بغداد اليوم - متابعة
يعانيها نحو 1.25 مليون شخص في بريطانيا، ويقول كثر منهم إن وسائل التواصل الاجتماعي تذكّي هذه المشكلة.
لم تكن إيف سانكار تعدت 18 سنة عندما أخذت مقاطع مرئية مسجلة محملة بتفاصيل حول سبل إنقاص الوزن تظهر على موجز المحتوى المخصص لها على "تيك توك". فجأة ودونما أسباب أو مقدمات، صارت المنصة تبلغها بأفضل الوصفات الغذائية المزعومة التي تضمن لها التخلص من الكيلوغرامات الزائدة وعدم استعادتها.
ابتدأ الأمر بعملية تنزيل بريئة لتطبيق إلكتروني لا تتوخى سوى التسلية، بيد أن "تيك توك" سرعان ما أخذ يغذي علاقة غير صحية ومهووسة بالطعام، دمرت قرابة سنتين من حياة إيف.
"كانت فيديوهات "تيك توك" التي كنت أشاهدها عبارة عن وصفات لسلوكيات غير سليمة متصلة باضطراب الأكل، وطرق لإنقاص الوزن بسرعة كبيرة. كان ذلك المحتوى يعبث حقاً بأفكاري. هذا ما كنت أشاهده يوماً تلو الآخر"، قالت إيف.
بدأت الحكاية عندما بدأت تتابع بعض الـ"هاشتاغات" على شاكلة "الأزياء متوسطة الحجم" والمؤثرين الذين يملكون جسداً يشبه جسدها. لاحظت بعد ذلك أن المحتوى الضار على "تيك توك" يظهر على صفحتها بشكل متزايد كل يوم.
حتى أن إيف تتذكر أنها شاهدت مقاطع فيديو يلتقط فيها أحد المستخدمين صوراً لأشخاص عاديين يتمتعون بصحةٍ جيدةٍ، وينتقدهم لكون مقاساتهم أكبر من اللازم، في رأيه.
قام "تيك توك" أيضاً بعرض فيديوهات قصيرة لها تحت عنوان meanspo (اختصاراً لـ mean inspiration إلهام لئيم). وتشمل تلك المقاطع المصورة أشخاصاً يتفوهون بعبارات ناقدة ومهينة عن الأشخاص الذين لا ينظر إليهم المجتمع على أنهم "نحيفون بما يكفي"، بغرض "إلهامهم" لتقييد والحد من وجباتهم، أو التوقف عن الأكل تماماً، أو اللجوء إلى التقيؤ المتعمد بعد الأكل، المعروف باسم "التطهير" أو "التنظيف".
بعد أن فقدت إيف السيطرة على المحتوى الذي كان يظهر لها عبر صفحتها الموجزة لمقاطع الفيديو، وجدت شيئاً آخر في مقدورها أن تتحكم به: نظامها الغذائي. كانت تتحقق من السعرات الحرارية لكل ما تستهلكه، حتى الأقراص (الأدوية أو الفيتامينات)، وتزن كل طعامها. كما احتفظت بجدول بيانات تتضمن تفاصيل عن كل ما أكلته.
تقول إيف "كنت أحتسب السعرات الحرارية إلى حد أنها أضرت بحياتي، لأنني لم أستطع أن أتناول وجبة غذائية من دون احتساب مجموع سعراتها الحرارية في رأسي".
"ولكن لم تجدِ المحاولة نفعاً، لأنك عندما تتناول عدداً أقل من السعرات الحرارية التي يحتاج إليها جسمك لتحافظ على وزن صحي، سوف ينتهي بك الأمر إلى الأكل بشراهة لاحقاً، لذلك تحولت إلى إنسانة بائسة"، قالت إيف.
بعد أن حذفت التطبيق العام الماضي، تشعر إيف بسعادةٍ أكبر وثقةٍ أكثر في نفسها. تقول "حياتي أقل تقييداً الآن لأنها لا تتمحور حول الطعام. لا مانع من الخروج وتناول الطعام برفقة أصدقائي، وأنا أحب القيام بذلك. لقد اشتقت إلى هذه المتعة حقاً، لكنني لم أدرك حتى أنني كنت أفتقدها لأنني كنت مشغولة جداً باحتساب السعرات الحرارية بدقة إلى ما لا نهاية".
