بغداد اليوم _ متابعة
يعرف كثير من القراء نصائح المنظر السياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي (1469-1527) المشهور بكتابه "الأمير" الذي ألفه عام 1513 بعد عزله من منصب مستشار حكومة فلورنسا، لكن هل توجد مخطوطة لكتابات المؤلف الإيطالي؟ وهل له أعمال غير منشورة لم يعثر عليها؟
وقد قال مكيافيلي عن كتابه -الذي نشر بعد وفاته- إنه "يفيد من يفهمه"، ولخص فيه كل الصفات التي يجب على الأمير والحاكم التحلي بها، مؤكدا على نصيحته الأشهر "الغاية تبرر الوسيلة" التي وجهها إلى الحكام، لمساعدتهم على التمسك بالسلطة بكل وسيلة ممكنة.
وتدور في أوساط المهتمين بالأدب الإيطالي تساؤلات بشأن إمكانية إيجاد كتابات بخط مؤلفيها، فهل يمكن العثور على أي عمل مكتوب بخط يد الشاعر الشهير دانتي أليغييري، أو على توقيع في أسفل إحدى الأوراق بقلمه؟
وفي سؤاله عن المكان الذي يمكن فيه البحث عن أي شيء مكتوب بخط يد دانتي، قال كبير علماء الكتابات القديمة الإيطاليين إيمانويل كاساماسيما -وهو المدير السابق للمكتبة الوطنية المركزية في فلورنسا- إن الإجابة تكمن في مجموعة مخطوطات العصور الوسطى التي تحتفظ بها المكتبة.
وعلى الرغم من أن المخطوطة التي يريد الجميع العثور عليها لم تظهر بعد فإن العلماء يستمرون في البحث ولا يفقدون الأمل.
اكتشاف بالصدفة
في تقريره الذي نشرته صحيفة "كوريري ديلا سيرا" الإيطالية، قال الكاتب باولو دي ستيفانو إن الاكتشافات المثيرة في هذا المجال غالبا ما تكون بالصدفة أكثر من كونها نتيجة الإصرار المستمر، لكن الصدف لا تعني عدم بذل الجهد، وهذا ما حدث في حالة الاكتشاف الجديد لعمل غير منشور لمكيافيلي، وهو ليس عملا مكتوبا بخط يده، بل إنه نص غير معروف حتى الآن تم اكتشافه أثناء القيام بمهام الفهرسة "المملة".
عاد الكاتب بالزمن إلى الوراء، وتحديدا إلى حياة جوليانو دي ريتشي (1543-1606) حفيد مكيافيلي.
يُذكر أنه تم تكليف جوليانو -وهو شخصية سياسية ثانوية في حاشية ميديشي- وابن عمه نيكولو بمهمة "ترتيب" أوراق الجد.
وفي هذا الصدد، جمع جوليانو عددا كبيرا من النصوص الأدبية لمكيافيلي والوثائق الأخرى الموروثة من وصية الأسرة التي نسخها حفيده نفسه في مجلد.
ويعد هذا المجلد المعروف باسم "أبوغرافو ريتشي" جزءا من مجموعة بلاتين التابعة لمكتبة فلورنسا الوطنية.
وذكر الكاتب أن فهرسة ما تسمى مجموعة بلاتين -التي تضم 1500 مخطوطة- لم تتم بالكامل، وقبل عام واحد فقط وبفضل مبادرة من رئيس قسم المخطوطات والكتب النادرة دافيد سبيرانزي تم إطلاق مشروع "مانوس أونلاين" بهدف إعداد قائمة جرد كاملة، وكان من الطبيعي أن يشرف على العمل خليفة كاساماسيما الحالي لوكا بللينجري مدير مكتبة فلورنسا الوطنية التي تأسست عام 1861.
وعلى عكس المتوقع، تم توكيل هذه المهمة إلى عالم الكتابات القديمة دانييل كونتي، وقد أدى ذلك بالفعل إلى اكتشاف مخطوطة مكتوبة بخط اليد من قبل المؤرخ ورجل الدولة الإيطالي الشهير فرانشيسكو غويتشارديني -وهو صديق وناقد لنيكولو مكيافيلي- تحتوي على نص غير منشور حول مسائل عسكرية.
اكتشاف جديد
الاكتشاف العظيم الحقيقي جاء قبل بضعة أسابيع، عندما صادف كونتي مخطوطة لم يتم الرجوع إليها من قبل والتي كانت تشبه في نواح كثيرة "أبوغرافو ريتشي"، كانت مخطوطة مركبة جمعها جوليانو بنفسه في النصف الثاني من القرن الـ16، وتم تسجيلها بإيجاز باسم "كرونيكا".
تتكون المخطوطة من 3 أقسام، أهمها وأكثرها إثارة للدهشة هو القسم الثاني الذي يحتوي على 100 ورقة مقسمة إلى مجلدين، مع العديد من الأجزاء التاريخية غير المعروفة تماما حتى الآن والتي تعود إلى مكيافيلي نفسه وإن لم تكن مكتوبة بخط يده وإنما بواسطة النسّاخ تحت إشراف حفيده جوليانو.
وثقت هذه الأعمال المكتوبة عاما بعد عام عمل المستشار الثاني لجمهورية فلورنسا، وهو منصب شغله مكيافيلي بين 1498 و1512، ومع ذلك، لا يمكن إسناد تاريخ نهائي للنص الأصلي.
