بغداد اليوم – بغداد
تواجه الدولة العراقية في عام 2025 واحدة من اعقد ازماتها السيادية ذات الطبيعة القانونية والسياسية والامنية معًا، عنوانها فقدان السيطرة على القرار المائي الداخلي امام تعقيدات المنبع في تركيا وايران، وتآكل فعالية ادوات التفاوض الملزمة، وتضارب صلاحيات المؤسسات المعنية بتوزيع المياه وادارتها. المشهد العام يعكس فجوة بين النصوص الدستورية التي تكرس حماية الثروات الطبيعية بوصفها ملكًا عامًا للجمهور وتلزم السلطات بصيانتها، وبين الواقع التنفيذي الذي اتجه أخيرا إلى إجراءات داخلية تمس حياة الناس مباشرة بدل معالجة أسباب الازمة عند المصدر. وفق تقديرات سياسية اقتصادية متقاطعة، تحولت قضية المياه إلى ملف امن قومي معاش يتعلق بالصحة العامة والامن الغذائي وسلامة السكن الحضري والريفي معًا، في ظل تراجع مطرد لمناسيب دجلة والفرات وارتفاع ملوحة الشبكات في مدن الجنوب وعلى رأسها البصرة. تؤكد تحليلات قانونية معمقة ان اي سياسة داخلية تقلل الضخ من دون سند تفاوضي إقليمي ملزم لا تعد حلًا، بل تثبيتًا لعجز مؤسسي ينعكس مباشرة على حق دستوري اصيل في الحصول على الماء الصالح للاستخدام الإنساني.
تبدأ القراءة من الخلفية القانونية والتنظيمية لوزارة الموارد المائية بوصفها الجهة المخولة بضبط اطلاقات السدود الداخلية وتنسيق الحصص مع وزارة البلديات وامانات المحافظات، ثم تنتقل إلى مسار القرار التنفيذي الأخير الذي اتخذ شكل تقنين للضخ باتجاه الاحياء السكنية. في هذا السياق يؤكد عضو لجنة الزراعة والمياه النيابية النائب ثائر الجبوري في حديث لـ "بغداد اليوم" ان "وزارة الموارد المائية طالبت وزارة البلديات بتقليل ضخ المياه من المحطات المركزية إلى الأحياء والازقة السكنية، بهدف الحد من الاستهلاك في ظل صعوبة تأمين المياه الخام في مناطق واسعة". بعد هذا التصريح المباشر تتضح المقدمة التنفيذية للقرار بوصفه استجابة قصيرة الاجل لضغط العجز الخام وليس برنامجًا اصلاحيا متدرجًا. تشير قراءات بحثية متخصصة إلى ان مثل هذه الخطوة تنتمي إلى سياسات ادارة الطلب لا سياسات زيادة المعروض، وهي لا تصبح مجدية إلا اذا جاءت جزءًا من حزمة متكاملة تشمل اتفاقات اطلاق مائي عابر للحدود واعادة هيكلة انماط الري المحلية وكفاءة الشبكات الحضرية.
التحليل الفني لتأثير القرار يبين انتقال الازمة من الحقل إلى الحي ومن جدول الري إلى صنبور المنزل، حيث لا يظل تقليل الاستهلاك في نطاق المزروعات بل يخفض كميات الاسالة النهائية للمواطن. يضيف الجبوري ان "هذا القرار يعكس خطورة أزمة الجفاف، التي لم تقتصر آثارها على القطاع الزراعي فحسب، بل امتدت لتشمل تأمين المياه لمحطات الإسالة المركزية، ما يوضح أن الأزمة ليست مؤقتة وقد تتفاقم في المستقبل القريب". تفيد ملاحظات اكاديمية بأن وصول الازمة إلى محطات الاسالة يعني ان العجز لم يعد قابلًا للاحتواء عبر تدوير جداول الري وتحويلات موسمية، بل اصبح مساسًا مباشرا بالسعة التصميمية لشبكات المدن وقدرتها على تغطية الاستهلاك الانساني الاساسي، الامر الذي يبدل معيار الاستجابة من ادارة موارد إلى حماية حق عام.
