بغداد اليوم – متابعة
بعد خلافات لأكثر من شهر أعلنت المفوضية الأوروبية، الثلاثاء 31 مايو (أيار)، الحزمة السادسة من العقوبات على موسكو التي تتضمن حظر واردات النفط الروسي لدول أوروبا. وبحسب رئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين فإن الحظر الذي يتم توريده بالناقلات بحراً سيبدأ على الفور في حين سيكون هناك استثناء للنفط الروسي عبر خط أنابيب "دروجبا" الذي ينقله للمجر وسلوفاكيا وجمهورية التشيك وبولندا وألمانيا. ولم تحدد المفوضية الأوروبية مدة الاستثناء.
ويعني الحظر الجديد وقف استيراد نحو ثلثي واردات أوروبا من النفط الروسي. إلا أن فون دير لاين قالت، "إنه بنهاية العام الحالي لن تصدر موسكو لأوروبا أكثر من 11 في المئة من النفط الذي كانت تصدره لها قبل فرض العقوبات". ومن غير الواضح حتى الآن إن كان حظر واردات النفط سينتهي به الأمر عملياً كما انتهى في حظر نظيره من الغاز الطبيعي، على الرغم من تأكيد المفوضية الأوروبية أن أوروبا ستقترب من إنهاء اعتمادها على واردات الطاقة من روسيا بنهاية هذا العام.
يذكر أن ذلك ما حدث أيضاً بالنسبة للغاز الطبيعي، حيث تستورد أوروبا ما يقارب نصف احتياجاتها منه (نحو 40 في المئة) من روسيا. لكن كثيراً من الدول الأوروبية ما زالت تستورد الغاز الطبيعي الروسي، بل وتدفع ثمنه بالروبل، كما اشترطت موسكو. وفتحت عشرات شركات الطاقة الأوروبية الكبرى حسابات بالروبل في "غازبروم بنك" لتسديد ثمن الغاز الطبيعي الذي تستورده منها.
زيادة عائدات روسيا
على الرغم أن روسيا تصدر لأوروبا نحو ربع احتياجاتها من النفط فقط، فإن عائدات مبيعاته أهم لموسكو من عائدات الغاز الطبيعي، لذا استبقت روسيا الإجراء الأوروبي بعقد اتفاقات بيع نفط مع شركاء آسيويين، في مقدمتهم الصين والهند، أكثر من المعتاد كي تستمر في التصدير، وعلى الرغم من أن موسكو ثالث أكبر منتج للنفط في العالم، بعد أميركا والسعودية، فإنها تستهلك قدراً كبيراً من إنتاجها محلياً، وبالتالي فصادراتها ليست كبيرة جداً لكنها توفر عائدات أكبر للخزينة الروسية.
ومع ارتفاع أسعار النفط والغاز أخيراً، تضاعفت عائدات الخزينة الروسية من صادراتهما وكذلك الفحم مع عودة العالم لتشغيل محطات توليد الكهرباء به على الرغم من أنه ملوث أكبر للبيئة، وبحسب أرقام مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف بلغت عائدات روسيا من تصدير النفط والغاز والفحم أكثر من 66.5 مليار دولار (62 مليار يورو) خلال الشهرين التاليين لبدء الحرب في أوكرانيا، أي في مارس (آذار) وأبريل (نيسان).
وشكلت الواردات الأوروبية من صادرات الطاقة الروسية القدر الأكبر من تلك الزيادة في العائدات، فخلال الشهرين الماضيين، دفعت دول أوروبا لموسكو أكثر من 47 مليار دولار (44 مليار يورو) مقابل واردات الطاقة على الرغم من تراجع كميات النفط والغاز الطبيعي التي تصدرها روسيا لأوروبا نتيجة العقوبات المتتالية.
يذكر أن قيمة صادرات روسيا من الطاقة لأوروبا العام الماضي 2021 كله بلغت نحو 150 مليار دولار (140 مليار يورو)، أي بمعدل 12 مليار في الشهر تقريباً وهو ما يساوي نصف معدل العائدات في الشهرين الماضيين. والسبب هو ارتفاع الأسعار على الرغم من تراجع الكميات، فحسب بيانات المركز، تراجعت صادرات النفط الروسية في أبريل بنسبة تقارب 30 في المئة عما كانت عليه قبل بداية الحرب في أوكرانيا، فما زالت أوروبا تدفع لروسيا يومياً ما يزيد على مليار دولار مقابل واردات الطاقة، على الرغم من حزم العقوبات الخمس السابقة، ومن غير الواضح كم ستؤثر حزمة العقوبات الجديدة التي تتضمن حظر النفط على تلك العائدات.
بدائل الطاقة من مصادر أخرى
ربما يكون حظر النفط، بخاصة الذي يتم توريده بشحنات ناقلات في البحر، ممكناً إذ تستطيع الدول التي لديها منافذ على مياه البحار استيراد شحنات نفط من مصادر أخرى. لكن هذا التعديل في جغرافية الطلب ربما يتضمن زيادة بالكلفة. وذلك أسهل من مشكلات الحصول على الغاز الطبيعي المسال من مصادر أخرى. فقد بدأت دول أوروبا التفاوض بالفعل مع قطر والجزائر ونيجيريا وغيرها لاستيراد الغاز الطبيعي منها لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي. كما اتفقت الولايات المتحدة مع المفوضية الأوروبية على زيادة صادراتها من الغاز الطبيعي المسال لدول أوروبا لتصل إلى 15 مليار متر مكعب هذا العام.