وفي الحقيقة، توثق السجلات والملاحظات -تقريبا في شكل مذكرات- الأحداث التي وقعت على مدى فترة طويلة من الزمن (1497-1515)، مثل روايات عن لحظات حاسمة في تاريخ إيطاليا والصراعات الأوروبية، بما في ذلك الاشتباكات بين الفرنسيين والإنجليز، ووصف لمعركة مارينيانو 1515 بين الجيش الفرنسي لفرانسيس الأول والسويسريين.
مصادر إلهام مكيافيلي
يشير كونتي إلى أن طبيعة هذه المواد من شأنها أن تساعد في إعطاء فكرة أوضح عن كيفية عمل مكيافيلي واستخدام مذكراته لفهم القضايا المعاصرة لتصوراته "السياسية".
وتكمل هذه الكتابات الأجزاء التاريخية التي جمعها حفيده في مجلد "أبوغرافو"، والتي ذكر فيها جوليانو أنه نسخ "مذكرات مأخوذة من أوراق أو دفاتر كتبها مكيافيلي بخط يده".
وعلى غرار معظم مذكرات مكيافيلي المنسوخة في "أبوغرافو"، اختفت النسخة الأصلية من المخطوطة التي أعيد اكتشافها.
ونسبت هذه المخطوطات إلى مكيافيلي من خلال أدلة متنوعة لا لبس فيها ذات طبيعة قديمة وفلسفية وتاريخية، والتي سيقدمها كونتي في الطبعة النقدية التي ستنشرها مدرسة ثانوية جامعية مقرها في بيزا (Scuola Normale di Pisa) في سلسلة "الافتتاح".
أدلة المخطوط
أولا، تم التثبت من أن هذه المخطوطات من تأليف مكيافيلي من خلال التعليقات التوضيحية لجوليانو دي ريتشي نفسه الذي كتب على الصفحة الأولى من غلاف المجلدين اسم "نيكولو مكيافيلي"، وكتب النص بخط يده مثلما اعتاد أن يفعل عندما نسخ توقيع جده.
وفي الحقيقة، لم تكن تدوينات جوليانو موثوقة دائما، ولا سيما أن جده كان يكتب بخط متصل وغير رسمي، مما يجعل من الصعب فهمه.
وأكد بنفسه أنه يواجه العديد من الصعوبات بقوله "لقد وجدت أن النسخة الأصلية مجزأة، وغير كاملة، وفي حالة رثة للغاية".
ثانيا، يشير تاريخ المخطوطة إلى أنها تعود لمكيافيلي، لقد تم الاحتفاظ بها في منزل جوليانو دون انقطاع حتى القرن الـ19، جنبا إلى جنب مع أوراق مكيافيلي والوثائق الأخرى التي انتهى بها الأمر في مكتبة بالاتين.
وتظهر طريقة التجليد التي تعود إلى القرن الـ19 أوجه التشابه مع المجلدات الأخرى التي تحتوي على نصوص تنسب إلى مكيافيلي دون أدنى شك.
ثالثا، هناك سمة في المحتوى مثيرة للاهتمام بشكل خاص، حيث اقتطفت بداية النص من جزء تاريخي معروف بالفعل منذ القرن الـ19 كان من تأليف مكيافيلي.
ووردت هذه الافتتاحية في مخطوطة محفوظة بمكتبة الفاتيكان وأعدها حفيد مكيافيلي الآخر الذي يدعى كانون نيكولو دي برناردو.
وفي تلك المخطوطة بقي النص منقوصا بعد صفحة واحدة، فيما يستمر في المخطوطة التي أعيد اكتشافها الآن في مجموعة بلاتين بمكتبة فلورنسا.
رابعا، هناك "تفصيل" آخر يشير إلى أن العمل يعود إلى مكيافيلي، فمن أجل إعداد المخطوطة وظف جوليانو دي ريتشي 3 نساخ يمكن تمييز خط يد كل واحد منهم بوضوح، ووفقا لتحليل كونتي، يتطابق خط يد أحدهم مع الأجزاء التاريخية التي تعود لمكيافيلي المعروفة بالفعل في مجلد "أبوغرافو ريتشي".
خامسا: وقد تكون هذه أهم نقطة، يوفر النص أحكاما واعتبارات تعكس فكر مكيافيلي، وتتوافق مع الأفكار المعبر عنها في المقاطع المعروفة من أعماله، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك قصة وفاة سيزار بورجيا التي تستحضر الفصل السابع الشهير من كتاب "الأمير" الذي يتحدث عن إخماد مسيرة من يسمى "الدوق فالنتينو".
صحيح أن جزءا من النصوص الجديدة التي تخضع للدراسة يتطابق مع تلك الموجودة في عملين يتسمان ببنية مماثلة لنصوص بياجيو بويناتشورسي الذي كان صديقا مقربا لمكيافيلي، ومع ذلك أشار كونتي إلى أن دراسة مقارنة مفصلة "تسلط الضوء على الاختلافات في الأسلوب والفكر بين المؤلفين، فقد كان بويناتشورسي مملا ومقتضبا في أسلوبه، مقارنة بأسلوب مكيافيلي الذي يعد حماسيا للغاية".