بغداد اليوم – بغداد
منذ أول انتخابات عقدها العراق بعد انتهاء الاحتلال الأمريكي في 2003، بدأ سريان مفهوم غير مسار التجربة السياسية بأكملها: الانتقال المباشر إلى الانتخابات من دون المرور بمرحلة انتقالية تؤسس مؤسسات فاعلة، وترسخ العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة. يرى الباحث محمد علي الحكيم أن هذا القرار يُشكّل أخطر الأخطاء التي ارتكبت في البلاد منذ عام 2003، وأنه لا يزال يرخي بظلاله على بنية النظام السياسي الحالي.
بحسب قراءات تاريخية ومقارنات مع دول مرت بمراحل انتقالية مثل دول أوروبا الشرقية أو بعض دول شرق آسيا، فإن التحول المباشر إلى الانتخابات غالبًا ما يؤدي إلى احتكار السلطة من قِبل قوى تظهر أولًا بمشروعية انتخابية، لكنها تفتقر إلى قاعدة مؤسسية مستقرة. تفيد الدراسات القانونية المقارنة بأن الانتقال يجب أن يوفر بيئة تمكينية: دستور مؤقت، مؤسسات أمنية مستقلة، محاكم مستقلة، إعادة هيكلة الإدارة، إعداد مجتمع مدني، ومقومات ثقافية جديدة للتنافس الحر. الحكيم في تصريحه لـ"بغداد اليوم" يقول إن "أكبر خطأ ارتكب … هو الذهاب مباشرة نحو إجراء انتخابات عامة دون المرور بمرحلة انتقالية تمتد لعدة سنوات تعنى بإعادة بناء مؤسسات الدولة وإصلاح الواقع العراقي على مختلف الأصعدة".
إن قسماً من نقد الحكيم ينصب على أن غياب المرحلة الانتقالية أتاح مساحات فاعلة للقوى الحزبية والطائفية للاستحواذ على السلطة مبكرًا، مستغلة ضعفَ الوعي السياسي للمواطن الذي خرج لتوه من سنوات القمع والهيمنة الحزبية. يقول الحكيم إن "قلة وعي المواطن العراقي سياسياً آنذاك … جعلت الانتخابات الأولى بعد عام 2003 أداة بيد القوى الحزبية والطائفية التي استثمرت المشاعر والهويات الفرعية لتعزيز نفوذها". هذه الملاحظة تأخذ معنى أكبر إذا نظرنا إلى الانتخابات التي تبعتها منذ 2005، حيث الصناديق سرعان ما تحوّلت إلى واجهة للتنافس الطائفي والمحاصصة، لا منصة لتداول السلطة الحيادية. تُظهر الدراسات الميدانية أن الكثير من الناخبين في الأحياء الفقيرة والأرياف لم يكن لديهم القدرة على التمييز بين البرامج الحقيقية والوعود الانتخابية، ما سهّل استثمار الولاءات العشائرية والطائفية.
يرى الحكيم أن الخطأ الأكبر الذي ارتُكب في العراق بعد عام 2003 لم يكن سياسيًا فحسب، بل كان تأسيسيًا بنيويًا، لأن البلاد لم تمرّ بما يُعرف في أدبيات التحول الديمقراطي بـ"المرحلة الانتقالية"، وهي المرحلة التي تسبق الانتخابات وتُعنى بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وتثبيت مبدأ الحوكمة، وترسيخ قواعد المشاركة السياسية.
فالعراق، بحسب تصريحه، ذهب مباشرة نحو صناديق الاقتراع قبل أن يؤسّس لبنية دولة قادرة على استيعاب نتائج تلك الانتخابات، مما جعل الاقتراع المبكر أقرب إلى مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب. وفي ضوء ذلك، تفسّر القراءات الأكاديمية الحديثة أن المرحلة الانتقالية لم تكن مجرد فترة زمنية مؤجلة، بل كانت الشرط الموضوعي لبناء الدولة الحديثة. إذ إن غيابها جعل النظام السياسي يتشكل على قاعدة هشّة، قوامها التوازنات الطائفية بدل المؤسسات الدستورية.
فما كان ينبغي للعراق أن يدخل الانتخابات الأولى قبل أن يُعيد صياغة نظامه الدستوري المؤقت ويضمن استقلال سلطاته الثلاث ويؤسس بيئة سياسية خالية من تأثير الاحتلال والانقسام. وفي هذا السياق، تؤكد المقاربات الفكرية أن العراق كان يحتاج إلى فترة انتقالية تمتد لثماني سنوات على الأقل، يجري خلالها إصلاح شامل للبنية الإدارية والاقتصادية والتعليمية، وصياغة دستور توافقي يسبق العملية الانتخابية لا أن يُنتج عنها.
إن جوهر ما يقصده الحكيم حين يقول إن “قلة وعي المواطن العراقي سياسياً آنذاك جعلت الانتخابات الأولى بعد عام 2003 أداة بيد القوى الحزبية والطائفية”، هو أن التحول الديمقراطي لا يبدأ بالصناديق بل بتهيئة المجتمع لتلك الصناديق. فالمواطن الذي خرج من عقود من العزلة السياسية لم يكن مستعدًا لخوض تجربة انتخابية نزيهة ومتكافئة، ما جعل القوى المنظمة والأكثر تمويلاً تهيمن على العملية منذ لحظاتها الأولى. تُظهر التجارب المقارنة في بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية أن غياب التهيئة السياسية يقود إلى نفس النتيجة: ديمقراطية شكلية تُدار من النخب القديمة بأدوات جديدة.
ويضيف التحليل المؤسسي أن هذا الخلل البنيوي ما زال قائمًا حتى اليوم، لأن العراق لم يُراجع تجربته الانتخابية الأولى ولم يُعدّ "مرحلة تصحيح انتقالية" بديلة، تُعيد ضبط العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالإصلاح في هذه الحالة لا يمكن أن يكون تجميليًا أو آنياً، بل يحتاج إلى مراجعة شاملة لبنية النظام السياسي الذي نشأ بعد 2003: إصلاح دستوري يعيد توزيع السلطات ويضمن استقلال القضاء، تمكين المواطن عبر الوعي والتعليم السياسي، وبناء منظومة رقابية صارمة على التمويل الانتخابي تضع حدًا لهيمنة المال الفاسد على إرادة الناخبين.
بهذا المعنى، يصبح رأي الحكيم دعوة لتصحيح التاريخ السياسي العراقي، لا لمجرد انتقاد الماضي. فالمشكلة لم تكن في نتائج الانتخابات الأولى بقدر ما كانت في الاستعجال في إجرائها، وفي الاعتقاد أن الديمقراطية تُبنى بالتوقيت لا بالتدرّج. ولذلك، فإن أي حديث عن إصلاح سياسي اليوم لا يمكن أن يكون ذا معنى إن لم يبدأ من الاعتراف بأن المسار الديمقراطي العراقي انطلق من أرضية لم تكن جاهزة بعد، وأن الدولة لم تمر بمرحلتها الضرورية للنضج المؤسسي والاجتماعي، بحسب مراقبين.
المصدر: قسم الرصد والمتابعة في "بغداد اليوم"
بغداد اليوم- متابعة أعلن ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، اليوم الأربعاء (15 تشرين الأول 2025)، إطلاق مشروع "بوابة الملك سلمان" بوصفه وجهة متعددة الاستخدامات في مكة المكرمة. وتمتد "بوابة الملك سلمان" على إجمالي