بغداد اليوم - بغداد
عرف العراقيون الموسيقى وعشقوها كما عشقوا الحياة، وبرزت "ملحمة جلجامش" كأعظم الملاحم الشعرية المغناة التي عرفتها البشرية إبان الحضارة السومرية، تلك الحضارة التي وضعت أصول الموسيقى والغناء في مراكز العبادة.
الفرقة السيمفونية العراقية هي الأوركسترا الأولى في الشرق الأوسط، بشهادة المعنيين، إذ تأسست في بدايات عام 1948، وتشكلت في هيئة مجاميع صغيرة، رفدها معهد الفنون الجميلة بأساتذته وطلبته، إضافة لعازفين أجانب أطلقوا عليها اسم (فيلهارمونيك بغداد).
يتحدث قائد الأوركسترا، محمد أمين عزت، عن بدايات الفرقة، واختيار أول قائد للأوركسترا، وكان يحمل الجنسية الرومانية، ورافق نشاطات الفرقة حتى بداية العهد الجمهوري، قبل أن تظهر الفرقة بصفتها الرسمية في خمسينيات القرن الماضي. وفي عام1959 أطلق عليها اسم (الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية).
ويتابع عزت، "توقفت نشاطات الفرقة مرات عدة، لتعود سنة 1971 بقيادة قائد الأوركسترا الألماني هانز كنتر مومر، فاتسعت قاعدتها بزيادة عدد أعضائها حين تعاقدت مع مجموعة من العازفين من مختلف أنحاء أوروبا، لينضموا إلى الفرقة حتى نهاية الثمانينيات. وتعاقب عليها ما يقرب من عشرة قادة أوركسترا من دول أوروبا المختلفة، مثل ألمانيا وإنجلترا وفرنسا وأذربيجان، وآخرهم من روسيا، وكان يدعى أصلانوف .
عزت، الذي قاد الفرقة لما يزيد على ثلاثين عاماً يوضح،" درست قيادة الأوركسترا في رومانيا، والتحقت بالفرقة السيمفونية بعد إكمال خدمتي العسكرية التي رافقت الحرب العراقية - الإيرانية. وعينت في ديسمبر (كانون الأول) عام 1989 كأول قائد أوركسترا عراقي في الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية.
صعوبات رافقت المسيرة
الفرقة السيمفونية هي المؤسسة الوحيدة التي استمرت بالعمل في مراحل الأزمات التي مرت بالعراق. يتابع عزت، "واجهتنا صعوبات كثيرة مثل فترة احتلال العراق للكويت، وفترة الحصار في التسعينيات"، ويذكر أنها كانت مرحلة تهميش للفرقة السيمفونية، وكان لسوء الوضع الاقتصادي أثره الكبير الذي اضطرهم للعمل حتى من دون أن يتقاضوا أجورهم. يقول، "عملنا كفريق أو ناد تجمعي مع كل الأعضاء، ونحن الآن نمثل الجيل الخامس من الفرقة".
أما أحمد سليم غني، عازف الكونترباص، فتحدث قائلاً، "منذ أكثر من نصف قرن لم تتوقف الفرقة السيمفونية الوطنية عن عطائها، على الرغم من قساوة الظروف التي مرت بها في الحقب الماضية. وبعد 2013 وفي قمة الفوضى تحدت الفرقة كل الإرهاب، وأقامت أكثر من حفل، واستمرت بالعمل والتدريب، على الرغم مما نشر عنها بسبب مشاركتها في كونسير في أميركا مع عازفين أميركان".
وأضاف غني، "الأمر الذي ساعد في تمويه المغرضين عن المساس بأعضاء الفرقة، هو عدم وجود مقر ثابت لنا، إذ كنا نتعمد عمل البروفات في أماكن مختلفة"، ويذكر أن أعضاء الفرقة آنذاك كانوا يخفون آلاتهم الموسيقية أثناء تنقلهم من وإلى مكان التدريب أو مكان الحفل لتجنب خطر الإرهاب والإرهابيين. ويتابع، "أنا واحد من الموسيقيين الذين تنقلوا من دار إلى أخرى غير مرة، خشية العمليات الإرهابية، وأذكر يوماً بعد عودتي من التمرين إلى البيت عام 2006 استلمت جثمان أخي الشهيد (ملازم أول في الجيش العراقي)، وكان سبب الاستشهاد هو مقاومة عصابات الزرقاوي الإجرامية".
حفل موسيقي في شهر المحرم
الموسيقار مساعد قائد الأوركسترا علي الخصاف، يذكر تفجيرات التنظيم الإرهابي "داعش" لمنطقة الكرادة التي راح ضحيتها كثير من الأبرياء، أطفال ونساء وشيوخ. يقول، "في شهر المحرم، حيث لا يستحب تقديم حفل موسيقي، أقدمت على إقامة حفل تأبين لشهداء تفجير منطقة الكرادة ومدينة الصدر، وشهداء تفجيرات طالت مناطق كثيرة من بغداد، وشهداء سقطوا في أماكن عدة من العراق في فترة كانت الأكثر دموية، وشاركني فيها الملحن قيس حاضر، والمؤلف الموسيقي والملحن سليم سالم، وزملاء آخرون، وسمي (حفل رثاء للشعب العراقي). وتعاطف الجمهور مع الحفل بشكل كبير، وأذكر أنني سمعت أصوات بكاء وتنهدات من جمهور الحاضرين على قاعة المسرح الوطني، وأثر بي ذلك إلى حد بعيد".