إيف واحدة من كثر في المملكة المتحدة يعيشون القصة عينها. وفق "بيت" Beat، مؤسسة خيرية معنية باضطرابات الأكل، يعاني حوالى 1.25 مليون شخص من اضطراب الأكل في بريطانيا، ويشكل الرجال 25 في المئة منهم تقريباً.
الدور الذي تؤديه وسائل التواصل الاجتماعي في تحفيز اضطرابات الأكل ودعمها، مع أن العلماء لم يحددوه تماماً بعد، بدأ يتبلور ببطء إنما بثبات.
خلصت دراسة حديثة نظرت في استخدام حوالى ألف مراهق وسائل التواصل الاجتماعي إلى أن 52 في المئة تقريباً من الفتيات و45 في المئة من الفتيان يعانون اضطراب الأكل.
كذلك وجدت الدراسة صلة بين سلوكيات الأكل المضطربة من جهة، وعدد حسابات وسائل التواصل الاجتماعي التي يمتلكها المراهق اليافع من جهة أخرى. إذا استخدموا منصات كثيرة من وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، سيسجلون على الأرجح درجة عالية من السلوكيات والأفكار المتصلة بالأكل المضطرب.
ومعلوم أن "تيك توك" يحظى بجمهور من الفئة الشابة، إذ تتراوح أعمار 60 في المئة ممن يملكونه بين 16 و24 سنة. والمنصة الرقمية المتوافرة في 150 بلداً والتي تجمع مليار مستخدم حول العالم، نمت على مدى السنوات القليلة الماضية حتى تفوقت في عدد مستخدميها على نظيرتيها "سناب شات" و"تويتر"، ويبدو أنها تلحق بركب "إنستغرام" بسرعة.
ولكن العدد المتزايد من المستخدمين يعني قدراً أكبر من المسؤولية. أعلن "تيك توك" في وقت سابق من العام الحالي أنه سيدخل تغييرات على خوارزميته سعياً منه إلى منع المستخدمين من مشاهدة مقاطع الفيديو نفسها مراراً وتكراراً، لا سيما ما يبعث منها على الألم والقلق ويثير ردود فعل مشوبة بانزعاج أو خوف أو غضب.
وقالت الدكتورة راشيل إيفانز، عالمة نفس معتمدة ومتخصصة في اضطرابات الأكل، إن "جميع" مرضاها تقريباً تأثروا سلباً بوسائل التواصل الاجتماعي، إذ أسهمت في تطور حالتهم الصحية إلى الأسوأ أو أعاقت تماثلهم للشفاء.
واحدة ممن يقصدون إيفانز للعلاج تبلغ من العمر 15 ربيعاً، ومع أنها أقرت بمعرفتها أن صوراً كثيرة تنشر عبر شبكة الإنترنت لا تكون حقيقية بالضرورة، ما زالت ترغب في أن تبدو تماماً مثل تلك الشخصيات التي رأتها على شاشتها.
ولكن علاج هذه الفئات من المرضى مسألة أخرى تماماً. تذكر "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" ("أن أتش أس" NHS) البريطانية أن أي شخص يعتقد أنه ربما يجنح نحو سلوكيات خطيرة متعلقة بإنقاص الوزن لا بد من أن يزور طبيباً عاماً، الذي سيحيله بدوره إلى إخصائي في هذا المجال.
غير أن مؤسسة "بيت" نهضت بدراسة استقصائية العام الماضي، ووجدت أن 69 في المئة ممن يعانون من اضطراب الأكل رأوا أن طبيبهم العام لم يجد السبل الكفيلة بمساعدتهم.
ولكن عدم كفاءة الرعاية والدعم الصحي والنفسي تترك عواقب كارثية. في الواقع، تظهر بيانات مستقاة من "هيئة الخدمات الصحة الوطنية" في إنجلترا أنه في الفترة الزمنية الممتدة بين أبريل (نيسان) وأكتوبر (تشرين الأول) من عام 2021، شهدت المستشفيات ألفين و682 حالة دخول في صفوف الفئة العمرية
ما دون 17 سنة بسبب اضطرابات الأكل، في ارتفاع بنسبة 34 في المئة عن الفترة نفسها من 2020.
