بغداد اليوم – بغداد
منذ عام 2014، حين ظهرت أول مسودة لقانون الأحوال الشخصية الجعفري، برز سؤال جوهري في النقاش العراقي: هل يستند إلى الدولة المدنية التي أرسى ملامحها قانون 1959، أم إلى المرجعيات المذهبية التي تسعى إلى إعادة تعريف علاقة المواطن بالمؤسسة الدينية؟
وبعد أكثر من عقد من التعثر، عاد المشروع بصيغته المعدلة عام 2025، ليكرّس لأول مرة مسارين تشريعيين متوازيين في الزواج والطلاق والميراث والحضانة: الأول مدني موحد، والثاني مذهبي اختياري، لكنه مفتوح على احتمالات الانقسام الاجتماعي والقانوني.
انتقال تشريعي من المواطنة إلى المذهب
يتيح القانون المعدّل للأزواج اختيار المرجعية القانونية التي تحكم علاقتهم الأسرية بين قانون الأحوال الشخصية لعام 1959 والمدونة الجعفرية الجديدة. وبحسب ما وثّقته منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها الأخير، فإن هذا التحول "يُرسخ التمييز ضد النساء ويمنح الرجال سلطة شبه مطلقة في الطلاق والحضانة والميراث".
تقول الباحثة في شؤون العراق سارة صنبر إن المدونة "تحطّ من شأن النساء قانونياً، وتسلبهنّ حق تقرير مصيرهنّ وتمنح الرجال اليد العليا"، مؤكدة أن "المدونة الجديدة تُعيد العراق إلى ما قبل فكرة المواطنة القانونية".
تؤكد قراءات قانونية عراقية أن المدونة تنقل مركز الثقل من مبدأ المساواة أمام القانون إلى مبدأ الانتماء الديني، في خرقٍ واضح للمادة (14) من الدستور العراقي التي تضمن الحق في المساواة، وللمادة (88) التي تكفل استقلال القضاء عن المرجعيات الدينية.
وقال قاضٍ في بغداد للمنظمة إن المدونة "تجعل القضاء تابعاً للمرجعية، لا للدولة"، مضيفًا أن أحكامها "تمنح الحقوق على أساس الدين لا على أساس المواطنة، وتنتزع من النساء مكاسب قانونية تحققت منذ أكثر من نصف قرن".
بين الرفض الحقوقي والنفي السياسي
في المقابل، تداول الصحفي حسام الحاج أرقامًا مقلقة قال إنها تعبّر عن أثر القانون خلال الأسابيع الأولى من تطبيقه: أكثر من أربعة آلاف حالة حضانة نُزعت من الأمهات، ومئات النساء نزحن إلى إقليم كردستان لحماية أطفالهن. ورغم أن هذه الأرقام لم تصدر عن جهة رسمية، إلا أن انتشارها الواسع يكشف، وفق محللين اجتماعيين، عن اتساع فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع، وعن غياب آليات شفافة لرصد أثر التشريعات الجديدة على الواقع الأسري.
النائب أمير المعموري نفى الأنباء المتداولة عن "نزوح نساء مع أطفالهن من بعض المحافظات إلى إقليم كردستان خشية تطبيق القانون الجعفري"، مؤكدًا أن هذه الأخبار "عارية عن الصحة ولا تستند إلى مصادر رسمية أو بيانات موثقة".
وقال المعموري لـ"بغداد اليوم": "تداول مثل هذه الشائعات يهدف إلى إثارة الرأي العام وزعزعة الثقة بين المواطنين والمؤسسات التشريعية". وبحسب تقديرات قانونية، فإن هذا النفي يعكس محاولة سياسية للحد من تصاعد المخاوف المجتمعية، لكنه لا يلغي واقع الانقسام بين مؤيدي القانون باعتباره “خياراً مذهبياً مشروعاً”، ومعارضيه الذين يرونه “تقنيناً لتمييز طائفي يهدد وحدة القضاء”.