يفرض السياق المؤسسي ان تعقب اي خطوة تقنين داخلية برنامج تفاوضي مائي مدعوم بادوات ضغط سياسية واقتصادية وقانونية، ومصحوبًا بخطط تمويلية لتقنيات تقليل الفاقد ومعالجة الملوحة والتحلية الموضعية في المحافظات الاكثر تضررًا. يؤكد الجبوري ان "الأزمة تستدعي اتخاذ خيارات استراتيجية عاجلة، أبرزها تأمين حصة عادلة من مياه نهري دجلة والفرات، وتغيير أنماط الاستهلاك التقليدية، خصوصًا في القطاع الزراعي، وبلورة حلول تضمن مواجهة أي أزمات أشد قسوة في السنوات المقبلة، خاصة وأن كل الدراسات تشير إلى تصاعد حدة أزمة المياه في العراق". ترجح مقاربات مؤسساتية حديثة ان معيار الجدية يتمثل في تحويل هذه العناوين إلى جداول زمنية ملزمة وموازنات واضحة وقوانين تنفيذية قابلة للقياس، والا فإنها تبقى في اطار التصريحات لا السياسات.
الشق السيادي من الازمة يتمثل في ميزان قوة مختل عند المنبع، حيث مشاريع السدود والتحكم بالاطلاقات بعيدا عن اي اتفاقية ملزمة او نظام تشاركي دائم. في هذا الاطار يحذر المختص في الشأن المائي والبيئي احمد الساعدي في حديثه لـ "بغداد اليوم" من تفاقم ازمة الجفاف في العراق مع عدم تحقق العدالة المائية خلال المفاوضات مع دول المنبع. يقول الساعدي ان "يجب الحذر من تفاقم أزمة الجفاف في العراق، فالعراق يمر بمرحلة حرجة تهدد الأمن المائي والغذائي والبيئي على حد سواء، في ظل استمرار انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات وعجز العراق عن الحصول على حصته المائية العادلة رغم كل الجهود الدبلوماسية والمفاوضات المستمرة مع دول المنبع، ولا سيما تركيا". تبرز الدراسات التطبيقية ان انخفاض المناسيب إلى ما دون نصف المعدلات الطبيعية يعطل دورات الزراعة المتعاقبة ويقلص قدرة السدود على موازنة الجفاف عبر الخزن الاستراتيجي.
يمضي الساعدي موضحًا ان "انخفاض الإيرادات المائية القادمة من تركيا وإيران إلى أقل من نصف المعدلات الطبيعية خلال السنوات الأخيرة، أدى إلى جفاف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وتراجع المخزون المائي في السدود والخزانات، ما انعكس سلباً على الإنتاج الزراعي ومستوى المعيشة في المناطق الريفية". تشير بيانات رقابية إلى ان هذا النمط يفضي إلى موجات نزوح ريفي موسمية نحو المدن وارتفاع كلف سلة الغذاء وتآكل الدخول الهشة، كما يرفع الضغط على الشبكات الحضرية التي تعاني اساسًا فاقدًا عاليًا وتسربًا مزمنا. وفق تقديرات سياسية اقتصادية متقاطعة، فان كل نقطة مئوية تراجع في الاطلاقات العابرة للحدود ترفع نسب المخاطر على الامن الغذائي في محافظات الوسط والجنوب بنسب محسوسة خلال موسم واحد.
يضيف الساعدي ان "المفاوضات التي أجراها العراق خلال الفترة الماضية لم تفض إلى اتفاق ملزم يضمن حصصاً مائية عادلة وفقاً للقوانين والاتفاقيات الدولية، بسبب غياب التعاون الحقيقي من جانب دول المنبع واستمرار المشاريع الإروائية والسدود الكبرى التي تقيمها تلك الدول دون تنسيق مع العراق". تذهب التحليلات المقارنة إلى ان غياب الالزام القانوني يعني ان اي تقنين داخلي يصبح مجرد ادارة نقص لا سياسة مائية، ما لم يواكبه مسار اقليمي يستند إلى مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول وتقاسم الاضرار ومذكرات تفاهم تتحول إلى اتفاقات موقعة ونافذة بآليات فض نزاع محددة.
