات لمساعدته في رعاية القطيع، مضيفا أنه يشعر بالندم على هذا القرار "أكثر من أي شيء آخر".
وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) إن حوالي سبعة بالمئة من القاصرين الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة و17 عاما يعملون يندرجون تحت وصف الأطفال العاملين أو فئة عمالة الأطفال بالعراق.
قال أحمد إنه يريد العودة للدراسة بعد أن رأى حيواناته تختفي واحدا تلو الآخر.
ولأنه لا يعرف القراءة أو الكتابة، يخشى والده من انسداد الآفاق وتضاؤل الفرص أمام مستقبله.
وقال عبد الحسين "مصير حياتنا مجهول. لا نعرف ماذا ينتظرنا" في المستقبل.
المصدر: رويترز