وجه إنساني لقانون مثير للجدل
تُجسد قصة غزل ح.، التي نشرتها هيومن رايتس ووتش، واحدة من أبرز نتائج التطبيق المثير للجدل للمدونة الجعفرية. فبعد عشر سنوات على طلاقها، فوجئت غزل بدعوى قضائية رفعها زوجها السابق لتطبيق المدونة بأثرٍ رجعي على عقد زواجهما، بهدف سحب حضانة طفلها البالغ عشر سنوات.
تقول غزل: "من غير المقبول أن يتزوج شخص بموجب قانون يحمي حقوق النساء، ثم بعد عشر سنوات يتلاعب بالقانون لسلب تلك الحقوق". تشير هذه الحادثة إلى ثغرة قانونية كبيرة تتيح لأي طرف – غالبًا الرجل – إعادة تأويل العلاقة الزوجية السابقة وفق أحكام جديدة، ما يفتح الباب أمام سلسلة نزاعات قضائية تعصف باستقرار العائلات.
بحسب خبراء قانونيين، فإن هذه الثغرات لم تكن ممكنة في ظل قانون 1959 الذي وضع أسسًا موحدة للطلاق والحضانة والميراث لجميع العراقيين. أما المدونة الجعفرية، فقد ألغت هذا التوحيد، وسمحت بتعدد المرجعيات، ما يعني أن العدالة ذاتها لم تعد متساوية أمام الجميع.
تذهب تحليلات دستورية إلى أن تمرير المدونة لا يمثل مجرد تعديل قانوني، بل تحولًا في فلسفة الدولة العراقية. فبعد أن كان الدستور ينص على "المواطنة" كأساس للحقوق والواجبات، عاد الخطاب التشريعي ليستند إلى "الهوية المذهبية"، ما يهدد – بحسب خبراء في الفقه الدستوري – بتقسيم النظام القضائي إلى دوائر مذهبية متوازية. تؤكد مداولات قانونية في مجلس القضاء الأعلى أن هذا الاتجاه "يهدد وحدة النظام القانوني ويضعف حياد الدولة"، بينما ترى منظمات نسوية أن ما يجري هو "انسحاب من مفهوم الدولة الحديثة إلى فكرة الدولة الطائفية".
تشير قراءات اجتماعية إلى أن العراق، الذي عانى لعقود من الانقسامات السياسية والمذهبية، قد يجد نفسه أمام انقسامٍ قانوني جديد أشد خطرًا، لأنه يمس البنية الأسرية التي تقوم عليها الدولة. فكل اختلاف قانوني في الحضانة أو الإرث لا يبقى داخل جدران المحاكم، بل يتسرب إلى النسيج الاجتماعي في شكل توترات وصراعات يومية.
تذهب تحليلات بحثية مستقلة إلى أن تمرير مدونة الأحوال الشخصية الجعفرية يمثل بداية مرحلة جديدة من “تطييف القانون”، لا مجرد “تنويع تشريعي”.
فبين نفي الحكومة لوجود آثار اجتماعية كبيرة، وتحذيرات المنظمات الدولية من انتهاك مبادئ المساواة، يقف العراق أمام اختبارٍ جوهري:
هل تبقى الدولة هي الحَكَم الأعلى الذي يوحّد مواطنيها تحت قانون واحد؟
أم تُترك العلاقات الأسرية لتُدار وفق مرجعيات متباينة تحكمها المذاهب لا الدستور؟
إن الإجابة، كما يرى مختصون في القانون الدستوري والاجتماع السياسي، لا تتعلق فقط بمصير الأسرة العراقية، بل بمستقبل الدولة نفسها. فإذا كان القانون هو مرآة الدولة، فإن تعدد القوانين وفق الانتماء المذهبي سيجعل تلك المرآة مشروخة — تعكس مجتمعًا منقسمًا، لا دولة متماسكة.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم- بغداد استقبل رئيس مجلس الوزراء، محمد شياع السوداني، اليوم الأربعاء، (15 تشرين الأول 2025)، عدداً من شيوخ العشائر ووجهاء قضاء المدائن جنوب شرق العاصمة بغداد. وأكد السوداني خلال اللقاء بحسب بيان لمكتبه، تلقته "بغداد اليوم"،