ابنة سارة البالغة من العمر 16 سنة، التي آثرت عدم ذكر اسمها، واحدة ضمن مراهقين ومراهقات كثر في إنجلترا استوجبت حالتهم نقلهم إلى المستشفى نتيجة حالة من الهوس باضطراب الأكل الشامل. كان "تيك توك" شاغلها الوحيد قبل أن تتدهور حالتها، لكنها تتلقى الآن العلاج في جناح للأمراض النفسية بعدما وجد المحتوى الضار طريقه إلى صفحتها الموجزة من الفيديوهات القصيرة. حتى اليوم، ما زالت الفتاة مدمنة على المنصة.
تقول سارة إن "تيك توك" يفاقم "صحة ابنتها العقلية والنفسية سوءاً. تعترف صغيرتي بأنها لا تقوى على عدم تصفح التطبيق. عند الضغط على زر الإعجاب لمقطع "تيك توك" واحد ترسل لها خوارزمية المنصة المزيد من الفيديوهات القصيرة المشابهة. لا تود أن تبدي إعجابها بالمستخدمين أو أن تندرج ضمن متتبعيهم، لكنها تُساق إليهم، ويعج رأسها بصوت صاخب يحثها على فعل ذلك".
صادقت ابنة سارة أشخاصاً آخرين من طريق "تيك توك"، يتلقى اثنان منهم العلاج الآن في جناح الطب النفسي معها.
وجه نشطاء وخبراء دعوات إلى "تيك توك" يحثونه فيها على بذل جهد إضافي بغية معالجة هذه الأزمة الصحية العقلية والنفسية التي تتزايد. تعتقد الدكتورة إزابيل جيرارد، المحاضرة في قسم وسائل الإعلام الرقمية والمجتمع في "جامعة شيفيلد" البريطانية، أنه غالباً ما يُلقى باللوم على الخوارزميات من دون وجه حق، لأنه لا بد من صب التركيز أكثر على المنصة نفسها لحذف المحتوى الضار.
في الحقيقة، "لا تكون الخوارزميات ضارة إلا إذا علمتها أن تكون على هذه الشاكلة"، وفق الدكتورة جيرارد. مثلاً، إذ كانت "خوارزمية تروج لأمر ما من قبيل اضطراب الأكل، فالصحيح أن هذا المحتوى لا ينبغي أن يكون موجوداً في الأساس. إذا جردت المنصة من المحتوى الذي ينتهك القواعد، فلن تكون الخوارزمية قادرة على التوصية بالمحتوى المؤذي".
وذكر "تيك توك" أنه يعمل على حذف المحتوى الذي "يروج أو يجمل اضطرابات الأكل وغيرها من سلوكيات خطيرة لفقدان الوزن"، مضيفاً، "هدفنا أن نقدم محتوى عن اضطرابات الأكل يتعاطف مع المتضررين الذين يبحثون عن دعم وجماعة مشتركة".
"نتعاون مع منظمات من قبيل "بيت" كي تساعدنا في المواظبة على إدخال تحسينات إلى سياساتنا وتعزيز آليات إنفاذها"، أضاف التطبيق.
شُخصت إصابة توم ريبير، وهو ناشط في تعزيز الصحة العقلية والنفسية وحائز جائزة في هذا المجال، بفقدان الشهية في عمر 17 سنة، وما زال في مرحلة التعافي، يعتقد أن على الحكومة البريطانية أن تتدخل للمساعدة في حماية الناس من الجانب الضار لوسائل التواصل الاجتماعي.
طرح "مشروع قانون الأمن الإلكتروني"، الذي نشر وزراء المملكة المتحدة مسودة منه الشهر الحالي، قواعد جديدة تلزم شركات وسائل التواصل الاجتماعي حماية الشباب من المحتوى المشروع إنما الضار الذي ينطوي على إيذاء للنفس واضطرابات الأكل.
ولكن يعتقد ريبير "أن على الحكومة البريطانية اللحاق بركب التكنولوجيا"، مضيفاً أن التكنولوجيا في ظنه "متقدمة على الحكومة بـ20 عاماً في ما يتصل بالقوانين، وبالخطوات التي ينبغي تنفيذها، والأمور الواجب تغييرها. في رأيي، لا بد من إدخال تغيير على النظام الحكومي".
شاطرته الرأي هوب فيرغو، مؤلفة وناشطة في مجال الصحة العقلية والنفسية، قائلة إن "علينا سن تشريع مناسب يحمي مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي".
وتضيف إنه "على الحكومة البريطانية و"تيك توك" الإجابة عن أسئلة كثيرة في ما يتعلق باضطرابات الأكل وطريقة تناولها على وسائل التواصل الاجتماعي".