يقترح مسار الاصلاح ان يشتمل الداخل على كفاءة شبكية عالية وكبح فاقد الضخ واعادة هيكلة الري إلى تقنيات حديثة وتحلية موضعية سريعة في البصرة وحزامها الساحلي وتطوير مصادر بديلة على نطاق محدود. في هذا الاتجاه يؤكد الساعدي ان "العراق بحاجة إلى تحرك دبلوماسي أقوى وإطار قانوني واضح يستند إلى مبادئ العدالة المائية والتقاسم المنصف للموارد، إلى جانب تبني خطط داخلية لترشيد استهلاك المياه، وتطوير أساليب الري، وإنشاء مشاريع لتحلية المياه في المناطق الجنوبية الأكثر تضرراً". تفيد التقديرات المؤسسية بان جدوى هذه الحزمة تتوقف على التمويل المضمون وربط التنفيذ بمؤشرات اداء قابلة للقياس زمنيا وقطاعيا لضمان عدم تحولها إلى مجرد عناوين.
يختم الساعدي بان "مستقبل الأمن المائي في العراق مرهون بجدية المفاوضات الإقليمية وبقدرة الحكومة على إدارة الملف المائي بفعالية، بوصفه ملفاً سيادياً واستراتيجياً يرتبط مباشرة بحياة المواطنين واستقرار البلاد". يذهب خبراء القانون الدستوري إلى القول بان مسؤولية الدولة عن الثروات الطبيعية مسؤولية غير قابلة للتنازل، وان تحويل عبء الازمة إلى تقنين يطال الاسر مباشرة من دون مسار تفاوض ملزم يمثل انزياحًا عن منطق الحوكمة الرشيدة، لان الاداة التنفيذية تصبح هي الغاية بدل ان تكون وسيلة لحماية الحق العام.
يؤدي جمع المعطيات القانونية والمؤسسية والميدانية إلى خلاصة واضحة مفادها ان قرار تقليل الضخ يكشف عمق الازمة ولا يحلها. جوهر المشكلة يكمن في اختلال ميزان المنبع الذي يتطلب اتفاقات ملزمة قابلة للنفاذ، وفي الداخل الذي يحتاج إلى برنامج كفاءة صارم وتمويل مؤمن وادارة شبكية حديثة. استمرار سياسة نقل العبء إلى المواطنين يضعف الثقة العامة ويضاعف الكلفة الاجتماعية الاقتصادية من دون عائد مائي يذكر. الطريق المسؤول يبدأ بتثبيت حق العراق في اطلاقات عادلة عبر مسار تفاوضي ذي ادوات ضغط قانونية وسياسية وتجارية متدرجة، ويتوازى مع خطة داخلية عاجلة لخفض الفاقد ورفع كفاءة الري والتحلية الموضعية وتعديل هيكل المحاصيل. من دون ذلك ستبقى القرارات اليومية تسجيل حضور اداري في مواجهة ازمة سيادية، وستظل صنابير المدن مرآة لعجز مؤسسي يمكن تفاديه اذا عادت السياسة المائية إلى قواعدها القانونية والاقتصادية السليمة.
المصدر: بغداد اليوم+ وكالات+ دراسات
بغداد اليوم- بغداد أعلنت هيئة الحشد الشعبي، اليوم الأربعاء، (15 تشرين الأول 2025)، البراءة من ادعاءات بعض المرشحين للانتخابات النيابية الذين يروّجون وعوداً بالتعيين في صفوف الحشد أو يوزعون استمارات تزعم فتح باب التعيينات ضمن تشكيلات الهيئة. وذكرت الهيئة