بغداد اليوم-متابعة
الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط وعليه مرشح للانتقال من مرحلة خطرة إلى مرحلة أشد خطورة، والسبب ليس حرب أوكرانيا على الرغم من انعكاساتها على المنطقة والأدوار الإقليمية والدولية فيها، بل التفاوت في الرؤى الاستراتيجية وتوظيف القدرات، والمفارقة أن ما يسهم في تزايد الخطورة هو التسويق الأميركي والأوروبي والروسي والصيني والإيراني للوعد بالاستقرار ونهاية كابوس الأخطار النووية من خلال العودة للاتفاق النووي.
وليس أمراً قليل الدلالات أن تمارس إيران التفاوض من موقع قوة وتسلم أميركا وأوروبا بالتفاوض من موقع ضعف، ولا أن تفرض إسرائيل على أميركا تنسيق المواقف معها، وتبدو العواصم العربية المهددة أكثر بالخطر الإيراني خارج التنسيق الجاد على الرغم مما وعدت به إدارة الرئيس جو بايدن بداية التفاوض.
قوة الضعيف تغلب ضعف القوي بسبب الإرادة والرؤية الاستراتيجية، والمحشور بالعقوبات والحصار والتردي الاقتصادي هو الذي يحشر صاحب العقوبات الخائف من حصول إيران على سلاح نووي ويطلب أموراً مستحيلة، ذلك أن أميركا تراهن على وهم، وهي تعرف أن ما يقلق العالم العربي إلى جانب السلاح النووي وقبله هو تمدد النفوذ الإيراني والتدخل في الشؤون الداخلية والسلوك المزعزع للاستقرار، وهي تكرر القول إن هذا ما يقلقها أيضاً.
غير أنها تعطي الأولوية القصوى لما تسميها إزالة الخطر النووي، مع معرفتها بأن المسألة في الاتفاق هي تأجيل الخطر لا إنهاؤه، وما تتصوره هو التفاوض بهدوء بعد الاتفاق النووي على تغيير السلوك الإيراني والحد من النفوذ، كما من برنامج الصواريخ الباليستية، وليس هذا سوى رهان خيالي، فما عجزت أميركا عن الحصول عليه بالخروج من الاتفاق النووي وممارسة "الضغط الأقصى"، ثم بالتفاوض للعودة للاتفاق في ظل الحصار والعقوبات، لن تحصل عليه بالكلام الناعم بعد الاتفاق والرهان على الدبلوماسية من دون دعمها بخيار القوة.
إيران تراهن على الواقع فهي تحصل على المليارات ورفع الحصار والعقوبات وتستمر في توسيع نفوذها وممارسة سلوكها المزعزع للاستقرار وتطوير الصواريخ الباليستية وتوزيعها على الميليشيات المرتبطة بها في العراق وسوريا ولبنان وغزة واليمن، ولا شيء يمنعها من إنتاج قنبلة نووية عملت لها سراً وصار صنعها في متناول اليد بالحصول على اليورانيوم المخصب والمعرفة، فضلاً عن أنها تستعد لمرحلة "حرب مركبة" دعا إليها الجنرال رحيم صفوي كبير المستشارين العسكريين للمرشد الأعلى علي خامنئي، أي "حرب مركبة بأبعاد سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية، في عملية نقل القوة من الغرب إلى الشرق".
المشكلة أنه ليس في فريق السياسة الخارجية في إدارة بايدن مفكر استراتيجي مثل الدكتور هنري كسينجر أيام الرئيسين نيكسون وفورد، أو مثل البروفسور بريجنسكي أيام الرئيس كارتر، ولا هو يضم أيضاً خبيراً استراتيجياً واقعياً مثل الجنرال سكوكروفت أيام الرئيس جورج بوش الأب، وكل ما لدى بايدن البيروقراطيون، فوزير الخارجية أنتوني بلينكن ومستشار الأمن القومي جايك سوليفان بيروقراطيان من إرث أوباما وركاب الدرجة الثالثة في قطاره.
مدير الاستخبارات المركزية وليم بيرنز دبلوماسي مخضرم قال في كتاب "القناة الخلفية" إنه مع سياسة "اللعبة الطويلة" التي مارسها أوباما، وهم جميعاً ومعهم نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان شاركوا في التفاوض على الاتفاق النووي مع وزير الخارجية جون كيري،
واعترفت شيرمان أمام مجلس الشيوخ أن هذه الأيام مختلفة عن العام 2015 حين التوصل إلى الاتفاق، "ولا بد من التطرق إلى برنامج الصواريخ الباليستية ودعم إيران للإرهاب في أي اتفاق جديد"، وهذا لم يحصل ولن يتغير المشهد ولو تأخرت العودة للاتفاق.
والمسألة تكراراً هي دبلوماسية بلا رؤية استراتيجية ولا قوة داعمة ولا شخصيات صلبة.