وعن نجاح الفرقة في اجتياز التحديات يقول خصاف،" استمرت الفرقة بالعمل حتى خلال الحجر الصحي، وكانت أكثر مرحلة عانيناها. كنا نتمرن في المنزل، ونتواصل مع بعضنا بعضاً عن طريق برنامج (زووم)، و(سكايب)، فاستطعنا نوعاً ما تجاوز المرحلة واستعادة نشاط الفرقة".
أما عازف الكونترباص أحمد سليم، فيرى أن من أهم المشكلات التي واجهت الفرقة تسرب بعض عازفيها المهمين بسبب الهجرة أو السفر. ومنهم من أودت بحياته عبوة ناسفة. وبعد أن قل عدد أعضاء الفرقة جاءت فكرة تدريب الشباب وكسب من لديه الموهبة والقدرة على ملء الفراغ، وفُتح باب قبول المتدربين من طلبة وخريجي المؤسسات الفنية لتعويض ما خسرته الفرقة من عازفيها، كما التحق بعض العازفين المغتربين بالفرقة ليكملوا نصابها وتُكلل رسالتها الفنية والإنسانية بالنجاح.
نحو موسيقى أوركسترالية عراقية
حفلات الفرقة تقدم شهرياً في قاعة المسرح الوطني، وفي بعض الأحيان تقام في النوادي الاجتماعية المعروفة، مثل نادي الصيد، أو نادي العلوية، والنوادي المرموقة. يقول الخصاف، "نحن نعد للحفل، ونتمرن بشكل منتظم ولدينا طريقة للتمرين في شكل (غروبات)، ولدينا قادة فرقة ذوو كفاءة عالية مثل محمد أمين عزت، وكريم وصفي وأنا كمساعد وقائد معهما".
وعن اختيار منهاج الحفل يفيد عزت، "تقع مسؤولية الاختيار على عاتقي، ولي استراتيجيتي في الاختيار من دون أي تدخل، وأضع خريطة عمل سنوية للفرقة". ويكمل، "قدمنا معزوفات لكل المدارس الموسيقية، كمدارس الباروك وغيرها، وعزفنا مقطوعات لمؤلفين مثل باخ، وكوريلي، وفيفالدي، وموتزارت، وبيتهوفن، وهايدن، وجايكوفيسكي، ورافق ذلك تقديم عروض موسيقية لمدارس الجاز".
يقول قائد الفرقة، "فضلاً عن تقديمنا للأعمال العربية والعراقية التي عرضت بأسلوب أوركسترالي، قدمنا مهرجانات في التأليف الموسيقي، وشجعنا المبادرين، وأصبح لدينا كماً جيداً من الأعمال العراقية الأوركسترالية". أما خصاف فيقول، "الموسيقى فن مجتمعي يسهل نشره بين الناس، ويوصل رسالته بأبسط صورة، فحين توقع كثيرون من أنحاء العالم صعوبة السير في شوارع بغداد مطمئنين، قدمنا من خلال دائرة الفنون الموسيقية وفرقتي الخاصة (فرقة المايسترو علي خصاف) والفرقة السيمفونية الوطنية العراقية كثيراً من الأعمال. كنت أستعين بمجموعات صغيرة من العازفين لعمل نشاطات بسيطة، لكنها مهمة وفي أمكنة عدة مؤثرة كشارع المتنبي، ونصب كهرمانة، والأربعين حرامي، وشارع الرشيد، والمسرح الوطني، والكرادة".
العنصر النسوي موجود منذ إنشاء الفرقة السيمفونية وحتى الآن، بخاصة بعد فترة السبعينيات. يبين عزت، "اشتهرت كثير من العازفات مثل بياتريس أوهانسيان، عازفة البيانو، وأغنس بشير، ومجموعة من الفتيات الشابات من خريجات مدرسة الموسيقى والبالية مثل أمينة وزينب ونهلة إلياس كعازفات للكمان والآلات الخشبية. وكان عددهن لا يقل عن عشر عازفات في الفرقة". ويختم، "لدينا الآن عازفات جيدات، والمجال مفتوح للعنصر النسوي، وعادة ما تشغل النساء المساحة الأكبر في الفرق السيمفونية العالمية، لكن لأسباب عدة فهن قليلات في فرقتنا، وجميع القائمين يشجعون مشاركتهن واستقطابهن، إذ أثبتن عن تجربة أنهن أكثر حرصاً من الذكور على التمارين، وملتزمات بالحضور في المواعيد".
يقول أحمد سليم، "بالنسبة لي، فإن أجمل وأهم حدث ورسالة قدمتها الفرقة السيمفونية إلى العالم كان في شتاء عام 2012 أثناء احتفال أقامته (مؤسسة المدى) لإحياء الذكرى الخمسين لنصب الفنان جواد سليم، وعزف فيها أكثر من 80 عازفاً بقيادة المايسترو محمد أمين عزت، وسط جمهور حاشد من الحاضرين في الهواء الطلق، ومن دون قطع للشوارع أو إجراءات أمنية، وتحت أيقونات النصب كانت الفرقة تقف متحدية الإرهاب بكل أشكاله. مغيرة مفاهيم الإعلام المغرض، الذي كان يتعمد نقل أحداث القتل والدمار فقط".