إلا أن كل هذه البدائل، مع ارتفاع كلفتها لأن سعر الغاز الطبيعي المسال أعلى من الغاز الطبيعي عبر خطوط الأنابيب، قد لا تعوض أكثر من ربع واردات أوروبا من الغاز الطبيعي الروسي. وهذا ما جعل نحو 30 شركة طاقة أوروبية تواصل شراء الغاز الطبيعي من موسكو وتدفع ثمنه بالروبل. يضاف إلى ذلك أن القارة الأوروبية ليست بها خطوط أنابيب غاز كافية تربط الجنوب بالشمال. فواردات الغاز الطبيعي من أفريقيا مثلاً ستنتهي في إسبانيا أو إيطاليا لكن توصيل كميات كبيرة إلى ألمانيا وفنلندا والدنمارك لن يكون سهلاً في ظل سعة التوصيل المتاحة حالياً. ويحتاج الأمر إلى استثمارات بالمليارات وبضع سنوات قبل تطوير شبكة خطوط أنابيب لهذا الغرض.
بالنسبة للنفط أيضاً، لا يقتصر الأمر على استثناء الدول الأوروبية التي تستورد النفط الروسي عبر خطوط الأنابيب. بل إن كثيراً من المصافي في دول أوروبا مجهزة لتعمل على الخام الروسي، وسيعني إعادة تأهيلها لتكرير نفوط أخرى، أو بناء مصافٍ جديدة، استثمارات هائلة ووقتاً طويلاً. وبالفعل طلبت الكثير من الدول الأوروبية من المفوضية خلال مناقشات الأسابيع الماضية دعما ماليا كبيرا لتتمكن من التحول من الخام الروسي إلى خامات مستوردة أخرى.
التأثير في المستهلك العادي
لا يتوقع كثير من المحللين في أسواق الطاقة أن تكفي تعاقدات روسيا مع الصين والهند وغيرها لتعويض حظر واردات النفط الأوروبية. ويعني ذلك تراجع الصادرات الروسية من النفط والغاز، وهو الهدف الرئيس للولايات المتحدة والغرب لزيادة حصار موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا.
ومن غير المتوقع، بحسب تصريحات قادة منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" والمنتجين من خارجها المتحالفين معها في "أوبك+"، أن تزيد تلك الدول من انتاجها بالقدر الذي يعوض الفاقد لعرض نتيجة انخفاض الصادرات الروسية. وفي حال زيادة الطلب العالمي، أو حتى استقراره على المعدلات الحالية، ستشهد أسعار الطاقة للمستهلك النهائي ارتفاعاً جديداً لا يمكن توقع حجمه، فسعر خام برنت تجاوز 120 دولاراً للبرميل بالفعل، وأسعار الوقود في محطات البنزين في أميركا وبريطانيا بلغت مستويات غير مسبوقة، حتى في دول منطقة اليورو، وبحسب بيانات مكتب الاحصاء الأوروبي "يورستات" الصادرة، الثلاثاء، ارتفع معدل التضخم في دول الاتحاد الأوروبي بنسبة 8.1 في المئة الشهر الماضي. ومن المتوقع أن يرتفع أكثر، ربما ليصل إلى رقمين قبل نهاية العام.
ولأن ارتفاع أسعار الطاقة يؤثر في كافة القطاعات الأخرى، فمن المتوقع استمرار الارتفاع الهائل في كلفة المعيشة للأسر في الدول الغربية، فارتفاع أسعار الطاقة يعني زيادة كلفة الانتاج والتوزيع لكافة السلع والخدمات تقريباً، ويعني ذلك استمرار ارتفاع معدلات التضخم على الرغم من سياسات التشديد النقدي التي تتبعها البنوك المركزية بزيادة سعر الفائدة. ومع ارتفاع التضخم تتآكل القيمة الحقيقية لدخل الأسر ما يضغط على قدرتها على الإنفاق الاستهلاكي، ولأن الإنفاق الاستهلاكي يمثل القدر الأكبر من نمو الناتج المحلي الإجمالي في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى، فاحتمالات الركود الاقتصادي تتزايد.
وإذا كان المستهلكون الروس بدأوا بالفعل يشعرون بتأثير العقوبات، إلا أن الحكومة الروسية ما زالت لديها مساحة للتدخل لتخفيف ذلك العبء. فبحسب أحدث بيانات بنك روسيا المركزي، التي تغطي الفترة من شهر يناير إلى شهر أبريل (أي تتضمن الأسابيع الأولى من الحرب والعقوبات)، قفز فائض الحساب الجاري لروسيا إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 96 مليار دولار، أي بزيادة بما يقرب من أربعة أضعاف عن الفترة نفسها من العام الماضي، وبلغ الرصيد الإجمالي الروسي للسلع والخدمات 106 مليارات دولار، أي نحو ثلاثة أضعاف العام الماضي. ويتوقع أن يصل فائض الحساب الجاري الروسي إلى 250 مليار دولار.
أما في دول الاقتصاد الحر والمفتوح، فإن المستهلك العادي يتحمل في النهاية تبعات ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وبقية السلع والخدمات، ومع تشديد العقوبات على روسيا، بخاصة بقرار الحزمة السادسة من العقوبات الأوروبية التي تتضمن حظر واردات النفط الروسي لأوروبا، يتوقع أن تستمر أسعار السلع الأساسية في الارتفاع بدول الغرب والعالم.